السعودية للشحن تعلن عن مسارات استراتيجية لنقل البضائع بين المملكة والصين وبلجيكا    نمو قياسي في إنفاق السياحة الوافدة بمنطقة عسير خلال عامين    مبابي يجمد حسابات باريس سان جيرمان    إحباط تهريب 3.4 كيلوجرامات من مادة الحشيش المخدر في ينبع    وزير الخارجية يصل إلى تركيا    فليك: برشلونة قادر على التحسن أكثر    زيلينسكي يتهم روسيا بتجنيد مقاتلين صينيين بشكل "ممنهج"    ضبط (4) وافدين لممارستهم أفعالًا تنافي الآداب العامة في أحد مراكز «المساج» بجدة    الدكتوراه الفخرية لحرم خادم الحرمين الشريفين من جامعة الأميرة نورة    في الخبر.."جوازك إلى العالم" تنطلق بالثقافة السودانية    البرازيل تدعم انضمام البرلمان العربي إلى "بريكس البرلماني"    الحياة الفطرية تُطلق 25 كائنًا فطريًا مهددًا بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية    «حساب المواطن» يودع 3 مليارات ريال دعماً لمستفيدي أبريل    قصف في غزة واقتحامات في الضفة والأقصى    14 اكتشافا جديدا للنفط والغاز في السعودية    مختص ل "الرياض": 15% من مراهقي المملكة يعانون من الرهاب الاجتماعي    العالمي يزيد الراجحي يواصل مشواره البطولي في باها الأردن    د. محمود الجرف يفوز بجائزة وينبرغر العالمية    شركة بترومين وإلكترومين تتعاون مع فريق نيسان فورمولا إي استعدادًا لسباق ميامي إي بري    مدرسة الملك عبد العزيز في صبيا تعقد لقاء استعراض بطاقة أداء المعلم    الإحصاء تنشر نتائج مؤشر الرقم القياسي للإنتاج الصناعي لشهر فبراير    90 دولة تشارك بمهرجان الثقافات والشعوب    محافظ أبو عريش: إنجاز الكواكب مشرف    محافظ الطوال يعزي أسرة المرحوم الشيخ عبدالرحمن بن حسين النجمي    محافظ بيش ينقل تعازي سمو أمير منطقة جازان وسمو نائبه لذوي الطالب معاذ شيبة    «السمان».. زائر موسمي للشمالية    كنوزنا المخبوءة    العراق يحدد 11 نوفمبر موعدا للانتخابات البرلمانية    تعزيز العلاقات التجارية مع سنغافورة    ولادة أول ظبي رملي لموسم ربيع 2025 في السعودية    ولادة ظبي رملي بمحمية الأمير محمد بن سلمان    أسرتا الصفيان والعديلي تحتفلان بزواج «محمد»    جمعية الإدارة الصحية بالشرقية تقيم «عيدنا أنتم 5»    آل أبو نار وآل الشدوخي يتَلقون التعازي في فقيدهم علي    نمو تراخيص مرافق الضيافة 89 % في 2024    اكتشاف كواكب تبعد عن الأرض 6 سنوات ضوئية    فيلم "إسعاف" ينطلق في السينما السعودية 17 أبريل    عبير تكرم الفائزين ب «الأقلام الواعدة»    في الجولة ال 27 من دوري روشن.. الاتحاد يستقبل العروبة.. والهلال في ضيافة الاتفاق    سان جيرمان يعبر أستون فيلا بثلاثية ويضع قدمًا في نصف النهائي    في ذهاب ربع نهائي يوروبا ليغ.. مانشستر يونايتد لإنقاذ موسمه أمام ليون    الصبر على أذى الآخرين.. سمو النفس ورفعة الأخلاق    وكر الكوميديا    لماذا لا يكتب المحامي مثل الدعوجي؟    أطفالنا لا يشاهدوننا    الحسد    حين يتصدع السقف    الاستقالة فنّ لا يتقنه إلا الأذكياء    صندوق النفقة    مملكة الخير وميلاد قطب جديد    صم بصحة نموذج تكامل بين المجتمع والتجمعات الصحية    الغارات الأمريكية مستمرة لإسقاط الحوثيين    الكوليرا تحصد الأرواح في جنوب السودان    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبدالله بن مساعد آل عبدالرحمن    سطوة المترهلين في الإدارة    أمير حائل يستقبل رئيس الهيئة العليا للحج والعمرة بجمهورية العراق ووزير الحج والعمرة    إنجاز طبي سعودي.. استئصال ورم في الجمجمة بالمنظار    النقل الإسعافي يستقبل 5 آلاف بلاغ بالمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"غبار الطلع" عمله السردي الثاني . عماد شيحة خرج من السجن إلى الرواية ... الوجه الآخر للحياة
