أثارت تصريحات العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني لصحيفة"واشنطن بوست"الاميركية وتكرارها لصحيفة"آساهي شيمبون"اليابانية حول نية ايران لانشاء هلال شيعي يمتد منها الى العراق و سورية ولبنان، نقاشات وسجالات عديدة في وسائل اعلام المنطقة وخارجها. يضاف الى ذلك احاديث يدلي بها بين الحين والاخر، شخصيات عراقية، منها وزير الدفاع العراقي حازم الشعلان في هذا الصدد، اذ تطرق اخيراً الى ما وصفه بعداء الفرس للعرب قبل الاسلام وبعده. قبل الاسلام وبالتحديد خلال الامبراطورية الفارسية في عهد الاكاسرة الساسانيين التي كانت تضم شعوباً وقوميات مختلفة، كان الشاه او الكسرى هو رمز الهوية الفارسية. وقد تحول الدين الاسلامي بعد الفتوحات العربية وخلال الخلافة الاسلامية الى رمز لهذه الهوية. غيران انبثاق السلالة الصفوية في مطلع القرن السادس عشر ادى الى صعود نجم المذهب الشيعي ليصبح رمزاً للامبراطورية الفارسية وليميزها عن العالم الاسلامي السني بغالبيته وخصوصاً عن عدوها الامبراطورية العثمانية. وقد احتلت هذه الامبراطورية، مكان الامبراطورية البيزنطية التي كانت عدواً لدوداً للامبراطورية الفارسية قبل الاسلام وخاضت حروباً دامية معها لعقود عدة. وبولوج العلاقات الراسمالية والحداثة الآتية من الغرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انبثقت نهضة فكرية واجتماعية حديثة في البلاد. وحاول المنورون الفرس والمتأثرين بتيارات القومية الاوروبية العاتية، التنظير لانشاء امة او ما يوصف ب"الامة - الدولة"لتخلف الامبراطورية الفارسية التي اصابها العجز والشلل في نهاية عهد السلالة القاجارية. وقد تولى الشاه رضا البهلوي تدشين هذه"الامة الدولة"التي وصفها بالامة الايرانية او دولة ايران بدلاً من الامة الفارسية او الدولة الفارسية. والسبب في هذه التسمية الجديدة التي اصبحت رسمية دولياً منذ الثلاثينات من القرن المنصرم، هو انبثاق الوعي القومي ليس لدى الفرس فحسب بل لدى شعوب وقوميات غير فارسية اخرى كالاتراك الاذريين والاكراد والعرب والتركمان والبلوش. وتتكون الهوية الايرانية الفارسية الحديثة من ركنين اساسيين هما: اللغة الفارسية و المذهب الشيعي. وكان الخطاب الايراني في عهد الشاه رضا البهلوي ونجله الشاه محمد رضا البهلوي وخلال اكثر من خسة عقود 1925- 1979 يرتكز الى هذين المكونين مع ترجيح للغة الفارسية وثقافة قبل الاسلام وما يوصف بالعرق الآري. وهذا ما يوضح لنا تقارب الشاه رضا البهلوي لالمان الهتلرية، غدراً بالبريطانيين الذين اتوا به الى السلطة في العام 1925. كما يوضح لنا ابتعاد الشاه السابق الذي اطاحت به الثورة الاسلامية عام 1979 من العرب وتحقيره لهم وتسمية نفسه ب"آريامهر"او الشفقة الآرية. ويؤكد المفكرون القوميون الفرس في عهد الشاه وفي العهد الجمهوري ايضاً على ضرورة الاتجاه الى الشرق الفارسي او ما يصفونه ب"دائرة الحضارة الايرانية"وهي تضم برأيهم افغانستان وطاجيكستان واقسام من آسيا الوسطى. ويطالب هذا التيار القومي الفارسي - الذي اخذ يؤثر على شرائح من الاصلاحيين - يطالب السلطة الاسلامية بالابتعاد عن العالم العربي، بشيعته و سنته، والتوجه الى الغرب الاري. بل يجهر الملكيون والقوميون الفرس المتشددون بضرورة التحالف مع اسرائيل لاسباب تاريخية منها تحرير الملك سيروس كورش الاخميني، اليهود عقب سبيهم الى بابل في القرن السادس قبل الميلاد وزواج نجل الملك داريوش الاخميني من استر اليهودية وتقرب شقيقها موردخاي للملوك الاخمينيين. اما خطاب الثورة الاسلامية فكان يؤكد في معارضته لحكم الشاه على الاممية الاسلامية وهذا ما دفع بالقوميات غير الفارسية كافة التي كانت تعاني من الاضطهاد القومي