"اكتشاف الشهوة"هي الرواية الثالثة للكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق، 2003، رياض نجيب الريس للنشر. البطلة"باني بسطانجي"نسخة أخرى لپ"خالدة مقران"في تاء الخجل أو"لويزا"في"مزاج مراهقة"، مع فارق ارتفاع درجة تمردها وثورتها في هذه الرواية. إنها تضعنا منذ البداية في أجواء حياتها العائلية عبر تصوير علاقاتها الفاترة بزوج لم تختره. زوج انتظرته طويلاً لكنه لم يكن في مستوى انتظارها. فأنتج ذلك فتوراً ونفوراً بدءاً منذ الليلة الأولى لحياتهما معاً، وألقى السرد وزرهما على"جهة ما"ربطتها بهذا الشخص المُهاجر المقيم في باريس. زواج انتزعها من مدينتها قسنطينة ومن حيِّها هناك"شارع أو زنقة شوفالييه"حي تحبه كثيراً، عاشت فيه كل أطوار حياتها السابقة بكل آمالها وأحلامها وحنقها على نفسها وعلى الدنيا كلِّها. حنق هو مصدر كل خيباتها، فقد كانت رغبتها الأولى"أن تصبح صبياً!"ص 15، الشيء الذي جعلها منذ أن بدأت تدرك العالم وتعي الدنيا"فتاة غير مسالِمة... لا ذكرٌ هي ولا أنثى"ص 15 لا هوية لها غير الغضب الذي"يملأها تجاه العالم بأكمله"ص 15،"صبي مشوه يقيم عالمه الخاص، في انطواء على نفسه ورفض لمنطق الطبيعة"ص 15. رفض جعلها تنفُر من حياتها الزوجية نفوراً تاماً وتبحث عن الشهوة في العلاقات المحرَّمة... تبحث عنها عند"ايس"وپ"شرف"صديقيها اللبنانيين اللذين تعرفت إليهما عند جارتها في باريس"ماري"، اللبنانية هي أيضاً"المتحرِّرة من كل القيود"ص 36، والتي توفِّر لها النموذج الذي تريد أن تكونه ص 36. وتبحث عنها كذلك لدى قريبها توفيق الذي يعيش هو أيضاً في باريس. نكتشف كل هذا في سردِ البطلة ليومياتها هنا وعلاقاتها بمحيطها الجديد هذا، سرد لا يهمل يومياتها في الوطن وعلاقاتها بمحيطها هناك حتى بعد عودتها إليه من باريس منهية علاقتها بزوجها"مولود"أو"مود"كما يناديه أصدقاؤه. عادت من دون أن تودِّع أحداً، ولتبدأ فصولاً أخرى من حياتها أكثر إثارة، يميزها الرفض التقليدي للطلاق وللمطلَّقة، وسط عائلة تغيرت بعض الأشياء فيها أثناء غيابها. يحدُث تحول كبير ومفاجئ ينسخ كل ما سبق. تفتح البطلة عينيها في المستشفى، في قسنطينة وترى قبالتها طبيباً يخبرها أنها ترقد هنا منذ أكثر من سنة أي منذ ما يعادل الفترة التي يُفتَرض أنها قضتها في باريس بحسب ما مرَّ في الرواية. تعلم منه أيضاً ونحن كذلك إنها تعيش فاقدة الذاكرة منذ ثلاث سنوات، منذ أن انتُشِلَت من تحت أنقاض بيتهم الذي جرفته السيول التي اجتاحت قسنطينة حينها. وكانت عادت إليه إثر ترملها بوفاة زوجها"مهدي عجاني"اغتيالاً. كان زوجها مهندساً التحق بالشرطة السرية، اغتاله الإرهاب قبل أن يتسلَّم السكن الذي كان موعودا به، عائلتها موعودة هي أيضاً بسكن باعتبارها من منكوبي الفيضانات المشار إليها. استغلت الراوية هذه الجزئية لتوجه انتقاداً ساخراً، مُراً، لمن وعدوا معظم الشباب الجزائري ببيوت،"فسكن هؤلاء الشباب