} الروائيون العراقيون تتوزّعهم المنافي. الراحل غائب طعمة فرمان عاش في المنفى أطول سنوات حياته. خلال العقدين الماضيين طالت اللائحة: فؤاد التكرلي ومحمود سعيد وعبدالرحمن مجيد الربيعي وعالية ممدوح وبرهان الخطيب وفاضل العزاوي وسليم مطر كامل ونجم والي وحسين الموزاني وجنان جاسم حلاوي وشاكر الأنباري و... بعضهم مقيم في بلاد عربية، وبعضهم الآخر يتنقّل بين بلاد الصقيع شمال أوروبا وبين "العالم الجديد" وراء الأطلسي. كلٌ في منفاه. ومن "المنفى" يكتبون روايات وتجارب تختلف وتتعدّد وإن جمعها قاسم مشترك واحد: الرغبة في العثور على وطن ضائع. هل كان الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان متنبئاً بما يحصل اليوم في المشهد الثقافي العراقي، حين كتب كلمته الى مؤتمر اتحاد الأدباء اليوغسلاف، أم كانت كلمته رؤوس أقلام لخيالات قصصية سارحة أو موضوعاً لقصة طويلة لم تكتمل لديه وحرمه الموت منها؟ قال فرمان في كلمته الى المؤتمر الذي عقد عام 1988 في يوغسلافيا تحت عنوان الأدب والمنفى: "ان للمنفى تاريخاً طويلاً في العراق يعرفه المثقفون العراقيون، ومع تقدم الزمن، وشيوع المفاهيم الديموقراطية، وارتفاع أصوات متزايدة لاحترام حقوق الإنسان صارت أعداداً متزايدة على النقيض من روح العصر تجد نفسها مضطرة لمغادرة وطنها، واللجوء الى أي بلد يؤمن الاقامة لها، حتى شرق المثقفون العراقيون المنفيون وغربوا وهم المعروفون بتعلقهم بأرض وطنهم. والآن لا يكاد يوجد بلد في العالم لا يضم أعداداً منهم...". وبحرارة غائب وبصيرته الابداعية، وهو من أوائل الروائيين المعاصرين المنفيين، وفي تلك الفترة المبكرة نسبياً لاحظ حياة المنفى الحقيقية لاعداد المثقفين العراقيين في المنافي البعيدة عن وطنهم وشعبهم وكتّابهم ولغتهم وأحاسيسهم الابداعية، وتلمس من تجربة طويلة صعوبات المنفى، "إذ تنقطع الصلة بينهم وبين قرائهم ويجدون أنفسهم في أحبولة الاسترخاء، والكسل، ويضطرون الى ممارسة أعمال بعيدة جداً عن ممارستهم الأصلة، وهي الكتابة والابداع، والتواصل مع الجمهور الذي تربّوا بين ظهرانيه". ويتساءل بألم المبدع: ما أتعس الكاتب الموهوب، حين يترك القلم جانباً، ويرتضي بما يؤمن لقيمة الخبز؟... ذلك هو المنفى المزدوج، المنفى السجن/ مسخ النفس، الانطفاء. وعلى رغم ان الروائي غائب رسم أحزانه في ورقته المتماهية مع موضوع الندوة الا انه وضع الحقائق المرة عن حالة المنفى القسرية، وحتى الاختيارية للمبدع. وزادها ألماً وحزناً انه أرخ للحالة الثقافية الراهنة ولم يستطع تدوينها، إذ مات ودفن في المنفى، ولم يتواصل مع أشقائه في المهنة الصعبة، مهنة الكتابة والحرف المنشور والمقروء، ولم يعرف ان زملاءه المجايلين له ابداعياً قد ساروا على دربه الذي ارتسمه وعانى منه، مثل فؤاد التكرلي أو عبدالرحمن الربيعي أو محمود سعيد، وان أجيالاً تمرنوا كذلك في السير على نهج آلامه ومحنته في الغربة: حتى بات المشهد الروائي العراقي في المنفى الآن شاملاً أجيالاً متواصلة، كما هي داخل الوطن. ضم المنفى روائيين عرفوا هناك، في الوطن وواصلوا ابداعهم في الأوطان الجديدة مثلما حصل مع فؤاد التكرلي ومحمود سعيد وعبدالرحمن مجد الربيعي وبرهان الخطيب وفاضل العزاوي. ومنهم من كتب القصة القصيرة وعرف بها هناك وقدمت له المنافي فسحة تأمل لبنى روائية أو حكايات وأساطير لم يتمكن من حبكها هناك وتمكن من توظيفها والابداع فيها مثلما حصل مع عالية ممدوح وابراهيم أحمد وحنان جاسم حلاوي وفاضل الربيعي وصباح الشاهر وزهير الجزائري ومحسن الرملي، أو من أنتج في المنفى ابداعاً قصصياً