الفارسي، الى ان تقف الى جانب قيادة الثورة. وفي اعقاب الثورة الاسلامية ركز الخطاب الجديد على العنصر الشيعي ووضع اللغة والثقافة الفارسيتين في الاولوية الثانية، بل عارض الداعين للثقافة الفارسية قبل الاسلام. غير ان الحرب العراقية - الايرانية وما تبعها من تعزيز للشعورالقومي"الفارسي"الناجم عن انحسار الايديولوجية الدينية زادا من اهتمام السلطة الاسلامية باللغة والثقافة الفارسيتين. لكن على رغم كل ذلك لا تزال الشريحة القوية الميهمنة على السلطة ترجح العنصرالمذهبي الشيعي على العنصر اللغوي. ولا ننسى ان هذا الخطاب - المرجح للعنصر الشيعي- قد تم تدشينه في مطلع الثورة وفي عهد زعيمها الراحل آية الله الخميني وقد تم لاسباب ثورية ومذهبية وعقلية امبراطورية مترسخة في اللاوعي التاريخي للايرانيين. واقول امبراطورية لأن دولة كايران التي شهدت عهود امبراطورية واسعة في عهد الاخمينيين والساسانيين قبل الاسلام وفي عهد الصفويين بعد الاسلام تشعر بضرورة التمدد ثقافياً وسياسياً في كل فترة تحول. ولم نرى مثيلاً ومنافساً لها في منطقتنا الا الامبراطورية المصرية قديماً وعقليتها الموروثة معاصراً. واذكر القارئ بتدخلات حكومة عبدالناصر القومية - الثورية في اليمن ودعمها لحركات التحرر في مناطق اخرى من العالمين العربي والاسلامي. وفي تاريخنا المعاصر يعود العداء بين عبدالناصر والشاه وبين اية الله الخميني والقيادة المصرية الحالية الى هذا التنافس السياسي والثقافي والمذهبي والتاريخي. وقد اعادت الثورة الاسلامية - ذات المحتوى الشيعي- في ايران الثقة لابناء الطائفة الشيعية المقموعة في اوطانها من العراق الى لبنان ومن السعودية الى سورية. وردا على اعتداء صدام حسين على الاراضي الايرانية في العام 1980، احتضنت ايران خلال نحو ربع قرن الفصائل الشيعية المعارضة للحكم العراقي البائد وعززت علاقاتها معها لأسباب مذهبية"كما انشأت علاقات مع الفصائل الكردية لاسباب عرقية وان كانت اضعف من الاولى. فهناك حنين وعاطفة مذهبية عميقة لدى الجماهير الايرانية تجاه ائمة الشيعة وخاصة الامام علي بن ابي طالب والامام الحسين واخيه العباس لا تقتصر على نظام من دون الاخر. كما توجد نوستالجيا قومية تاريخية لدى النخبة القومية تجاه العراق حيث لا تزال تعتبره جزءاً من الامبراطورية الفارسية. وقد سمعت مراراً هذا الكلام من المثقفين القوميين وقرأت في الصحف الفارسية دعوات تنادي بصيانة ايران ل"طاق كسرى"التاريخي باعتباره قصراً بناه الاكاسرة واثراً تاريخياً يذكرالايرانيين بالمدائن عاصمة الساسانيين قبل الاسلام. ولا يبدو ان القوميين الشيعة العراقيين يثقون بالخطاب الشيعي الفارسي في ايران، كما ان القوميين الفرس لا يثقون بالخطاب الشيعي العربي في العراق. وقد شاهدنا هذا في احاديث وزير الدفاع العراقي حازم الشعلان وهو شيعي عراقي وكذلك نسمعه هنا في ايران من زعماء الجبهة الوطنية جبهة ملي المحسوبة على التيار القومي الفارسي. وقد ازال الاحتلال الاميركي للعراق واسقاط نظام صدام حسين في نيسان ابريل 2003 اعتى اعداء ايران"اذ كان العراق معقلاً للخطاب القومي العربي المتشدد ومأوى للمعارضة الايرانية. وامتداداً لهذا التقليد التاريخي اتخذ رجال الدين الايرانيون المؤيدون للثورة الدستورية في اوائل القرن المنصرم من العراق مقراً لنضالهم ضد الحكم الاستبدادي للسلالة القاجارية. ناهيك عن حضور المعارضة الايرانية في عهد الشاه حيث كانت تضم اليساريين والشيوعيين والاسلاميين ومنهم اية الله الخميني الذي استقر 15 عاماً في مدينة النجف حتى تمكن من اسقاط نظام الشاه في العام 1979. وبعيد قيام الثورة بعامين، اشتد الخلاف بين السلطة الاسلامية الوليدة وقيادة منظمة"مجاهدي