خلافاً للماضي التَّناحري التَّصادمي الذي يلقي بظلاله الثَّقيلة على العلاقة بين البلدين الجارين"العدوَّين"، شهدت العلاقات التّركية - الإيرانية تنامياً ملحوظاً، خاصَّةً عقب تسلم حزب العدالة والتَّنمية بزعامة رجب طيب أردوغان للسُّلطة في تركيا، والحرب"الأنكلوأميركية"على العراق. وبالنَّظر إلى تاريخ العلاقة الآنفة الذِّكر، نجد بأنَّ الخط البياني لها كان متعرِّجاً، مر بمحطات ثلاث، هي: صدام، في العهد"الصَّفوي - العثماني"، ثمَّ خصام، في العهد"الشَّاهينشاهي - الأتاتوركي"، ثمَّ وئام، في عهد"النَّجادي - الأردوغاني". وقد كان محور الصِّراع بين هاتين الدَّولتين يرتكز على محاولة بسط النُّفوذ والسَّيطرة على المنطقة، بالاعتماد على الموقع الجيواستراتيجي لكل منهما، وثقلهما الطَّائفي الدِّيني"الشِّيعي، السُّنِّي". وبدأت كفَّة تركيا ترجح لجهة استقطاب دعم الغرب عموماً والأميركيين خصوصاً، بعد صعود"الملالي"الى الحكم في إيران، بقيادة الخميني، في نهاية السَّبعينات، وزوال حكم الشَّاه الذي كان مخفراً منافساً للمخفر التَّركي الذي كان الغرب يتَّخذه في مواجهة المدِّ الشِّيوعي، إبان وجود الحلف الشَّرقي الأحمر. لعل أهم نقاط الأجندة السِّياسية لتحالف"الأعداء السابقين"هذا، هو مواجهة تنامي الحضور والثِّقل الكردي في صوغ حاضر ومستقبل العراق أولاً، ومواجهة تصاعد وتيرة حضور حزب العمال الكردستاني في كردستان إيران، الذي بات يشكِّل حراكاً جماهيرياً تنظيمياً خطراً، خاصَّة عقب تحوُّل هذا الحراك، ليتبلور على شكل حزب سياسي أوجلاني التوجُّه، هو"حزب الحياة الحرَّة الكردستاني". وبدأ هذا الأخير بتشكيل وحدات عسكرية مسلَّحة، واجهت الجيش الإيراني، وكبَّدته خسائر فادحة في الأرواح والعتاد في الآونة الأخيرة. بالإضافة إلى تصاعد وتيرة العمليات العسكرية التي يشنُّها حزب العمال على القوات التُّركية، قبل إعلانه وقف إطلاق نار جديد من طرف واحد، تلبية لبعض النداءات الكردية والتركية في تركيا، ونداءات كردية إقليمية وأوروبية وحتى أميركية، حيث أعلن الحزب المذكور عن وقف عملياته العسكرية في 1/10/2006، على خلفية نداء وجهه أوجلان لحزبه من معتقله في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة. مجمل هذه التَّطورات، أجبرت"العدوَّين"التَّاريخيين، على وضع خلافاتهما التَّاريخية جانباً، والتَّوجُّه نحو مجابهة العدو المشترك، المتمثِّل ب"الخطر الكردي"المتنامي على طرفي الحدود. وهذا ما يفسِّر الحشود العسكرية التُّركية - الإيرانية على الحدود العراقية، بغية وضع مقاتلي حزب العمال بين فكِّي كمَّاشة، وإرسال رسالة شديدة اللهجة لأكراد العراق. وهذه الحشود مازالت مرابطة، بانتظار الضُّوء الأخضر الأميركي. وقد لا يأتي هذا الضُّوء، خاصة، بعد إدراك الإدارة الأميركية فشل وعقم الحل العسكري في مكافحة حزب العمال الكردستاني، فاتجهت لاحتوائه بطرق أخرى. وهذا ما أدركته تركيا من خلال عدم السماح لها بعبور الحدود لملاحقة الحزب الكردستاني، فباتت تتجه لتليين خطابها مع أكراد العراق، نوعاً ما، حين صرَّح أردوغان لجريدة"الحياة"أخيراً، عن عدم قلقه من الفيديرالية في العراق، وعدم وجود أسباب تمنع تركيا من عدم