وروائياً، متواصلاً مع عوالم الآخرين الذين سبقوه، وهؤلاء اسماء كثيرة من بينهم سميرة المانع وهيفاء زنكنة وسليم مطر ونجم والي وسلام عبود وشاكر الانباري وجمعة اللامي وحسين الموزاني ومحمود البياني ومهدي علي الراضي وعلي عبدالعال وفائق محمد حسين وقصي الشيخ عسكر وحمزة الحسن وسلام ابراهيم ونوري المرادي ومحيي الأشيقر وغيرهم. أحس هؤلاء بعذابات المنفى ابداعياً واستفادوا من أجوائه ومناخاته ومفارقاته في عملية الانتاج الأدبي وأسواق النشر وعمليات الانتشار. وعلى رغم ذلك فإن ما عكسه بعضهم في تقديم كتاباتهم الروائية يوضح اثر البصمات والأجواء المختلفة عليهم، واستثمار المنفى في اطلاق ملكاتهم الابداعية والتعبير عن المواضيع التي اختاروها لرواياتهم وأرادوا الكتابة عنها، مستغلين "حرية" الكتابة والنشر باللغة العربية في المنافي ورحابة صدر القراء، ممن لم يقدم بهم العهد ولم ينشغلوا بما لا يبعدهم منها. نشر محمود سعيد روايته "أنا الذي أرى" باسم مصطفى علي نعمان، وقد كتبها عام 1980 في العراق وحين أراد نشرها في بلد عربي حذف الناشر نصفها، ووعد سعيد الذي يعيش في المنفى الآن أن يعيد نشرها باسمه الصريح كاملة كما كتبها أولاً. وسجل عبدالرحمن مجيد الربيعي في مقدمة روايته "الوكر" طبعة تونس 1994 ان هذه الطبعة تمثل الكتابة الأولى للرواية التي أنجزها في بيروت عام 1980 معيداً لها ما حذف من النص المنشور آنذاك. وكتب برهان الخطيب في مقدمة روايته "ليلة بغدادية" انها عاشت معه أكثر من ثلاثين عاماً، تمرن على مضمونها في روايات قصيرة أثارت ردود فعل متباينة، متهيباً منها لحساسية موضوعها، كما تصور، وظلت تنفى معه في بحثه عن وطن/ منفى يحيا ويكتب فيه ليلته البغدادية التي أصدرها بعد ذلك في السويد عام 1993. تعطي هذه الإشارات السريعة لما عاشه بعض كتّاب الرواية أبعاداً للمعاناة التي قاسوها كمبدعين أرادوا ان ينقلوا ما عكس في وعيهم الابداعي عن الواقع، والوقائع التي عاشوها أو شاهدوها أو تداخلت صورها بين الذات والموضوع في حياة سياسية صعبة وقاسية في بلد مثل العراق. وإذا كان فن الرواية في العراق لم تسلط الأضواء الكافية على المبدعين فيه، فإن المنشور حالياً من الروايات يقدم لهذا النوع الأدبي مكانته في المشهد الثقافي العراقي عربياً وعالمياً أيضاً. لا سيما بعد ان ترجمت روايات غير قليلة الى لغات أجنبية حية وكتبت دراسات أكاديمية وصدرت كتب مؤلفة عن بعض الروائيين مثلما هو حاصل مع غائب والتكرلي والربيعي وممدوح مثلاً. وعلى رغم طول فترة المنفى نسبياً وتباعد المسافات بين العراق والبلدان التي توزع عليها كتاب الرواية العراقيون وتغير أساليب الحياة وأنماط العيش اليومية وصعوبات المكان الجديد والتكيف الاجتماعي فما زال معظم الكتّاب وإصداراتهم الروائية تنبش الماضي، وتعيش على الذكريات وتنهل من صورها التي تعود اليها بأشكالها الكابوسية وخيالاتها المملوءة فظاظة وقسوة وانتهاكاً مراً للطبيعة الإنسانية وصبواتها الطبيعية. فالروايات المنشورة تروي شهادات قاسية لماضٍ لم ينته بعد وتسجلها، ولحياة على رغم ابتعادها زمكانياً بقيت آثارها وأخاديدها محفورة في وعي المبدعين العراقيين صوراً لتاريخ مؤلم ولاحترابات دموية وصراعات تدميرية رسمت نفسها بقسوة وخشونة تميزها عن تجارب بشرية أخرى. وفي الوقت الذي شدّ الحنين والتذكر معظم الكتّاب العراقيين في رواياتهم المنشورة في المنافي غلب عليها ابتعاد عن حرارة حضن الأم أو الحبيبة التي فورقت عنوة وتركت اكراهاً لا اختياراً، أو عن صور مدارس الطفولة ومرابع الصبا وألعاب التسلية في أزقة محلات السكنى وشوارع