مثلما استقبل اللبنانيون العام 2006 بتداعيات عملية اغتيال حصلت نهاية العام 2005 واستهدفت النائب الشهيد الزميل جبران تويني في 12 -12 -2005، يستقبلون العام 2007 بتداعيات اغتيال الوزير والنائب الشهيد بيار الجميل في 21 -11 -2006، عشية عيد الاستقلال، مع مخاوف من ان تشهد السنة المقبلة المزيد. كما ينتظر أن تشهد المزيد من التداعيات الكامنة، على الصعيد الداخلي، للعدوان الاسرائيلي الأكثر إيلاماً الذي شهده منتصف العام بعد أن خلف اضراراً بحجم كارثة من جهة، وبعدما كانت نتائجه فشلاً ذريعاً لهدف اسرائيل في القضاء على"حزب الله". لكنه عدوان أدخل لبنان في عين العاصفة الاقليمية في شكل يؤثر على تركيبته الداخلية. الاغتيالات باتت السمة التي جمعت بين السنتين اللتين انقضيتا، مع توقعات بألا تختلف السنة التي يستقبلون. لكن العام 2006، حبل بالأحداث، بين اغتيالين. انقلب الوضع السياسي رأساً على عقب وتوالدت الازمات التي تهز الاستقرار السياسي وتحول دون رسم طريق التعافي الاقتصادي. بدأ العام 2006 بأزمة اعتكاف الوزراء الشيعة الخمسة عن حضور جلسات حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وتضامن معهم رئيس الجمهورية اميل لحود بعد احتجاج حركة"أمل"وپ"حزب الله"على استعجال طلب إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في مجلس الأمن في مجلس الوزراء، لكن العودة عن الاعتكاف حصلت بعد 7 أسابيع على موضوع آخر إثر إقرار السنيورة في جلسة نيابية بطلب من"حزب الله"ان يعلن ان المقاومة ليست ميليشيا، فابتدع صيغة"اننا لم ولن نسمي المقاومة إلا باسمها". وكان في خلفية الخلاف انفكاك التحالف الرباعي بين الحزب والحركة وپ"تيار المستقبل"بزعامة النائب سعد الحريري وپ"اللقاء النيابي الديموقراطي"بزعامة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، فتحول خصومة متصاعدة خصوصاً بين جنبلاط والأمين العام لپ"حزب الله"السيد حسن نصر الله، انتهى العام 2006 على تبادل للاتهامات لم يسبق له مثيل بين الجانبين، باتهام جنبلاط الحزب بأنه شريك في بعض الاغتيالات، وباتهام الحزب للأخير بأنه بات جزءاً من السياسة الاميركية في لبنان والمنطقة. واستعاض نصر الله عن التحالف الرباعي بالتحالف مع"التيار الوطني الحر"بزعامة العماد ميشال عون في 7-2-2006 فيما تواصلت العلاقة بين الحريري ونصر الله على رغم اهتزازها بعد تراجع الأول عن اتفاق عقد في الرياض لمعالجة مشكلة الاعتكاف، فواصل الزعيمان اجتماعات ماراثونية، كان هاجسها الرئيس احتواء التناقضات المذهبية الكامنة، وتخللها خلاف حاد إثر دعوة الحزب وعون الى تظاهرة ضد السياسة الاقتصادية للحكومة في شهر أيار مايو، ما اعتبره الحريري"تخريباً"، بموازاة تهيؤ الحكومة لمناقشة برنامجها الاقتصادي الذي كان يفترض ان تقدمه لمؤتمر باريس -3 لمساعدة لبنان على معالجة دينه العام وهو المؤتمر الذي تأجل منذ بداية السنة مرات عدة بفعل التأزم السياسي وتأخر التوافق الداخلي الذي تشترطه الدول المانحة على برنامج الاصلاحات، الى 25 - 1 - 2007 وسط أسئلة عما اذا كان سيعقد أم لا في ظل الأزمة الحالية. لكن العلاقة بين الحريري ونصر الله تدهورت مع بداية العدوان الاسرائيلي في 12 تموز