ليس الخط السردي لرواية الفلسطينية إيناس عبد الله «لا ملائكة في رام الله» (212 صفحة) كلاسيكياً تقليدياً، ولا تجريبياً تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة، بل يؤالف بين الاثنين، إذ تمضي الرواية من تفاصيل في حياة البطلة هبة، وتنتهي عند اكتمال تجربةٍ شخصية لها في الحب والزواج والفراق، وكذلك في الارتحال من المكان ثم العودة إليه. وفي الوقت نفسه، يروح التداخل بين الحاضر والماضي، وبين رام الله، وهي مدينة البطلة وعالمها المركزي، ومدن أخرى، في تجوالٍ يبدو حراً، ينضم إلى بعضه بفعل ما تبوح به البطلة لنفسها وللآخرين، وما تكشفه من هواجس ومخاوف وأحلام. لا يقع شيء من الإرباك في هذا، إذ يبدو السرد محكماً إلى حدٍ ما، وإنْ يأخذ في الصفحات الأخيرة للرواية صيغة مغايرة لما يحافظ عليها طوال نحو مئتين من صفحاتها. تفتتح الرواية عتباتها الأولى بحكيٍ للبطلة عن نفسها، وتخاطب فيه أيضاً آخر يتبدى محبوباً بلا اسم، وينفتح السرد على احتمالات ما سينشغل به مسار النص، كما في قول الساردة: «سوف يحدث أن الغرام والعشق والنار والموت ستتمازج في حياتي، بحيث يصعب فصل بعضها عن بعض». إنه الاشتباك الذي في داخل هبة بين ما تشتهيه من حياة وما تغالبه في الواقع، هو التوتر الحادث بين الصورة التي تريدها لرام الله وحالها كما هي قدامها، وهي المدينة التي تتبدى صلة البطلة بها علاقة حبٍ مجنونة، يخدشها أحياناً كرهٌ يفضحه الموقف من التحولات التي تطرأ عليها. وثمة توازٍ بين التهشيم الذي تتعرض له رام الله والتهشيم القاسي الذي تتعرض له البطلة في إخفاق حادثة الزواج الذي تذهب إليه بعقلها وبمقادير من أحلامٍ عبرت إليها، وتلبيةً لرغبة أهلها، حيث الزوج أميركيٌ من أصلٍ عربي، اسمه ستيف. يقيمان في بوسطن، ثم تصاب هبة بتوترات نفسية في أثناء حمل سريع تعمل على التخلص منه، وتتردد على عيادة طبيب، يهودي غير صهيوني، قبل أن تعود إلى رام الله التي تحدثت البطلة عنها في أولى صفحات الرواية إنها بعد مجيء ياسر عرفات إليها انقلبت رأساً على عقب، فصارت تضاهي عواصم الدول العربية، و «العائدون من المنافي جعلوها تقشر جلدها بسرعة». ثمة نبرة هجائية غير خافية تجاه القادمين إلى رام الله، وغيروا من تفاصيلها وإيقاعاتها، مع إنشائهم السلطة الوطنية التي يذهب إليها نقد شديد في الرواية، لعجزها المفضوح في تشكيل حالة دفاعية تحمي رام الله والبلد، وللأداء السياسي الذي لا يظْهر التشوش فيه أي أفق له، على رغم أن القناعة مسبقة لدى البطلة بأن ما عجزت عنه الثورة لا يمكن أن تحققه السياسة. ولافت في الرواية أنها تؤشر إلى مواقف سياسية شديدة الوضوح، ومن دون مواربة، وبشيء من الحدة، كما وصف غزة في ظرفها الراهن بأنها تورا بورا، ومملكة ظلامٍ تحكم بالهاتف الجوال من دمشق والقاهرة. لافت هذا الأمر، فيما المواربة والالتباس خصيصتان ظاهرتان في السرد عن اضطراب البطلة، موظفة البنك هبة، وهلوساتها أحياناً، وكذلك في التعبير