المدن الأولى والمنازل الأولى وخطابات الغزل والمنشورات السرية وبراءة الحيوات الإنسانية الطبيعية وما يعيشه مجتمع بشري من عوالم تخلق آلاف القصص والروايات، في شكل يجذب الى تذكر الأماكن والصبابات والثروات والاغراءات الأساسية واللمسات الاجتماعية والانسانية التي تختلج في مجتمعاتنا وشعوبنا المعرفة بعواطفها الجياشة وعلاقاتها الحميمة وارتباطاتها الأسرية السوية وصرامة الحدود الدينية والاجتماعية مثلاً، وبرز اقتراب أوسع وأشمل في الحنين والتذكر لما خربته الحروب والحضارات وألوان القمع والعلاقات السياسية الدموية والقتل سجناً أو اغتيالاً أو حكماً بالموت بسبب الانتماءات السياسية والايديولوجية المتضاربة في بلد فسيفسائي بامتياز في مركز منطقة حيوية وسط العالم. وحتى الروايات التي حاولت الابتعاد عن معالجة موضوعاتها من آثار السياسة والدم والجرائم التي ارتكبت بها لم تخل من انعكاسات ذلك عليها مباشرة أو في شكل آخر يقرأ فيه طبيعة الحالات التي خاضها الكاتب أو البطل في الرواية العراقية. فتجد قسوة الاحباط والخيبة أو "موت البطل" خاتمة متوقعة أو تحصيل حاصل في الكثير من الروايات وكأنها حالة عراقية مسجلة، وهي بلا شك نتيجة ما عاشه الشعب العراقي من تاريخ وصراعات سياسية لعبت أطراف داخلية واقليمية ودولية ادوارها في تأجيجها واحتدامها ومعاركها وخرابها، الأمر الذي عكس سلباً في وعي معظم مبدعي الانتاج الثقافي، وخصوصاً في الروايات التي صدرت في المنفى أساساً. وإذا تميز غائب طعمة فرمان في كتابته عن بغداد في كل رواياته، مستعيناً بذاكرة خصبة ثرية، لما عاشه فيها في فترة ما قبل وبعد ثورة تموز يوليو 1958، فإن انتكاس الثورة واندلاع شلالات الدم والمعارك السياسية ترك أثره على عالم الثقافة، ورسم ملامح جديدة عنده وعند معظم من خلفه. ومثلما امتاز قص غائب بقدرة فنية وتمكن من ناصيته ودراية جيدة بالنص وخطابه نجد عند معظم الآخرين تنوعاً وتقبلاً لروح التجريب وتداخل التقنيات الفنية في البناء الروائي، مع سطوة ذاكرة وصفية في المعالجة وتصادم بين واقع المنفى والتعلق بالتيمات الأولى، انعطافات الوطن الأول، وصعوبة الخروج من دائرة الهم السياسي والحزبي والجراح التي أثخنتها التجارب المرة في العمل السياسي والحياة الاعتيادية والابتعاد عن الجذور في سموات أخرى وأوطان جديدة لا رغبة كبيرة فيها ولا قدرة على الخروج منها. فإذا كان "الفن، كما يقول هيغل، لا يوجد من أجل مجموعة صغيرة مغلقة من القلة المنعمة بامتياز الثقافة، بل من أجل الأمة بكاملها"، فإن كتّاب الرواية العراقيين في المنافي، وفي أزمان الحصارات والخيبات المتتالية يلجأون للذاكرة والتاريخ كمخرج لهم ومرتع خصب لقدراتهم القصصية، ويستعيدون لحظات الانكسارات التي لم تبرح مخيالهم الحكائي/ الأسطوري أو خرافاتهم الجديدة في بلدان لم تتوافق مع ما عاشوه من تلك الروايات، ولكنهم وبإصرار يتشبثون بها ويحاولون ان يحافظوا على نكهتها المحلية. هذا ما يمكن قراءته كنماذج متنوعة في روايتي التكرلي "الرجع البعيد" و"المسرات والأوجاع"، كما يمكن ملاحظة ذلك في روايتي محمود سعيد: "الموت الجميل" و"أنا الذي رأى" وعبدالرحمن الربيعي: "الوكر" و"عيون في الحلم"، وبرهان الخطيب: "ليلة بغدادية" و"نجوم الظهر"، وعالية ممدوح في "الغلامة"، ونجم والي في "مكان اسمه كميت"، وجنان جاسم حلاوي في "يا كوكتي"، وهيفاء زنكنة في "مفاتيح مدينة" و"نساء على سفر"، وعند سميرة المانع في "حبل السرة"، وفاضل الربيعي في "عشاء المأتم" وصباح الشاهر في روايتيه: "النهر" و"البستان"، وزهير الجزائري في "حافة القيامة".