يوليو بعد خطف"حزب الله"جنديين اسرائيليين لمبادلتهما بالأسرى اللبنانيين وبعض الأسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية. واعتبر الحريري ان الخطف مغامرة، وكذلك رآه مصدر سعودي مسؤول. وما زالت العلاقات في حال من القطيعة بين"المستقبل"والحزب. وبدأ العام 2006 بخلاف بين قادة الأكثرية قوى 14 آذار وبين قيادة المملكة العربية السعودية، بعد مسعى من الاخيرة لتخفيف التوتر في ادارة الازمة بين السلطة اللبنانيةودمشق، بسبب استمرار الاتهامات المتبادلة، من خلال ورقة اقتراحات تقدم بها الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارة له الى الرياض في 8 -1 - 2006 نصت على الآتي: "حرصاً على العلاقات التاريخية الأخوية بين البلدين الشقيقين سورية ولبنان، وبهدف تحسين المناخ العام لهذه العلاقات وتقوية عراها، تم الاتفاق على النقاط الآتية: - وضع أسس للتعاون الأمني بين البلدين لتلافي وقوع أية أحداث يمكن ان تنعكس سلباً على العلاقات بينهما، وتمس الأمن والاستقرار في البلدين. - وقف الحملات الاعلامية في وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في البلدين. - وقف التصريحات الاستفزازية التي تصدر عن المسؤولين والسياسيين في كلا البلدين. - تفعيل الاتفاقات الموقعة بين البلدين، مع إمكانية اعادة النظر في بعضها. - ترسيم الحدود وتبادل التمثيل الديبلوماسي وفق صيغ يتفق عليها بين البلدين. - التنسيق بين وزارتي الخارجية في البلدين في السياسة الخارجية لا سيما في كل ما من شأنه ان يدعم مواقف البلدين إزاء عملية السلام وتحرير الأراضي السورية واللبنانيةالمحتلة وفق قرارات الشرعية الدولية وبخاصة القرارين 242 و425 ومبادرة السلام العربية. - يجتمع رئيسا الوزراء في البلدين لوضع الآليات المناسبة لوضع هذه البنود موضع التنفيذ". ودعت القيادة السعودية قوى 14 آذار الى دراسة الورقة والرد عليها، لكن هؤلاء لم يلتقطوا اهتمام الرياض، ومعها مصر، بالسعي الى اختبار جهودها للتخفيف من التصاق دمشق بالسياسة الايرانية، انطلاقاً من لبنان، ولأهداف تتعدى ساحته الى الساحتين العراقيةوالفلسطينية، فرفض قادة الأكثرية الورقة السورية برمتها، ما أزعج الجانب السعودي، خصوصاً ان رفضها اقترن برفض أميركي وفرنسي ايضاً. لكن السنة أقفلت على موقف معاكس تماماً: تراجع في العلاقة السورية - السعودية والسورية - المصرية، خصوصاً بعد خطاب الأسد الذي وصف بعض القادة العرب بأنصاف الرجال، بعد يومين على توقف العدوان الاسرائيلي على لبنان، ودعم كبير من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للسنيورة وحكومته في وجه هجوم المعارضة اللبنانية التي وسعت أطر تعاونها وتحالفها من أجل تغيير موازين الشراكة في السلطة مع الأكثرية، في مواجهة تبدو عواملها الاقليمية راجحة على مكوناتها الداخلية بدليل اشتراط دمشق تواصلاً سعودياً معها من أجل ان تلعب دوراً في حمل حلفائها للتعاون مع جهود الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، المدعومة من الرياضوالقاهرة وسائر العواصم العربية والدولية من أجل ايجاد مخرج للأزمة السياسية المتفاقمة في لبنان مع نهاية العام. واتصلت بداية العام مع نهايته، لجهة الازمة