قبولها بمثل هذا الخيار، لكن من دون أن ينسى إرسال تحذير شديد لأكراد العراق من خطورة التوجُّه نحو الاستقلال حين قال:"في حال وقعت كركوك ضحية للعبة، من أجل تغيير بنيتها الديموغرافية، من أجل إعطائها للأكراد، فإن ذلك سيتسبب في إحداث جروح خطيرة في العراق تصعب مداواتها". أمَّا الأجندة الخفيَّة للتَّحالف التركي - الإيراني، فلكلِّ طرف مآربه ورسائله التي يودُّ إرسالها لجهات معيَّنة. إيرانياً، الهدف من هذا التَّحالف، هو الإبقاء على قناة اتصال حيويَّة مع الأميركيين، عبر تركيا، واتخاذ الأخيرة جسر عبور نحو الغرب الأوروبي. وتالياً، تغدو تركيا عقدة اتصال أميركيَّة - أوروبيَّة، وربما إسرائيليَّة لإيران، ما من شأنه كسر طوق العزلة الذي تفرضه أميركا على إيران، وتعيدها لواجهة التَّوازنات الإقليميَّة والعالميَّة، وبخاصة، بعد اشتداد هذا الطوق على إيران، على خلفية تفاعل المخاوف من ملفها النووي إقليمياً ودولياً. وهذا ما أشار إليه أردوغان في حديثه ل"الحياة"حين قال:"ما زلت أعلق الآمال على حل هذه المشكلة عبر الطرق الديبلوماسية، كما أننا مستعدون تماماً لبذل كل الجهود الممكنة بغية التوصل إلى حل من هذا النوع". أما تركيا، فلعل أهم ما تنطوي عليه الأجندة الخفيَّة لتحالفها مع إيران هو استفزاز وابتزاز الغرب الأوروبي، بأنه في حال وجود أيَّة ممانعة أو رفض للمسعى التُّركي، لجهة الانضمام للنَّادي الأوروبي، فان ذلك سيعيد تركيا إلى ماضيها الإسلامي، ومن شأن هذا، تغذية الأصوليَّة والتَّطرف المجاور لأوروبا. كما تنطوي هذه الأجندة على استفزاز وابتزاز للأميركيين، وإفهامهم بضرورة الاستجابة للمطالب التُّركيَّة، لجهة لجم الطُّموح الكردي العراقي في إقامة دولة مستقلة عاصمتها كركوك، وإتاحة المجال للآلة العسكرية التركية لملاحقة حزب العمال الكردستاني في العراق. ولكي تعزِّز تركيا ابتزازها للإدارة الأميركيَّة، قامت بتحسين علاقاتها مع سورية بالتَّوازي مع إيران، في محاولة لتنبيه الأميركيين الى خطورة تجاهل الضُّغوطات التُّركية المهددة بالدُّخول في الخندق السُّوري - الإيراني. قد تكون لهذا التَّحالف أرضيَّة صلبة، متمثِّلة في المعاداة المشتركة للطُّموحات الكرديَّة لدى الطَّرفين، لكن ثمَّة قضايا وإشكالات جمَّة، تجعل هذا التَّحالف تحالفاً هشَّاً، خصوصاً، أنَّ المزاج والاتجاه العام لمراكز القوى التقليدية في تركيا، بالإضافة للنُّخب السِّياسية والثَّقافية فيها، هو مزاج علماني الهوى، يحاول تطويق المد الإسلامي في الدولة الأتاتوركية. وتعتبر مسألة السَّعي الماراتوني لتركيا نحو الاتحاد الأوروبي، ونيل العضوية التَّامَّة في هذا النادي، بمثابة مسألة" أكون أو لا أكون"لتركيا. وعليه، فقضية تحسُّن العلاقات مع سورية وإيران قد لا تندرج، إلا في ما سبق ذكره، إضافة إلى التَّحسُّب للاحتمال الأسوأ في التَّاريخ المعاصر لتركيا، والمتمثِّل بالرَّفض الأوروبي للحلم التُّركي. وبالتَّالي، يكون لتركيا خط رجعة نحو الوراء، يعيدها لتوثيق وترتيب مستقبلها إسلامياً وشرق أوسطياً. بمعنى،"أن لا تبقى تركيا محرومة من دخول المسجد، في حال تمَّ حرمانها من دخول الكنيسة"، حسب المثل الكردي الشَّائع. * كاتب كردي