نشر في الحياة يوم 09 - 10 - 2006

يبدو أن الكاتب السوري عماد شيحة خرج من السجن بعد تسعة وعشرين سنة إلى معادل آخر للحياة، هو الرواية. لكن روايته الأولى"موت مشتهى"2005 ذكّرت بالكثير مما يثقل به سجناء سياسيون قدامى وساسة متقاعدون على الرواية بخاصة، وعلى الكتابة بعامة. وفجأة جاءت رواية شيحة الثانية"غبار الطلع"2006 لتعلن عن صوت جديد، قد يكون غرف بقدر من تجربته، وربما غرف بأقدار من تقاطع تجربته مع تجارب آخرين وأخريات، لكن المهم هو أن"غبار الطلع"جاءت، تُدِلّ بتميزها، ولا ضير إذاً أن تكون قد تعثرت هنا أو هناك وهي ترسم حيوات شبان وشابات تنادوا إلى منظمة - لا تسميها الرواية في مدينة من دولة لا تسميهما - معانقين أحلامهم بتبديد ليل الاستبداد والفساد، فغالبوا حتى ذهبوا بدداً. ولعل الرواية غيبت الأسماء لتلعب على طريقتها اللعبة المتواترة في الرواية العربية: لعبة"الكنائية"التي قد تكون التقية منطلقها أو مبتغاها، غير أنها تترك للقراءة أن تكمل اللعبة، فتجد الأسماء المغيبة في أي مدينة عربية من أي دولة عربية، وفي أي منظمة معارضة وغير دينية.
بعد سنين من المآل إلى البدد تبدأ رواية"غبار الطلع"بعودة أدهم الجبيلي الذي كان على رأس المنظمة، من المنفى. وفي لحظة العودة، في غمر البحر، يبدأ الفعل الروائي الأول: فعل الذاكرة في زمنه المديد، والذي سيعاجله الفعل الروائي الثاني، إثر العودة، في زمن الحاضر القصير.
تجمع الباخرة أدهم مع جميل الذي غادر المدينة، تلهبه عقدة عشقه الأول لمن رفض أهلها تزويجها منه فقضت: ميّ نجار. وبعد أسبوعين من عودة العائدين إلى بيت جميل، يُعتقل، ويغادر أدهم البيت، ليتكشف أن الأول ادعى أنه الثاني فداءً له من الاعتقال. ثم تبدأ رحلة الرواية مع أدهم من شخصية إلى شخصية ممن كانوا وكنّ ذلك الماضي المبدّد، وممن يطلع الحاضر بهم وبهنّ. وبعد أن تستوفي الرواية ذلك تعود إلى جميل في المعتقل، لتنجز الذاكرة ما تبقى لها، بالتوازي مع لهاثها نحو الختام.
تتوزع الرواية التي بلغت خمسماية صفحة في ثلاثة أبواب، يشير غالباً أولها غابرون والثاني سوافي إلى الماضي، بينما يشير الثالث تأبير إلى الحاضر. وعبر ذلك دأبت الرواية على المزج بين الضمائر الثلاثة في أي مقطع سردي، طال أم قصر، مما أنتج درجة أعلى فأعلى من التلغيز، وغلّب الكثافة على الإخبار إلى حد الرهق في مواطن كثيرة. ولئن كانت الرواية بذلك وبغيره مما سنرى، تنخرط في التجربة الروائية الحداثية، فلعله يصح فيها الوصف بپ"العيار الثقيل"الذي يقتضي مشقّة القراءة وصبرها قبل أن تبلغ لذتها. هكذا تلتقط القراءة منذ البداية نتف الذاكرة معتمة ومتهاطلة، مما لن ينجلي إلا بعد عشرات أو مئات الصفحات، فإذا بوالد أدهم صديق وشريك لرجل الأمن المتأله فاتك، وإذا بهما يخليان الحي الذي يسكنانه من سكانه إعداداً لمشروع تجاري كبير. وفي غمرة الصراع يحرق أدهم منزل فاتك وينقذ طفله المعوق قصيّ الذي سيكون قد تفوق على أبيه نفوذاً ووحشية إبان عودة أدهم من منفاه. لكن سرد هذا المآل سيتأخر إلى أن تكون الرواية قد قدمت سرود شخصياتها الكثيرة، وفي إخلاص كبير لمبدأ الاتصال والانفصال بين الوحدات السردية الكبرى والصغرى، حيث لا يكاد يغيب خطر التتويه بين عشرات الأحداث والشخصيات، ومنها العابر الذي لا تخسر الرواية بحذفه شيئاً. غير أن ذلك سيغدو غالباً منعرجات وخطوطاً وألواناً في العمارة الروائية المعقدة، حين تجلو أخيراً جماليتها، على إيقاع السؤال الذي سيبدل صيغه من مبتدأ الرواية إلى منتهاها:"ما الذي حلّ بنا؟".