الداخلية وخلفياتها وأبعادها الاقليمية بكم هائل من الاحداث المتسارعة والوازنة، أبرزها عقد مؤتمر الحوار الوطني على ايقاع السجال الداخلي، والحوار بين لبنان والمجتمع الدولي حول تطبيق القرار 1559، والعلاقة مع سورية والتحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسلاح الميليشيات ومنها الفلسطينية، اضافة الى سلاح"حزب الله"... ورافق ذلك المزيد من التصعيد المتبادل: العماد عون انتقل الى المطالبة باستقالة الحكومة والهجوم على السنيورة، والأكثرية استنهضت جمهورها في تظاهرة ضخمة في الذكرى الأولى لاغتيال الحريري في 14 شباط فبراير، على وقع استمرار الضغط الدولي لتنفيذ القرار 1559 وتوافق دولي على قطع الاتصالات مع دمشق، فيما استمرت القاهرة في لعب دور معها في الشأنين الفلسطينيواللبنانيوالعراقي، مع اتصالات خجولة بينها وبين الرياض. وسعت الأكثرية الى استخدام تظاهرة 14 شباط كرافعة لمطلبها إسقاط الرئيس لحود ولوحت باللجوء الى الشارع، فهددت المعارضة وخصوصاً عون و"حزب الله"بالنزول اليه دفاعاً عن رئيس الجمهورية واعترض البطريرك الماروني نصرالله صفير على الإطاحة به في الشارع واضطرت قوى 14 آذار الى التراجع عن المطلب. فأدى السجال وتشعبه وسط توتر سياسي عال، الى عقد مؤتمر الحوار الوطني بين الاطراف بدعوة من رئيس البرلمان نبيه بري، في 2 آذار مارس فأنجز اتفاقاً بالإجماع في 14 آذار على 4 نقاط: المحكمة الدولية لمحاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الحريري، وتوسيع التحقيق في الجرائم الاخرى، تقنين العلاقة مع سورية بإقامة علاقات ديبلوماسية وتحديد الحدود، إزالة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وضبطه داخلها في مهلة 6 اشهر مع تحسين أوضاع اللاجئين الاجتماعية، والسعي لدى سورية لتحديد الحدود في منطقة مزارع شبعا المحتلة لتأكيد لبنانيتها أمام مجلس الأمن. الا ان أياً من هذه القرارات لم ينفذ. وفي موضوع رئاسة الجمهورية، اتفق الفريقان على وجود أزمة حكم من دون الاتفاق على تغيير في الرئاسة، فيما بقي موضوع سلاح المقاومة معلقاً حتى إشعار آخر. ثم جاءت حرب تموز بكل مفاعيلها فوضعت الأمر على الرف، خصوصاً ان القرار الدولي الذي أوقفها ترك مسألة السلاح الى التوافق الداخلي بين اللبنانيين. وبين بداية السنة والعدوان الاسرائيلي سعى كل فريق، الاكثرية الحاكمة والمعارضة الى تحصين مواقعه الداخلية والخارجية. وجال السنيورة والحريري وجنبلاط على عواصم العالم وقابل الأولان الرئيس الأميركي جورج بوش. وصدر القرار الدولي الرقم 1680 الذي يلزم سورية في بعض فقراته بتنفيذ قرارات الحوار اللبناني، أو يشجعها عليها. وسعت الحكومة الى تسريع قراراتها الاقتصادية والأمنية والمفاوضات مع الأممالمتحدة للاتفاق على معاهدة قيام المحكمة ذات الطابع الدولي، وسعيها لتأمين انسحاب اسرائيل من مزارع شبعا، فيما واصل المحقق الدولي القاضي سيرج براميرتز عمله بتكتم شديد واستمع الى مسؤولين سوريين عسكريين ومدنيين بينهم الرئيس الأسد. أما المعارضة فقد سرعت خطى تجميع عناصرها فتشكل"اللقاء الوطني اللبناني"الذي يضم شخصيات معارضة وحليفة لدمشق أبرزها الرئيس السابق عمر كرامي والوزير السابق سليمان