القبورَ قبل أن يعرفوا معنى الحياة"ص 126. وهذه بالمناسبة إشارة إلى إحدى أكبر معضلات الجزائر وأقدمها، معضلة استعصت على الحل: أزمة السكن. كان زوجها المغتال رفض الإنجاب قبل أن يعود السلام إلى الجزائر. أما الأشخاص الذين ورد ذكرهم في النصف الأول من الرواية والذين عاشت البطلة بينهم في باريس فقد توفَّوا كلُّهم وبعضهم بالمناسبة أشخاص حقيقيون، ص 107/108 في ما عدا توفيق بسطانجي قريبها وأحد عشاقها في باريس أيضاً، والذي سنصادفه في نهاية النص. عدم الاستقرار بهذه المعلومات تكتمل حالة الشيزوفرينيا التي عاشتها البطلة. والشيزوفرينيا هي حالة ذهان وفصام بارا نويا مزمنة تصيب الشخص فتهدم أركان شخصيته وتقطعه عن محيطه. تتعدَّد أسبابها من بيولوجية إلى نفسية وثقافية واجتماعية. وهو ما يتحقّق عند باني، أسباباً وأعراضاً ونتائج بدرجات متفاوتة. كرفضها مثلاً لحقيقة كونها امرأة أصلاً، أو تواصلها السيئ مع أفراد عائلتها وعدم استقرار العائلة نفسها، أو انهدام علاقاتها بمحيطها وصعوبتها. وتتمثل كذلك في عجزها عن الاندماج مع هذا المحيط أو اندماجها المتوتر الصِدامي مع كل مكوناته. ثم فقدانها الذاكرة وتصورها عالماً آخر يتماشى وما كانت تصبو إليه، مع كلِّ ما ينتجه هذا التصور من هلوسة واعتقاد بالقدرة على قراءة أفكار الآخرين وتصوُرِ أصواتٍ بأحاديث معينة وازدواج المشاعر تجاه شخص ما، كحالها مع جدتها مثلاً، أو انكفاء على الذات وتفضيل العزلة أو الضياع وما يصاحبه من نفي للعالم فقدان الذاكرة، وتصور واقع آخر إلى غير ذلك من آثار سلبية على شخصية الفرد ومن ثم على حياته، ما يجعلها أخطر الاضطرابات الذهنية، بما تنتِجه من وهم وتوحُّد ونظرة خاطئة تماماً الى الحقيقة وبالتالي رفض وعزلة وعدوانية. اقترنت هذه الشيزوفرينيا بمازوشية وسادية تحقَّقتا لدى"باني بسطانجي"بمعنييهما: الخاص والعام. من الخطوط المميزة لشخصية البطلة الساردة أيضاً... أنها كاتبة!! نعم كاتبة. الشيء نفسه رأيناه في نهاية الرواية السابقة عندما صرحت الساردة بأن بطلتها أتعبتها. هنا أيضاً تصرِّح البطلةُ الساردةُ بأن الكتابة شغلتها عن رؤية طبيبها خالد سليم لانهماكها في كتابة نصٍّ أسمته"اكتشاف الشهوة"وهو عنوان الرواية التي نحن في صددها، ما يمثل تقاطعاً لبعض خطوط المتخيل مع بعض خيوط الواقع. وكأن الروائية الحقيقية، أي فضيلة تتوقع ما قد يثيره نصُّها هذا من ردودِ فعلٍ، فحسبت حساب القراء مُسبقاً وجعلتهم شركاء لها في نصها ورؤيتها. تصورت حواراً بينها وبين قراء مُفترضين مُعجبين منهم طالبة جامعية متحجِّبة، ص 136، ضمنته رأيها في نصها وفي الحجاب أيضاً محاولة التلطيف من بعض مواقفها، سواء تلك التي عبَّرَت عنها في هذا النص أم تلك التي عبَّرَت عنها في نصيها السابقين. وضمَّنته تكملة بسيطة لم تثبِتها الطبعةُ الحقيقية للرواية وهي الإهداء، وهو في المناسبة لتوفيق بسطانجي. توفيق بسطانجي الذي نراه للمرة الأولى