مع أدهم يصير السؤال:"لِمَ عدت؟"، ويتفتق الجواب. فهذا الذي يرى الجميع يتنكرون له، ويرى أنه بات الوباء الذي يخشون عدواه، كان له في المنفى جرحه الفاغر: موت من أحبها رماح والتي كانت تصدعه:"ما عدت تصلح للعودة ... ما عدت تنتمي لوطن ... حتى ذاكرتك ما عادت تنتمي إلا للدمار". فهل كانت عودته رد فعل على موت رماح؟ لكن الأهم حبيبته منذ عهد المنظمة: رحاب التي ظلت تنتظر عودته، وقاد كل منهما حدسه إلى لقاء الآخر في مصادفة معجزة، وإذا بسبب العودة يتقلب بينهما: الحنين؟ الخواء؟ من أجل رحاب؟
حين يلح أدهم على رحاب أن ترحل معه من جديد إلى خارج البلاد، لا ترفض فقط، بل تنتهي منه، بينما يشكو هو من أنها لا تريد أن تفهم"أننا لا نستطيع البدء هنا... لا نستطيع البناء فوق خراب". وهكذا هو إذاً ما انتهى إليه أدهم الذي ظل بالنسبة لصفاء"من القلائل الذين لم يتعفنوا في الزنازين أو يخرجوا مستلبين أو كافرين أو جاحدين، ولم يغرهم المنفى ويقطع صلاتهم إلى أبد الآبدين، أقله أن يبقى ما نتطلع نحوه أو نتكئ عليه حال نضعف أو نقارب تخم الانهيار". لكن أدهم ليس أمثولة لفريال التي كانت عضواً في المنظمة، بخلاف صفاء. ولئن كان بناء شخصية صفاء قد جاء بالغ الاستواء، مثلها مثل رحاب، فقد بدا الامتياز الأكبر في بناء الشخصية الروائية مع فريال التي ستتشظى قصتها في مواطن شتى من الرواية، شأن سواها في النصف الأول من الرواية، حيث سيلي من بعد تقديم قصة الشخصية أكبر انتظاماً وتسلسلاً.
أمضت فريال سنوات في السجن تحولت بعدها إلى مخبرة. ويبدأ ظهورها في الرواية حين تزور الرسام ابراهيم الذي يغدق عليها صفاته: حورية الجحيم/ سيدة الصراحة/ عنكبة سامة... وفي المقابل ترمي فريال بشواظها هذا الذي كان واحداً منهم فاختار السلامة، أي دمّر ذاته، وهي تدعوه إلى أن يتخلى عن"القذارات"التي يسميها مبادئ وقيماً، ليرسم ما هو رائج، ويقيم معرضاً يتقرب فيه من أولي الأمر. ولا توفّر فريال أحداً من رعيل المنظمة البائدة"باقي المهووسين والأغبياء الذين حسبوا أنهم سيغيرون العالم بعصاهم السحرية، وحين وجدوا أنفسهم منغمسين في دمائهم ودماء أصدقائهم، قالوا: نحن شهداء درب سيصل نهايتها القادمون! مرحباً... لستم سوى غابرين". وستتقاطع هذه الأهجية مع ما ستندب به حنان ما آلت إليه المنظمة:"نجحوا في تشويهنا حتى بتنا نشك في أنفسنا وفي أقرب الناس إلينا، وربما كرهناهم كما كرهنا أنفسنا والعجز الذي يعتمل فينا". لكن حنان لا تنتقم من الماضي كما تفعل فريال التي لا تلوم من سرق أحلى سنوات عمرها في السجن، بل تراه دافع عن حقه في إزاحة من هدده. واللوم إذاً هو لمن أدخلوا العتمة في عينيها"على أمل أن شمسهم المظفرة سوف تبزغ من ليلي أنا".
