تتجسد أهمية وصول حزب العدالة والتنمية التركي الى الحكم في أنقرة، في نقطتين أساسيتين: الأولى، أن هذا التحول العميق أطبق على منظومة فاسدة ومهترئة من الساسة لم تكتمل صورهم إلا في أطر الوحدانية والتشدد الآيديولوجي والعزلة السياسية النافرة. والثانية أنها شرعت في التمهيد لظهور منظومة سياسية جديدة يبدو أنها لا تحوي في ثناياها سوى القليل من الخشية، ولا تتردد في فرز نفسها عن الماضي والتطلع الى المستقبل والتحرر، على رغم جذورها الدينية ونشأتها الأولية في بيئة حزبي الرفاه والفضيلة المنحلين. هاتان الميزتان اللتان أتى بهما حزب العدالة الى فسحة السياسة التركية، قد تكفيان لإحتفاظ رئيس الحزب رجب طيب أردوغان ونائبه رئيس الحكومة الحالية عبدالله غول بمكانة مميزة في التاريخ السياسي التركي المعاصر حتى في حال إخفاقهما في إدخال تغييرات جذرية إضافية على الداخل المحتقن والخارج الإقليمي والأوروبي والدولي المتوتر. لكن مع هذا، يصح ان نترقب من الساسة الجدد في أنقرة تشكيل تفاصيل صورة مستقبلية مغايرة عما عهدناه من لون واحد، قديم، أتاتوركي. يصح ذلك لأن أردوغان وغول، اللذين يتحدران عن حركة اسلامية تميزت بإعتدالها وتنويريتها وأفقها الإنفتاحي المتجدد، يتمتعان بجرأة سياسية واضحة في التعامل بحيوية وابداع مع منظومة الدول الغربية، بأوروباها وولاياتها المتحدة. واللافت أن كبار العلمانيين الأتراك الذين بنوا خصوصيتهم على الإقتداء بالنموذج الغربي، من أمثال رئيس الوزراء السابق بولنت أجاويد ورئيس الجمهورية السابق سليمان ديميريل، ظلوا في ممارساتهم اليومية والسياسية يعيشون تناقضاً عميقاً في هذا الموضوع. إذ تطلعوا على الدوام الى واشنطن ولندن وبقية العواصم الغربية وتغنوا بالتحالف الوطيد معها، لكنهم في واقع الحال ظلوا مكبلين بشكوكية غير قليلة حيال الغرب وما يبطنه من سياسات، بل مؤامرات لتفتيت تركيا وتفضيل مصالح اليونانيين والقبارصة المسيحيين على مصالح دولة مسلمة. لقد اتكأوا على الاقتصاد وحاولوا ربط عجلتهم الإقتصادية بعجلة أوروبا. لكنهم لم يترددوا في تهشيم كل منتوج إيطالي في شوارع أنقرة واسطنبول احتجاجاً على قرار روما توفير ملجأ موقت لزعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان، المعتقل منذ نهاية 1999. ثم وفّروا ملاذاً قانونياً لطائرات أميركية وبريطانية مهمتها حماية أكراد العراق. لكنهم ظلوا يرددون في الخفاء والعلن أن واشنطن تخطط لتشكيل دولة كردية في شمال العراق. وحين أقنعتهم الولاياتالمتحدة بخطأ هذه الأوهام ولا واقعيتها، وافقوها على ذلك، لكنهم بدأوا يغمزون من قناة "الوشيجة القومية" بين أكرادهم وأكراد العراق، منطلقين من نغمة قومية بائدة مفادها أن أبناء القوم الواحد قد يختلفون في الظاهر، لكنهم في الباطن يظلون "أخوة" يعتقدون أن عدوهم واحد مهما إختلفت الوانه. أما طروحات الساسة الجدد، زعماء حزب العدالة والتنمية، فإنها تشير الى منحى مختلف. يتحدثون عن الحليف الأميركي من دون نسيان ذاتيتهم الوطنية. يتعاملون مع أوروبا من دون القفز فوق حقيقة أن الشروط الأوروبية لإنضمام أنقرة الى الإتحاد الأوروبي تحمل واقعية غير قليلة. يقرون بأن مشكلتهم عويصة مع القبارصة، لكنهم يتلقون اقتراحات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بروح الحرص على دراستها وتمحيصها والتطلع الى حل سلمي من خلالها. يدركون المخاطر المحدقة بالقوس الأمني القومي