فرنجية، ودعا الى إسقاط حكومة السنيورة. وتلاقت الأحزاب الداعمة للسياسة السورية في اطار دائم. وكانت أشهر السنة المنقضية شهدت انشغالاً دولياً استثنائياً بالملف النووي الايراني الذي أبدت فيه طهران تشدداً واضحاً من جهة والعثرات الاميركية في العراق تتضاعف بعد انتخابات حصد فيها حلفاء إيران النسبة الأكبر من المقاعد بين التشكيلات المختلفة، وكانت حركة"حماس"التي تحظى بدعم ايران وسورية قد اندفعت بعد توليها الحكومة الى مواجهة مفتوحة مع اسرائيل بدا فيها الرئيس الفلسطيني محمود عباس عالقاً بين مطرقة اسرائيل وسندان الخلافات الفلسطينية الداخلية، التي تصاعدت بفعل التباين على معالجة قضية خطف الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليت وكثف المسؤولون الايرانيون زياراتهم الى بيروتودمشق. ودخلت اسرائيل على الخط حين اغتالت شبكة تابعة لها كُشفت لاحقاً من استخبارات الجيش قياديين في"حركة الجهاد الاسلامي في فلسطين"في مدينة صيدا الجنوبية. ومع أن العدوان الاسرائيلي فتح باباً للتضامن الداخلي بين اللبنانيين، بفعل توافقهم على طريقة ادارة المفاوضات مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة عبر التنسيق المتواصل بين السنيورة وبري، بتأييد من نصر الله، وبسبب الاحتضان الشعبي للنازحين في المناطق اللبنانية كلها، فإن نهاية الحرب شهدت ارتداداً تدريجياً من نصر الله نحو الداخل لتغيير الحكومة، بعد ان كان أعرب عن رضاه عن أدائها في رسائله المتلفزة إبان الحرب. وإذ سبقه بعض قادة الأكثرية الى إعلان انتصاره في المواجهة مع اسرائيل فإن نصر الله الذي اعتمد القاعدة القائلة إن أي فشل للعدو هو نصر لنا ربح تأييداً عربياً وشعبية هائلين لصمود حزبه في وجه الآلة العسكرية الاسرائيلية، سرعان ما استخدمها في اللعبة السياسية الداخلية بعد اعلان الأسد ان الاكثرية الحاكمة في لبنان"منتج اسرائيلي"وتبشيره بقرب سقوطها، وبعد اعلان الدوائر القريبة من القرار في طهران ان لا بد من تغيير في السلطة في لبنان. أنتجت المواجهة السياسية التي يكون مضى على تصاعدها مع اقفال العام 2006 شهر بكامله في الشارع، وسط بيروت توتراً مذهبياً سنياً - شيعياً غير مسبوق في البلد الذي يتأثر بمحيطه الاقليمي، زاده الالتباس الحاصل حول موضوع الخلاف: هل هو صيغة المحكمة ذات الطابع الدولي التي اقرتها حكومة السنيورة بعد يومين من استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة ومعهم وزير محسوب على رئيس الجمهورية، المحسوب بدوره على القيادة السورية؟ أم ان المشكلة في توسيع الحكومة بحيث ينفذ مطلب المعارضة للحصول على الثلث زائد واحد الثلث المعطل أو الضامن والذي يتيح لها موقع التحكم بقرارات الحكومة؟ الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى سعى مع الموفد السوداني مصطفى عثمان اسماعيل لإيجاد مخارج للموضوع الحكومي، قبل أن ينهي الجولة الثانية من المباحثات حول ورقة أعدها لإخراج الأزمة اللبنانية من الشارع. وفي انتظار عودته برزت اقتراحات بتعديلات على مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي يبدو أن على التوافق في شأنها يتوقف المخرج. والا فإن العام 2007 سيشهد تصاعداً في الأزمة.