يدرك ابراهيم أن هذه التي رفضت من قبل أن تعمل موديلاً له، قلبتها التجربة شر منقلب، وصارت المثلية التي تحاول جره إلى مستنقعها تبرئةً لنفسها. وها هي تتقفى أثر أدهم لتؤدي مهمتها الأمنية الكبرى. وعبر ذلك ترسم الرواية مشهداً فذاً لفريال في مساومتها لريمة وفي استعار شهوتها. ومثل ذلك يأتي مشهد قتل أدهم لها في بيتها، وهي التي قرأت عودته يأساً وطلباً لغفران من لم يجنوا من السير معه غير اليباب، وها هي عودة أدهم تتسبب لهم في وبال جديد. فجميل الذي يصرّ على أنه أدهم، يفتك به فاتك كما يفتك به السرطان، ويتتوج ذلك بموته في نهاية الرواية، ولكن بعد أن كانت صفاء قد اعتقلت، وبعد أن ألحق بها الآخرون والأخريات، وكانت للجميع على يد فاتك وابنه وجلاديه مشاهد أسطورية من التعذيب. وعبر ذلك كانت الرواية قد أضافت إلى مدونة الديكتاتور في الرواية العربية، ديكتاتورها الفاتك بأمر الله والرب الصغير، كما كانت الرواية قد أضافت شخصيات جديدة تجلو وجوهاً جديدة مما بلغته البلاد في ليل الفساد والاستبداد. فمع الشابة جنان التي ربّتها خالتها رحاب - بعد مصرع أبويها في الحرب القذرة - تنفتح في الرواية صفحة الجيل الشاب عبر صديق جنان الذي تهرب إليه فإذا هو فخ لتعهيرها. وسيكون إنقاذها على يد"البطل المنقذ"أدهم. والأهم هو الصفحة التي تفتحها الرواية لشخصية السائق الذي يصطحب أدهم في جولاته، ويؤجره منزلاً، ويستضيفه في بيته، ويقدم له زوجته وابنته. ولئن كانت الرواية تتقرى عبر ذلك بحذق جوانية أدهم بين الشهوة والعجز، فقد ظلت اندفاعة السائق إلى أدهم غير مقنعة، في الوقت الذي بدا فيه بناء شخصية السائق، كبناء شخصية ابراهيم من الذكور، يضاهي الامتياز الذي بلغه بناء شخصيتي فريال وصفاء من النساء. وقد بدت لغات السائق وابراهيم وفريال في حواراتها وفي بعض السرود التي أسندت إليها، وحدها ما نجا من سطوة اللغة الواحدة التي قُدمتْ بها باقي السرود والحوارات. إلا أن تلك الخصوصية للغات السائق وابراهيم وفريال لم تدرأ إلا قليلاً أذى الأحادية عن لغة الرواية بعامة، والتي تبدو تركيباً خاصاً من اللغة الروائية التي اشتهر بها إدوار الخراط وحيدر حيدر معاً، حيث تطغى مضاهاة لغة الشعر، وحيث الفيض اللغوي على مقتضى الحالة أو الحدث أو حاجة الشخصية. وقد لا يكون من الطريف فقط أن يشار هنا إلى المفردة التي بات حضورها في الكتابة الروائية لحيدر حيدر علامة فارقة، وهي آن سواء أجاءت فعلاً أم ظرفاً، ومفتاحاً أثيراً للسرد التذكيري. وهكذا هو حضور آن وأخواتها في"غبار الطلع"كأن نقرأ: آن حاولتا - آنها عادت - آن كادت - آنها...
بكل ذلك تنهض"غبار الطلع"تعرية لتجربة جملة من المثقفين يتقدمهم أدهم كاتباً وفيهم جميل شاعراً ورحاب وصفاء وابراهيم فنانين. والتعرية بالأحرى هي لتجربة جيل تصدى في شبابه للاستبداد والفساد، وها هو وقد غدا شائخاً وشائهاً يكاد يأسه أن يكون مطبقاً لولا التماعة ترسلها رحاب في رفضها أن تغادر البلاد مع أدهم، أو ترسلها حنان بقولها:"حتى لو كنا مخدوعين أو مخادعين فتلك مرحلة ستنقضي وتؤسس لما بعدها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.