تحضر الأم منذ المفتتح وحتى الختام، فتشكل مركزاً للحكي السردي في رواية شريف حتاتة «شريط الحزن الأبيض» (مركز الأهرام للنشر/ القاهرة). يبدو الراوي الرئيسي مشغولاً بأشياء كثيرة، بالارتحال، والغربة، والسجن، والاعتقال، والأماني المجهضة، والأحلام النبيلة، مستعيداً عبرها جزءاً مركزياً من ذاكرته المقموعة، منطلقاً من لحظة الفقد الموجعة، التي مثَّلت حالاً من الكشف، واتساع الرؤية السردية. وهو يقول في هذا السياق: «بعدما ماتت أصبحت ماثلة في حياتي أكثر مما كانت وهي حية» (ص5). وفي النهاية، يشهد السارد/ البطل لحظة «الغُسل»، على رغم الرفض العارم للسيدتين الناهضتين بالمهمة، ثم ينصت إلى الحوارية الفاتنة عن الخط الأبيض الذي يقسم شعر الأم، فيبدو كأنه شريط من الحزن: «شفتي شريط الشعر الأبيض اللي في راسها ده. عمري ما شفت حاجة زيها. دا لازم الحزن هو اللي شق حياتها كده» (ص173). تتواتر الأمكنة والحكايات، ويتسع المدى الزمني نسبياً، ليصبح القارئ أمام تاريخ من التحولات العاصفة في بنية العالم والمجتمع المصري معاً. فالنشأة اللافتة للسارد (البطل)، جعلتنا أمام شخصية إشكالية تمزج بين ثقافتين متمايزتين. أمه إنكليزية، وأبوه مصري، وتظلل علاقته بالأمكنة المختلفة حالاً من البهجة العابرة. لا شيء يدوم في حياته، والانتقالات المكانية متواترة، ما بين القاهرة وبورسعيد والإسكندرية ولندن وباريس وبرشلونة، وغيرها. يجسد الزمن الروائي داخل النص جملة الارتحالات المضطربة، فيأتي متداخلاً، يتجادل فيه الماضي مع الحاضر، ويصبح الاسترجاع أداة أصيلة في معرفة العالم الجديد من جهة، وفي الكشف عن مناطق حميمة داخل الذات الساردة وعالمها الثري من جهة ثانية. ثمة إشارات إلى أزمنة فارقة ودالة، ترتبط بأحداث مركزية، من قبيل الحرب العالمية الثانية، وحضور السارد وأمه إلى القاهرة، والعيش لدى أحد الأقارب من الأثرياء، في مأمن من أي غارات محتملة من الألمان، ثم الإشارة إلى حريق القاهرة 1952، مصحوباً بجملة من الارتباكات الحياتية المدهشة والطريفة في آن. «أخذت تحكي لي عن صاحب هذا البيت. وصفته بأنه رجل أسمر، قصير القامة يرتدي طربوشاً طويلاً يُميِّلُه على جانب، وله شارب يصبغه بلون الفحم، وعينان صغيرتان تتحركان بنشاط أسفل حاجبين شعرهما كث، وأن أنفه الكبير يسبقه في السير، قالت إنها كلما صادفته وهي تتنزه صار يغازلها، فأصبحت تتفادى الشوارع التي تعوَّدت أن تصادفه فيها. سألتني إن كنتُ أعرفه؟ فقلت لها إنه حسب وصفها له رجل سياسي معروف، يحتل منصباً مهماً» (ص96). يستهل الكاتب روايته على مهل، فبعد التقديمة الدرامية التي يشير فيها إلى جوهر الحكي ومركز الثقل داخله -الأم- يضفر المتن السردي بالمعرفة العلمية على نحو الإشارة إلى «الانفجار العظيم»، منطلقاً منه إلى لحظة الولادة ذاتها، التي تعد بمثابة التأريخ الذاتي المباشر لكل منا، وإن بدت المقاطع السردية التي تلت المفتتح أكثر حيوية، فالقفزات الزمانية والارتحالات المكانية داخلها بدت مدهشة ونافذة إلى الروح، وبدا الربط بين الحوادث الفرعية وخط القص الرئيسي منطقياً وبلا تكلف أو ادعاء. تبدو دوريس تيلور، الإنكليزية المتزوجة من مصري، وشقيقة الضابط روبرت تيلور القادم إلى الصحراء المصرية لمحاربة رومل، عنواناً على أزمة هوية بامتياز، لكنها ليست من نوعية الأزمات المثارة في السرد العربية عامة. فهي أولاً امرأة غربية وليست عربية، كما أنها بالأساس تعد أزمة اغتراب، حيث شعرت دوريس بالانفصال عن البنية الاجتماعية المحيطة بها انفصالاً كلياً، بخاصة بعدما فقدت الابن (لسارد) إثر اعتقاله وسجنه والمطاردة الدائمة له، ومن ثم فقدت كل شيء، أهلها في إنكلترا، وزوجها الذي تزوج غيرها في سلوك لم تفهمه ولم تستطع التواؤم الثقافي- الاجتماعي معه، والدعم المعنوي قبل المادي من ابنها الوحيد: «وقبل أن أحضر إلى زيارتك في المعتقل بشهور علمت أن الرجل الذي ارتبطت به تزوج من امرأة أخرى سراً، فأصبت بصدمة عنيفة. أحسست أنه بين يوم وليلة قد أجد نفسي ملقاة في قارعة الطريق، فلم تكن لدي أي موارد يمكنني الاعتماد عليها، وأنت كنت في السجن لن تستطيع أن تفعل شيئاً لمساعدتي حتى أخرج من هذه الورطة. لكن ما كان أشدَّ تأثيراً بالنسبة إلي الإهانة التي أحسست بها ولصورتي عن نفسي، ولقيمتي كإنسانة» (ص169). يتواتر حضور المرأة في الرواية، عبر شخصيات مختلفة: القريبة الغنية فتاة الليل، نورا، الأم، ريهام، الزوجة. وتبدو المصائر مأسوية تارة، كمقتل المرأة الغنية، مصحوبة بالفقد تارة أخرى مثل رحيل الأم واختفاء نورا، وإن ظلت المرأة إطاراً مركزياً للسرد، منه تنطلق الحكايات وإليه تنتهي. تتحرك الرواية في مساحة اجتماعية محددة، فترصد جانباً من حيوات الشريحة العليا في الطبقة البرجوازية. هذا الوسط البيئي الذي يمتد قليلاً في النص ليشير إلى التحولات الاجتماعية التي صاحبت هذه الطبقة عبر عقود مختلفة، تغير فيها كل شيء، وإن ظلَّ خط القص الرئيسي في الرواية مشغولاً برحلة السارد/ البطل واسترجاعاته المختلفة، وانكساراته المتتالية، وبهجاته القليلة، وأحلامه التي لم تتوقف يوماً عن الدوران في فلك حياة لم تستنفد أغراضها قط. يحمل الكاتب شريف حتاتة تاريخاً من النضال السياسي، والمقاومة للاستبداد والقبح والرجعية، وتظل نصوصه مشغولة بهذا الجدل الرهيف بين الأدبي والاجتماعي، معنية بمزج السياسي بالجمالي، غير أنه في روايته «شريط الحزن الأبيض»، يبدو منشغلاً بالكتابة عن مناطق حميمة في الروح، وفي الكشف عن جوانب رهيفة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية المختلفة.