كتاب جديد للناقد المصري رجاء النقاش يتناول فيه قضيتي "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي و"وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر. وإذ يبرئ النقاش مستغانمي من تهمتي نزار قباني وسعدي يوسف يتهمها ب"سرقة" حيدر حيدر انطلاقاً من مقارنته بين الروايتين. لكنه لن يوفر حيدر بدوره فيتهمه بموقفه العدائي من المصريين. هنا قراءة في كتاب رجاء النقاش. عندما قرأت عنوان كتاب رجاء النقاش الجديد "قصة روايتين. دراسة نقدية وفكرية لرواية "ذاكرة الجسد" ورواية "وليمة لأعشاب البحر" دار الهلال، القاهرة - 2001 تصورت أن الكتاب عبارة عن دراسة لكل رواية من الروايتين على حدة. باعتبار أن كلاً منهما أثارت مشكلات وقضايا خلال العام الماضي. الجديد بل والمدهش الذي يقدمه رجاء النقاش في كتابه الجديد هذا، والذي يصل إلى حد الاكتشاف المثير أنّ الكتاب كله يكاد يندرج تحت بند دراسات النقد الأدبي المقارن. وهو الشكل الغالب على كتابات النقاد العرب منذ أن أسس الناقد الراحل محمد غنيمي هلال هذا النوع من النقد الأدبي في ستينات القرن الماضي. ولعل عملية المقارنة جعلت رجاء النقاش يخرج باستنتاجات لم تخطر على بال أحد. أعترف أننا جميعاً - أدباء ونقاداً - تعاملنا مع القضيتين، قضية رواية "ذاكرة الجسد"، وقضية رواية "وليمة لأعشاب البحر"، في صورة منفصلة تماماً، وكأن كل قضية لا علاقة لها بالأخرى. وكان لدينا العذر "الجمعي"، لأن معركة هذه الرواية غير تلك. "ذاكرة الجسد" تعرضت لمشكلة النسب الأدبي والإبداعي. وكان السؤال الجوهري: من الذي كتب هذه الرواية؟ وذلك بعد ادعاء نسب إلى الشاعر سعدي يوسف أنه صاحبها. قلت لنفسي يومذاك: إن الفشل يظل يتيماً، يبدأ وينتهي باليتم. أما النجاح فله ألف أب. على أن رواية "وليمة لأعشاب البحر" وما جرى لها في مصر، كانت، وعلى مدى عشرة أشهر من عمر الأزمة "مادة" ثلاثة كتب صدرت عنها وعن أزمتها. فهي تمثل محاولة مواجهة الأدب بالدين. ولأن المعركة شهيرة وقريبة، فلا داعي لإعادة ذكر ما جرى خلالها. لكن رجاء النقاش في كتابه هذا درس قضية كل رواية على حدة. ثم دخل في رواق المقارنة بينهما ليصل عبر هذا المنهج إلى استنتاجات لم تكن تخطر على بال أحد.. فهو يبدأ بالعثور على أوجه التشابه بين الروايتين، وبعد إثبات كل هذه الأوجه يصل إلى السؤال: أيهما الأصل؟ وأيهما الصورة؟. عن التشابه بين الروايتين، يقول رجاء النقاش، إنه يصل إلى حدود التطابق، مع اختلافات في الطلاء الخارجي، أي في الأسلوب والتعبير فقط: اما الحجج التي تذرع فيمكن اختصارها في النقاط التالية: أولاً: إن خلفية الروايتين من أول صفحة حتى آخر صفحة هي أحوال الجزائر بعد الاستقلال وبعد انتهاء نضال المناضلين واستشهاد الشهداء في ثورة الجزائر، وما حدث في ظل الاستقلال من تجاوزات ومحاولات للتمسك بأسباب النجاح والكسب في الحياة العملية الجديدة. ثانياً: بطلة رواية "الوليمة" الرئيسية هي آسيا لخضر وهي ابنة شهيد من شهداء الثورة