خلق"حيث ادى ذلك الى هروب اعضاء المنظمة الى العراق لتتخذ منه مقراً لكفاحها المسلح ضد السلطة الاسلامية في ايران. وقد اثارت الحرب العراقية _ الايرانية المدمرة، والتي استمرت ثماني سنوات 80-1988، الاحاسيس القومية لدى شرائح واسعة من الايرانيين. وخاض صدام حسين الحرب تحت شعارات قومية شوفينية بحتة مثل الحرب ضد الفرس المجوس وما شابه ذلك، فيما كانت شعارات السلطة الايرانية اسلامية بحتة مثل الحرب بين الكفر والاسلام... الخ. كما اثبتت تلك الحرب الدامية بين العراقوايران ان حافز حب الوطن كان هو الذي دفع الشيعة في العراق الى ان يشاركوا في الحرب ويدافعوا عن وطنهم، والحافز نفسه دفع الشيعة العرب في منطقة الاهواز الى ان يذودوا عن حياض الوطن"هذا اذا استثنينا بعض الحالات الشاذة التي تثبت القاعدة. ويعتقد المراقبون ان ما تقوم به ايران - ذات الغالبية الشيعية - في العراقولبنان وسورية هو شعور غريزي للدفاع عن النفس وله دافعين: الاول تاريخي والثاني جغرافي. فالحافز الاول ينم عما وصفناه بالعقلية الامبراطورية، والثاني الاحساس بالخطر من المحيط الجغرافي السني - غيرالفارسي بغالبيته، يضاف اليه الخطر الاسرائيلي والحضور الاميركي المكثف في اطرافها. فاذا قارنا بين ما يجري في منطقتنا وما يحدث في اوروبا نرى ان الخطاب القومي للشعوب الاوروبية استنفد طاقاته في حروب القرن التاسع عشر والحربين العالميين الاولى والثانية، اذ وصلت اوروبا حالياً الى مرحلة الاعتدال والاتحاد بدل الشرذمة والحروب. لكن، في ظروف بلدان المنطقة، وعلى وجه الخصوص في ايرانوالعراق، يمكن ان نقول ان الخطاب القومي العربي في العراق اصيب بالضعف، ان لم نقل استنفد، بعد سقوط صدام حسين وهذا ما أخذ يحدث للخطاب الاسلامي في ايران وبدرجة اقل"غيران الخطاب القومي الفارسي لم يستنفد بعد كل طاقاته وهذا ما يهدد ليس المنطقة فحسب بل الوضع الداخلي الايراني المتكون - علاوة على العنصر الفارسي - من قوميات غير فارسية تشكل اكثر من نصف سكان البلاد. ويبدو اننا، ومن اجل استنفاد طاقات القوى السياسية المتشددة، ولبلوغ حد التوازن والتعايش في داخل كل دولة وبين دول المنطقة، يمكن ان نشهد فترة اخرى من الحزازات ولربما الحروب او شبه الحروب. غيران الاستقرار الدائم يحتاج الى العقلانية واستخدام التجارب التاريخية والمعاصرة. فنحن كمسلمين مررنا بتجربة تاريخية مهمة واعني بذلك الامبراطورية الاسلامية في فترة ازدهارها عندما كان يسافر الرحالة ناصر خسرو البلخي والشاعر سعدي الشيرازي من بلاد فارس الى اسيا الصغرى ومن ثم الى الشام ومصر والحجاز والعراق، وكذلك عندما كان المتنبي وابن بطوطة وابن جبير يجوبون بلاد الفرس من دون ان تكون هناك حدود سياسية ومن دون ان يطلب منهم احد جوازاً او تأشيرة. وها نحن في القرن الواحد والعشرين، علينا ان نأخذ الاعتبار المستجدات الدولية الحديثة كتجربة الاتحاد الاوروبي والتأثير الغربي والاميركي على مجريات الاحداث في المنطقة ونخطط لانشاء نوع من الاتحاد او الكونفيديرالية بين دول المنطقة بدءاً بايرانوالعراق لتشمل دول اخرى قريبة لغوياً ودينيا ومذهبياً. غير ان هذه الفكرة التي تبدو بعيدة المنال يمكن تطبيقها في المستقبل اذا تم استنفاد الاصولية الدينية والقومية وحلحلة مشاكل القوميات والمذاهب في الدولتين و ذلك بإقامة حكم فيديرالي ديموقراطي ينصف القوميات والمذاهب والاديان والاحزاب في كل من ايرانوالعراق. فلربما تلتحق بهذا الاتحاد، دول اخرى كافغانستان وسورية ولبنان ودول الخليج، وهذا ليس ضرباً من الخيال بل يستند - كما ذكرت - الى خلفية تاريخية اسلامية وتجربة انسانية معاصرة نشهدها في اوروبا ونسمع عن نشأتها حديثاً في اميركا اللاتينية. * كاتب ايراني.