في واقع الرواية مع البطلة وهو يستلم ورقة خروجها من مستشفى الأمراض العقلية، ثم يأخذها ليسافرا معاً إلى الآفاق التي تمنَّتها وحلمت بها طويلاً. وقبل نهاية الرواية بأسطُرٍ قليلة تؤكِّد البطلة شيزوفرينيتها بالتساؤل عمَّا إذا لم يكن هروبها من الواقع هروباً انفصامياً، ليجزم لها مرافقها بذلك كما نجزم به نحن أيضاً. غير أنه يستدرك: هروب لم يعدْ له الآن داعٍ بما أن الجزائر استعادت عافيتها. عبَرَ الواقعُ المحليُ والعربي هذا النص. لكنه عبورٌ انتقادي مرٌّ لكل جوانبه، انتقاد يشوبه شيء من السخرية، نال الكلُّ تقريباً نصيبَهم منه: من ذلك المثقفون مثلاً، اللبنانيون منهم ص 25 مثل غيرهم من المثقفين العرب الآخرين، الذين لا يناضلون من أجل تحرير المرأة حقيقة بقدر ما يناضلون من أجل الحرية الجنسية ص 61. والواضح هنا أن المثقفين اليساريين والليبراليين هم المعنيون أكثر من غيرهم. انتقاد يرِد في معظم حالاته في شكل مقارنة للواقع العربي - الشرقي عموماً بالواقع - الحلم: الغربي... طغى الجنس على هذا النص بصورة لم نشهدها في النصين السابقين، بلا أي مبرِّر فني أو غير فني وعلى نحو غير مفهوم اللهم إلاَّ إذا كان للروائية رأي آخر. وكان التعبيرُ عنه سوقياً إلى حدِّ الابتذال، سوقية لم تفارقه إلا حين استحضاره عند مورافيا وفلوبير وبروست ص 55. كان الهروب والانتقاد على مدار الرواية وجهة نظر البطلة الساردة التي نقلت إلينا كلَّ هذا بضمير المتكلم وهو كما أشرنا أكثر من مرة الضمير الأكثر ملاءمة لسرد الحميميات والاعترافات وإعادة بناء أجواء الفضاءات المُرتبطة بها. وبمناسبة الفضاءات والأمكنة العابرة لهذا النص، لا يجدُ قارئ النص الأجواء الحقيقية لباريس خصوصاً من يعرفها، على رغم ورود أسماء بعض شوارعها ومقاهيها فيه، مثل مقهى: لي دو ماغو، المنقول خطأ، ص 29 الذي شكَّل مع مقهيين آخرين هما"ليب"وپ"لو كافي فلور"الثلاثي الذهبي للأدب الفرنسي في النصف الأول من القرن العشرين لما كانت ملتقى للأدباء والكتاب والفنانين ومحبي الفكر والثقافة والأدب عموماً، كغيرها من مقاهي الدائرتين الخامسة والسادسة في السان ميشال والسان جيرمان والأوديون، إضافة بطبيعة الحال إلى مقاهي شارع مونبارناس وأهمها لاكوبول ولودوم وسواهما. كما أن هذا القارئ يعرف أيضاً أن أحياء أخرى من باريس لاسيما منها الواقعة شمال شرقها، توفِّر الأجواء العربية الخالصة بل حتى أجواء الجزائر العاصمة نفسها بأحيائها الشعبية، وخصوصاً في شهر رمضان مما يُخفِّف ألم الغربة وقسوتَها بعض الشيء. ومن هنا لا يكون لافتقاد الكاتبة هذه الأجواء أي معنى. إذ كان يكفيها أن تذهب إلى أحياء بارباس وقطرة الذهب وكل الدائرة 18 تقريباً، أو ستالينغراد وبالفيل التي لم تفقد طابعها العربي المغاربي؟ حتى بعد تجديدها وتحديثها، وهي في المناسبة الأحياء التي تسمع موسيقى"الراي"في معظم مقاهيها ومحلاتها، وليس في محلات أو مقاهي مونبارناس.