التركي، لكنهم يلغون في الوقت نفسه أحكام الطوارئ ويسمحون بالبث الاذاعي والتلفزيوني الكردي. يعرفون أن المشكلات في الفضاء الإقليمي معقدة ومتداخلة وشائكة، لكنهم لا يلجأون الى عصا العسكر في التعامل معها. يعترفون بأن في الخارج مخاطر وتهديدات وقتامة في مسار الأحداث، لكنهم يعترفون في الوقت عينه بأن الخطر الأكبر يكمن في موازين الوضع الداخلي قبل كل شيء آخر. يلتزمون بهويتهم الاسلامية، لكنهم يعرفون أن المشهد التركي ملون ويضم الى جانب الهوية الاسلامية هويات قومية وعلمانية وديموقراطية ويسارية ويمينية. كل هذه الصورة الوردية هل يمكن البناء عليها والثقة بتفاصيلها في دولة معقدة البنيان مترعة بالمشكلات كتركيا؟ هل يمكن القول ان الوردية وحدها كفيلة بإنجاح تجربة حزب العدالة والتنمية؟ ماذا عن تفاصيل مواقف هذا الحزب الذي لم يستكمل حتى الآن عامه الثاني؟ من دون شك، ما يزال الوقت مبكراً للإجابة التفصيلية عن اسئلة من هذا النوع. لكن مع ذلك تصح الإشارة الى جملة تحديات وإختبارات سياسية تنتظر حزب العدالة. الحرب ضد العراق الأرجح أن واشنطن تخطط لحرب منفردة ضد العراق، لكنها حريصة في الوقت ذاته على إقامة تحالف دولي وإقليمي سياسي مؤيد للحرب أولاً، ومتوافق مع إعادة بناء العراق وفق النظرة الأميركية. لكن مع هذا، تظل مسألة إيجاد حليف أو حلفاء إقليميين على صعيد التعاون العسكري أمراً بالغ الأهمية في الاستراتيجية الحربية للولايات المتحدة. في هذا المنحى، تعطينا حرب أفغانستان نموذجاً واضحاً. ففي تلك الحرب لم تكن التحالفات العسكرية الدولية مع القوات الأميركية موضع اهتمام كبير لدى واشنطن، إنما تركز جهد واشنطن على ضمان مشاركة عسكرية رمزية من عدد من الدول، وبناء شبكة من التعاون الأمني والسياسي الدولي لملاحقة تنظيم القاعدة والتضييق عليها في كل أصقاع العالم. أما التحالف العسكري أو اللوجستي على الأرض فلم تشعر واشنطن بحاجته الا مع باكستان لأسباب جغرافية وسياسية، بل حتى دينية. الواضح أن الصورة نفسها تتكرر الآن مع تركيا في موضوع الحرب الأميركية المحتملة ضد العراق. فواشنطن قد لا تحتاج من دول العالم سوى الى الدعم السياسي في مجلس الامن وخارجه، والدعم الامني في أوروبا ومنطقة الخليج لحماية الجبهات المدنية والخلفية في حال إندلاع الحرب. لكنها بالتأكيد ستحتاج الى أرض تركيا وقواعدها الجوية وقدرتها التموينية وعمقها الاستراتيجي بالنسبة الى العراق. ستحتاج الى تركيا قدر حاجتها الى دولة قريبة منها مثل بريطانيا. بل الأهم أنها تحتاج اليها على صعد أخرى، منها التزام الهدوء وعدم التدخل العسكري في الشأن الكردي العراقي والحذر من أي توغل عسكري في العراق قد يلحق تعقيدات غير قليلة بمسارات الحرب ضد بغداد عربياً وإقليمياً ودولياً. والواقع أن الولاياتالمتحدة حرصت في وقتها على عدم طلب المساعدة العسكرية المباشرة من اسلام آباد خشية الانعكاسات الداخلية السلبية في أفغانستان وباكستان. هنا يصح التساؤل: هل يمكن للساسة الجدد في أنقرة أن يضمنوا لأميركا مساعدة عسكرية من هذا القبيل؟ الأرجح "نعم" لأن أردوغان وغول لا يعارضان ذلك ما دامت الأثمان مضمونة. والثمن الأكبر الذي يتطلع اليه الرجلان قد لا تتعلق بمساعدات إقتصادية ومالية قدر تعلقها بضمان دعم أميركي لمسيرة حزب العدالة والتنمية في مسألتين أساسيتين: الأولى، الإسهام الإيجابي في اقناع مؤسسة الجيش التركي بالإنسحاب التدريجي م الحياة السياسية. والثانية، الإسهام الإيجابي أيضاً في إقناع دول الإتحاد الأوروبي، خصوصاً ألمانيا وفرنسا واليونان، بتحديد موعد لبدء محادثات إنضمام أنقرة الى الأسرة الأوروبية. الى ذلك، يمكن إضافة ثمن آخر مفاده محاولة واشنطن اقناع اكراد العراق بالتخلي عن فكرة السيطرة على كركوك والموصل النفطيتين نظراً للحرج الداخلي السيء الذي تخلقه خطوة كهذه أمام انقرة. من دون شك، قد يصح تفسير هذه الأثمان بأنها حزبية الهدف منها توطيد مواقع حزب العدالة في السلطة، ومساعدته في إنجاح تطبيق برامجه. لكن الواضح أن أردوغان وغول يعتقدان أن المخاطر التي تواجه بلادهما في حال شن حرب أميركية ضد العراق ليست إقتصادية ومالية قدر ما هي سياسية. وهذا يفرض على الأتراك أن يستعدوا سياسياً لمواجهة تطورات مرحلتي الحرب المحتملة وما بعد الحرب. ومرد هذا الإعتقاد لدى الرجلين أن النجاح في هذه الحالة يهيئ لقطف ثمار وفوائد لا تحصى في مقدمها تعزيز موقع تركيا في الشرق الأوسط وتحويلها الى نقطة جذب كبيرة للاستثمارات الداخلية والأجنبية ولصفقات إعادة بناء العراق. الأطراف الإقليمية الأرجح أن رئيس الوزراء التركي الأسبق رئيس حزب الرفاه المنحل نجم الدين أربكان كان ضحية تطلعه الى بناء علاقات وطيدة مع كل من ايران وليبيا وسورية. لكن الحالة تغيرت منذ ذلك الوقت لا على صعيد تركيا فحسب، بل على الصعيد الإقليمي أيضاً. فإيران تعيش تجربة اصلاحية واسعة على رغم إخفاقات الرئيس محمد خاتمي في تغليب كفة الصراعات الداخلية الايرانية لمصلحته. وسورية تغيّرت بشكل ملموس منذ مجيء الرئيس بشار الأسد، على الأقل من ناحية تركيزه على تنشيط الإقتصاد السوري على أسس التقنيات الحديثة، ومحاربة الفساد والتلويح بإنفتاح داخلي ولو محدود. كذلك الحال في ليبيا التي تخلصت من عبء لوكربي، وروسيا التي دخلت في عهد الرئيس فلاديمير بوتين مرحلة نهوض إقتصادي. أما الأطراف والدول الإقليمية الأخرى فقد أنهكتها سنوات الصراع والخلافات الإقليمية ونزاعات المنطقة، ما بدأ يشجع في أروقتها السياسية على روح التطلع الى فضاء اقليمي أكثر أمناً وإستقراراً وتعاوناً وتنمية. وسط حال كهذه، يصح لأنقرة التطلع الى جو مترع بالتعاون الإقليمي والتبادل الإقتصادي والعلاقات السياسية الهادئة مع أطرافها. وما يزيد من هذه الإحتمالات، أن المشكلة القبرصية أخذت تتلمس طريق المعالجة من خلال الجهود الدولية التي تبذلها الأممالمتحدة على رغم أن الحل النهائي ما زال بعيداً بعض الشيء. هنا، يصح القول ان التركيز على الوضع الداخلي، الإقتصادي والسياسي والثقافي، يظل بالغ الأهمية بالنسبة لدولة منهكة مثل تركيا. ويصح أيضاً أن نجاح أنقرة في ترتيب بيتها الداخلي سيعكس تأثيراً ملموساً على نجاحها في تحسين الأجزاء في محيطها الإقليمي. لكن مع هذا، ينبغي عدم التقليل من أهمية حقيقة أساسية مفادها أن تبديد الاحتقان في التعامل مع الأطراف الإقليمية، سيضيف قوة نفسية وسياسية كبيرة على قدرة توفير الحلول الداخلية. بل الأرجح أن ترتيب علاقات اقليمية سلسة ومتينة وبعيدة عن تقلبات السياسة اليومية، سيهدئ من الروع الأمني الاقليمي لتركيا بكل ما يتطلبه من نفقات وأموال وإمكانات اقتصادية. وفي الوقت نفسه، سيزيد من قوة الحجة التركية بين الأوروبيين الذين يخشون، ضمن ما يخشونه، أن توفر العضوية في الاتحاد الاوروبي أمام تركيا باباً واسعة للزج بمشكلاتها الإقليمية في الوسط الأوروبي. في هذا الإطار، يمكن