عن اشتباك النقائض مع بعضها. وضوح السياسي ومباشرته في «لا ملائكة في رام الله» يبدو مسوغاً على مستوى البناء والتداعي الحر للسرد، على غير أمر المصادفات والوقائع النافرة في محطات من سريان القص والحكي. ومن ذلك، فإن مصادفة خبير عراقي والتعرف اليه في الطائرة إلى بوسطن، فيحدثها عن الموت الأعمى في بلاده الذي قتل زوجته، تبدو طبيعية، غير أن مصادفة البطلة له عند الطبيب الذي يعالجها من التوترات النفسية والضاغطة ضعيفة الإقناع. وينسحب الأمر على سفر هبة إلى دبي في دورة تدريبية، ما يبدو أنه لا لشيء إلا للحكي عن دبي وتوصيفها ببضع كلمات، من قبيل أنها مدينة «طيبة القلب، سعيدة بأمها الصحراء، تفتخر بتاريخها الرملي، وتفتح ذراعيها للعالم فيعانقها بدوره، رخاؤها استحقاق لا نفاق»، وذلك قبل تخيلها في ذهن الراوية/ الساردة/ البطلة على أنها مدينة الذهب، كما «يشاع» عنها، وهي «يشاع» عنها أن كل شيء فيها خرافة، وأن الملذات يمكن قطفها من على الأشجار الاصطناعية». يمكن النظر إلى هذا الأمر باعتباره من تعبيرات الرواية عن التشتت الذهني الذي تغالبه البطلة في مسار التجربتين، الحياتية والعاطفية، اللتين مرت بهما، وتتكئ عليها الرواية، حين يتداعى فيها البوح والمونولوغ والوصف والحلم، وكيفما اتفق في مقاطع تذهب بالقارئ إلى هواجس وتخيلات وتأملات متنوعة الإحالات إلى ما هو وطني عام، وذاتي خاص. يتوسل السرد في هذا كله صيغة ضمير المتكلم أو المخاطب وأسلوب الرسائل، وفي الأثناء، تبحث الساردة البطلة في رام الله، عند احتفالها بعيد ميلادها السابع والعشرين، «عن لؤلؤة كينونتها»، وذلك في أولى صفحات الرواية التي ينشب فيها إطلاق رصاص حوالي البطلة، ثم تنجو ولكنْ مصابةً من دخان غاز القنابل، وهي المصابة بالربو، فيتقدم منها شاب اسمه فارس، ينقذها ويسعفها، ثم تنجذب إليه عاطفياً، لتذهب الرواية إلى إضاءة حالة حبٍ لم يقيض لها أن تكتمل بالزواج. وإلى فارس، ثمة من الشخصيات في الرواية صديقتان للبطلة وجدتها المريضة والحيوية في الوقت نفسه، وهناك الزوج الأميركي ذو الأصل العربي الذي يفشل الزواج منه في شكلٍ يضع البطلة على حافة انهيار عصبي، تنجو منه بالعودة إلى رام الله مدينة الأحلام الأولى، وثمة أستاذ الآثار العراقي وابنته، وإليهم جميعاً هناك الشابة الأردنية التي تنجو من جريمة شرفٍ على ما لم ترتكبه. يمكن تظهير الأمر على هذا النحو، من دون افتراض أن «لا ملائكة في رام الله» رواية مشغولة أساساً بقصة حب خائبة وزواج فاشل، إنها معنية بالتعبير عن فضاءات اجتماعية وسياسية فلسطينية تكاد تكون البوصلة الوطنية فيها تائهة، وتكاد الرؤىالفردية فيها تكون ضائعة. وفلسطين في اللحظة الراهنة، كما يمكن معاينتها من خلال رام الله، مكاناً وناساً ومجتمعاً وسلطةً سياسيةً واحتلالاً، تبحث عن أفق ينشلها من ضياع تغالبه قضيتها، في موازاة مع مغالبة شابة فلسطينية تطلعاتها إلى عالم شخصي ومحيط اجتماعي خاليين من الضغط والتوتر والتيه.