الجزائرية هو سي لخضر. وبطلة رواية "ذاكرة الجسد" هي أيضاً إبنة شهيد جزائري هو سي الظاهر عبد المولى. وهكذا فإن البطلتين متطابقتان متشابهتان. ثالثاً: رواية "الوليمة" تتحدث عن مدينة جزائرية هي عنابة وهي المدينة التي يسميها الفرنسيون باسم بون ويسميها حيدر بونة. و"ذاكرة الجسد" تجري أحداثها في مدينة قسنطينة. رابعاً: بطل "الرواية" هو ثوري سابق من العراق وبطل "ذاكرة الجسد" ثوري سابق من المقاتلين في صفوف الثورة الجزائرية. والبطلان متشابهان يبكيان على الماضي الثوري الذي ضاع وينقمان على الحاضر الذي اختلف مع أخلاق الثوار وأحلامهم. خامساً: قصة الحب الأساسية في "الوليمة" هي بين البطل الثوري السابق والبطلة آسيا، بنت الشهيد الجزائري سي لخصر. وقصة الحب في "ذاكرة الجسد" هي بين البطل الثوري السابق والبطلة. سادساً: تفشل قصة الحب في رواية "الوليمة" بسبب أحد التجار المنتفعين من الاستقلال الجزائري. وفي الطريقة نفسها انتهت قصة الحب بين بطلة رواية "ذاكرة الجسد" وحبيبته بنت الشهيد الجزائري. فهي انقض عليها شخص يماثل الشخص الذي انقض على الحبيبة في الرواية الأولى. سابعاً: البطل المثالي في "الوليمة" هو خالد أحمد زكي وهو شيوعي كان يعيش في لندن ولكنه عاد إلى العراق، حاملاً السلاح ليغير به الدنيا والمجتمع ولو بالقوة. وفي رواية "ذاكرة الجسد" بطل فدائي هو الشاعر الفلسطيني "زياد" وهذا البطل كان يزور باريس أحياناً. وهناك أوجه تشابه كثيرة بين خالد وزياد. ثامناً: في رواية "الوليمة" يرد ذكر الكاتب الجزائري مالك حداد الذي كان حزيناً متألماً لأنه لا يكتب بالعربية. أما في رواية "ذاكرة الجسد" فإن مالك حداد يطلّ منذ الصفحة الأولى وبالتحديد في الإهداء. ولعل منفى مالك حداد وهجره اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية، هما هاجسان متشابهان إلى حد التطابق في الروايتين. تاسعاً: ومن عناصر التشابه بين الروايتين. أنهما تقدمان على نقد الواقع العربي كله منذ الستينات وحتى الآن. وتركز الروايتان تحديداً على الواقع الجزائري. عاشراً: بطل "ذاكرة الجسد" وراويها اسمه خالد. والبطل الثاني في رواية حيدر اسمه خالد. يبقى أن رواية "الوليمة" مكتوبة بين العامين 1974 و1983، بين الجزائر وبيروت وقبرص. أما رواية "ذاكرة الجسد" فانتهت مستغانمي من كتابتها في باريس في تموز يوليو 1988. إذاً أنهى حيدر روايته قبل خمس سنوات من رواية أحلام. إنها الأصل إذاً، ورواية أحلام هي الصورة. ويبقى السؤال: لماذا لم تلفت رواية حيدر الأنظار حتى السنة 2000 عندما أثيرت حولها ضجة في مصر وصلت إلى اتهام الكاتب بالإساءة إلى العقيدة فيما عرفت رواية أحلام نجاحاً كبيراً ورواجاً جماهيرياً منذ طبعتها الأولى؟ وأصبحت أيضاً في مقدمة الروايات العربية مثل "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"مدن الملح" لعبدالرحمن منيف. أسباب نجاح رواية أحلام - يؤكد رجاء النقاش - ترجع إلى أن صاحبة الرواية شخصية جريئة ومنفتحة على الدنيا والناس، مقتحمة للحياة والواقع الأدبي والثقافي. في حين أن حيدر إنسان شديد الحياء يميل إلى العزلة والانطواء، قليل الكلام، عفيف النفس، بعيد من الظهور في المجتمعات الأدبية. وأحلام شخصية قادرة على تسويق روايتها، وهذا مما أدى إلى صدور ثلاث عشرة طبعة من الرواية منذ 1993، أي في معدل طبعتين كل عام. هذا على رغم أن "ذاكرة الجسد" تعتمد أصلاً معاصراً لها وهو رواية "وليمة لأعشاب البحر". والتبعية في الأدب مثلها في السياسة أو الاقتصاد أو السلوك الشخصي تضعف التابع وتجعله ظلاًَ للمتبوع. ومن أسباب نجاح "ذاكرة الجسد" أن الرواية تعتمد أسلوباً أدبياً جميلاً في الألفاظ والعبارات وفي إيقاع الكلمات. والصلة الموسيقية بين الجملة وما يليها تمت مراعاتها بعناية فائقة حتى وصلت الكتابة في أجزاء من الرواية إلى عبارات شعرية خالصة. أما رواية "الوليمة" ففيها استطرادات تبعث على الملل في كثير من الأجزاء وتعاني التعبير العاطفي العشوائي تجاه الأشخاص والأماكن والأحداث والمشاعر المختلفة مما أدى إلى مقدار من الصعوبة في قراءة الرواية. وثمة إحساس أنها كان يمكن اختصارها إلى النصف على الأقل من دون أن تفقد كثيراً من عناصرها الإيجابية المؤثرة. رواية "ذاكرة الجسد" ليس فيها هذا النوع من الاستطرادات الكثيرة والمثيرة للملل. بل فيها نوع من التركيز الدقيق في حين أن رواية "الوليمة" عبارة عن صفات غارقة في الضباب، بعيدة من الانضباط الجمالي واللغوي. وفي رواية "ذاكرة الجسد" توازن دقيق بين المشاهد الحسية والمادية والخارجية والمشاعر الداخلية. وليس فيها إفراط في البكاء والنحيب ولطم الخدود. بينما في رواية "الوليمة" الكثير من المبالغات العاطفية التي يسميها النقاد عادة باسم "المليودراما". ولذلك فإن رواية ذاكرة الجسد تترك مساحات خفية للقارئ حتى يتفاعل مع أحداثها ويشعر بأثرها في نفسه وتحريكها لخياله وعواطفه. أما رواية حيدر فتسجل كل شيء وتطارد كل لحظة وكل حادث. ويحرص حيدر على تسجيل كل خاطرة وكل فكرة، بما لا يتيح للقارئ فرصة للتنفس الصحيح داخل الرواية، بل إن القارئ أحياناً يصل إلى حد الاختناق والانفصال عن المشهد المادي الذي يطالعه. ثم يطرح السؤال: هل نزار قباني هو كاتب رواية "ذاكرة الجسد"؟ وعلى رغم قوله إن أسلوب الرواية اسلوب نزاري مئة في المئة، فإنه يتساءل: لماذا يكتب نزار وهو في قمة مجده وشهرته، وفي الخامسة والستين من عمره رواية باسم روائية أخرى؟ ولو أنه كاتبها لكان نشرها باسمه. إلا أن هناك حالاً من التأثر بأسلوب نزار، وما أكثر الذين يكتبون وهم متأثرون بالأساليب القوية المعروفة والشائعة. وهذا ما حدث مع أحلام تجاه اسلوب نزار. فهي تأثرت به الى درجة أنها كتبت كما لو كان هو نفسه من يكتب الرواية. السؤال الثاني: هل كتب هذه الرواية الشاعر سعدي يوسف؟ وبعيداً من "الأقاويل" التي نشرت، يقول رجاء إن سعدي يوسف لم يؤثر التعفف الكريم فيصمت تماماً، ولم يؤثر الشجاعة الكاشفة عن الحقائق المؤلمة. فيكتب ما كتب أو يقول ما قال. ولكنه آثر المراوغة واثار الشبهات من دون تقديم دليل. وقال إن له علاقة بالرواية، علاقة لغة وإملاء وتصحيح وتنقيح. وليس له أي علاقة بها فناً وأسلوباً وعاطفة وتفكيراً. لكنه لم يتوان عن نشر قصيدة له في أحد دواوينه وتحمل تلميحات قوية إلى علاقته برواية ما لإحدى الروائيات. وإن كان رجاء النقاش يعود ليكتب تحت عنوان: نعم هناك شيء "رجالي" في رواية "ذاكرة الجسد" فهو يختم هذا الفصل بقوله: "لا بد وأن تتكفل الأيام بإثبات صحة نسبة "ذاكرة الجسد" إلى كاتبها خصوصاً أن أحلام مستغانمي لم تتوقف عن الكتابة الناجحة، والأدب مثل الجريمة لا بد أن تنكشف أسراره الكاملة في يوم من الأيام". ثم ينتقل إلى رواية حيدر فيقول إنه يعتبر حيدر من المتدينين وأصحاب القلوب المتصوفة. ولكن الالتباس ظهر في الرواية من اندفاع حيدر إلى تصوير بعض الشخصيات والمواقف والحوارات تصويراً نابعاً من الالتباس، والشعور بما يمكن أن يسمى "الصدمة". قام حيدر بتصوير شخصية مهيار، تصويراً خالياً من الحكمة الفنية ولم ينجح مطلقاً في أن يرسم شخصية مهيار فترك لها الحبل على الغارب، وسمح لها بأن تعكر مياه روايته بالسفاهة والبذاءة والعدوان على مشاعر الناس. ثم يتناول صورة المصريين في رواية "وليمة" ليكتشف أن المصريين يرد ذكرهم في الرواية أربع مرات، مرة واحدة في صورة معقولة، وثلاث في صور غير حقيقية. وصور المصريين في الرواية مشوهة عموماً ومخالفة للموضوعية الفنية التي كان ينبغي أن يلتزم بها كاتب مثل حيدر حيدر. علاوة على أن التي تكلمت كثيراً عن المصريين امرأة تبيع الهوى، وتصفهم بالبخل والعجز والإحتيال. ومن الصعب إطلاق مثل هذه الأوصاف على شعب بأكمله بصرف النظر إن كان هذا الشعب مصرياً أم لا. ويقول إن السبب الأساسي للضعف، والارتباك الفني والموضوعي في "الوليمة" كنص روائي هو أنها قامت في بنائها الأساسي على نظرة حزبية ماركسية ضيقة. ولذلك فإن الكاتب لا يتعاطف مع الأشخاص من أبطال روايته ما عدا الماركسيين. وما من فكرة يحترمها الكاتب سوى الفكرة الماركسية. ولذلك فهي رواية تخلو من "اوكسيجين" الفن الإنساني الحر، مما أدى بها إلى أن تكون حجرة مغلقة بلا نوافذ... أما مصير من يبقى فيها فهو الاختناق. هذا ما ذهب إليه ناقد كبير مثل رجاء النقاش حيال روايتين أثارتا وما زالتا تثيران الكثير من ردود الأفعال. ومن المؤكد أنه وضع يده على كثير من الأمور التي غابت عنا جميعاً، في غبار المعارك التي دارت، عربياً رواية "ذاكرة الجسد" ومصرياً رواية "وليمة لأعشاب البحر". والجديد هو محاولة الربط بين الروايتين والكاتب والكاتبة، واستخلاص صورة المصريين لدى حيدر حيدر. ولعلّ هذا الكتاب يبشر بعودة ناقد كبير، تميز بالكتابة الواضحة، والجملة الموحية، والفكرة الناصعة. يعود إلينا بعد سنوات طويلة من الاغتراب. والترحيب به والفرح بعودته، أهم ألف مرة من الاختلاف معه، في هذه النقطة أو تلك من محاولته الاقتراب من روايتين، فرضتا نفسهما على رغم المواقف المتعددة منهما، سلباً وإيجاباً.