القول ان أنقرة الجديدة إن صح التعبير تخطئ إذا حاولت التعامل مع فضائها الإقليمي، العربي والاسلامي، إنطلاقاً من مفاهيم الموازنة مع الحالة الأوروبية. أو بتعبير أدق إذا نظرت الى العلاقات مع الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بإعتبارها بدائل أو خيارات احتياطية يمكن اللجوء اليها في حال رفضت المجموعة الأوروبية عضويتها. فالإقليم الجغرافي الممتد من دول آسيا الوسطى الى العالمين الاسلامي والعربي، يظل في الواقع الرئة الاقتصادية والسياسية الاساسية لتركيا حتى في حال إنضمت الى اوروبا. أكراد العراق لم تتضح حتى الآن الوجهة التي يمكن للساسة الأتراك الجدد أن ينتهجوها إزاء أكراد العراق الذين تمتد مناطق سيطرتهم على طول الحدود التركية العراقية. لكن الواضح أن التاريخ الحديث للعلاقات التركية الكردية - العراقية يضم عثرات وثغرات غير قليلة. وإذ يصح القاء جزء من مسؤولية هذا الإضطراب على كاهل الاكراد العراقيين الذين سلموا مقاليد تحكمهم بالعلاقات مع أنقرة الى قتالهم الداخلي الذي استمر أربع سنوات، يصح كذلك القاء الجزء الأكبر من تلك المسؤولية على العاتق التركي، خصوصاً أن المنظومة السياسية التركية القديمة ظلت تنظر بعين الريبة والشكوكية الى أكراد العراق ولم تتردد في ربط العلاقات معهم بموازين حربها مع حزب العمال الكردستاني. لكن مع هذا كلّه، يظل ضرورياً أن تنظر أنقرة في ظل حكومتها الجديدة وبعين الجدية الى حقيقة سياسية بسيطة مفادها أن أكراد العراق حصلوا منذ أكثر من عقد من الزمن على حرية طالما افتقدوها طوال خمسة قرون. والأرجح في هذا الصدد أنهم غير مستعدين للتنازل بسهولة عن هذه الحرية أو القبول بضياعها. لكنهم في المقابل غير مستعدين للتفريط بها على مذبح أي تعاون خفي غير مضمون النتائج مع بني جلدتهم المنتشرين في دول متاخمة للعراق ومنها تركيا. وفي سياق ذي صلة، لم يخف الأكراد إرتباطهم بالعراق، ليس نفسياً وعاطفياً فحسب، بل حتى سياسياً وإقتصادياً وثقافياً. كذلك لم يخفوا تطلعهم الى تحويل تجربتهم في كردستان العراق الى نموذج للعراق المستقبلي، ما يؤكد عمق إيمانهم بأن الحل الأكثر واقعية لمشكلتهم القومية في الظرف الراهن هو الحل في داخل عراق دستوري ديموقراطي برلماني موحد. ثم يصح التساؤل: لماذا الخوف؟ ألم تثبت تجربة السنوات القليلة الماضية أن كردستان العراق مصدر قوة اقتصادية لتركيا؟ ألم تصب الحياة الاقتصادية في جنوب شرقي تركيا بالأذى والركود كلما أقدمت الحكومات التركية السابقة على إغلاق الطرق الحدودية مع المناطق الكردية العراقية؟ ألم يسهم الاكراد بفاعلية في الحد من مخاطر حزب العمال ومواجهته على الصعيدين العسكري والسياسي؟ ألا يمكن لتركيا ديموقراطية خارجة من رداء كمالي عتيق من ان تتعايش بهدوء وسلاسة وتناغم مع منطقة كردية ديموقراطية وعراق ديموقراطي؟ أليس من شراكة تركية - كردية وطيدة عبر الشريك الأميركي؟ في المحصلة النهائية يصح الترجيح أن حزب العدالة والتنمية التركي خطّ بوصوله الى الحكم ملامح منهج جديد أمام تركيا لإعادة صياغة نفسها وفق تيارات التجدد والازدهار والديموقراطية. هذا على رغم أن الصعوبات كبيرة والعوائق هائلة والتحديات صعبة. لكن مع هذا يظل الأمل عظيماً في أن تنجح أنقرة في ظل ساستها الجدد في إعادة بنادقها وخوذات ضباطها الى الثكنات، لتصبح الطريق سالكة أمام "الديموقراطية في الداخل والديموقراطية في الخارج". كاتب عراقي.