أياً كانت الظروف والحيثيات التي حملت الشاب"الثوري"المتحمس الدكتور محمود أحمدي نجاد الى سدة الرئاسة الإيرانية، فإن مما لا شك فيه أن مطبخ صناعة القرار الإيراني بات أقرب ما يكون الى التوصيف القرآني القائل:"صفاً كأنهم بنيان مرصوص"، بعد أن انضم موقع الرئاسة الى صف موقع البرلمان واستتباعاً الى موقع القيادة العليا. ليسوا"محافظين"بالضرورة، ولا يمكن نعتهم بالعداء ل"الإصلاح"البتة، لكنهم أصوليون بالتأكيد يقولون إن جل اهتمامهم سيتركز على ضرورة"اصلاح"صورة الثورة والدولة التي باتت مشوهة عند عامة الناس من أهل الداخل، ومهددة من بعض أهل الخارج، بسبب"الميوعة"السياسية والثقافية التي روجت لها الطبقة السياسية الإيرانية عموماً، كما يزعمون. هؤلاء هم"رجال"الحكومة التي ينوي أحمدي نجاد ومن ساندوه تشكيلها قريباً لتخلف حكومة الرئيس محمد خاتمي المنتهية ولايته في الأسبوع الأول من آب اغسطس المقبل. لما كانت"نكهة"الفرد مهمة في صناعة السياسة في بلادنا تماماً كما هو"نفس"الطباخ في صناعة الغذاء، فإن دخول رجل"مغمور"سيتبعه دخول رجال"مغمورين"أيضاً في مهمة صناعة القرار فإن شكل"المطبخ الإيراني"سيأخذ طابعاً مختلفاً بالتأكيد عما سبقه حتى الآن. لن يتغير نوع السياسة واتجاهاتها العامة في البلاد، لأنها سبق أن تم تدوينها للعشرين سنة المقبلة، كما صرح الشيخ رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام في أول خطبة صلاة الجمعة له بعد"خسارته"المعركة الانتخابية أمام منافسه الشاب أحمدي نجاد. لكن ذلك لا يعني أبداً أن"نكهة"المائدة التي ستعد لكل موضوع لن تتغير أيضاً. ذلك أننا أمام مشروع جمهورية جديدة ستكون أولوياتها غير أولويات"الجمهوريات"التي سبقتها. القارئون لبعض سمات الجمهورية الجديدة التي يكتمل نصابها مع إعلان تشكيلة أحمدي نجاد الوزارية يقولون إن الأولوية المطلقة له ستكون السعي للتصالح مع الناس في الداخل تلبية ل"النداء"الذي يقال إنه كان السبب الرئيسي في حمل أحمدي نجاد الى سدة الرئاسة ألا وهو:"لقد عمت الرشوة والفساد والتمييز، فانهض يا أحمدي نجاد للاصلاح". وهو شعار شكل عماد الحملة الانتخابية للرئيس المنتخب والذي وصف بأنه من"جنس الناس". ولأجل القيام بهذه المهمة، فإن ما يتسرب عن جماعة أحمدي نجاد هو أنه سيولي هذه المهمة الى وزراء شباب جدد في مجال الاقتصاد والإدارة العامة والتجارة والنفط والطاقة و... مهمتهم الأساسية مكافحة الفساد الإداري والمالي واصلاح الهيكلية الإدارية والموازنة المالية للدولة. بعد ذلك ستكون المهمة الأقل إلحاحاً بالنسبة الى الطاقم الحكومي الجديد التوصل الى"تسويات"مع العالم الخارجي، أو ما يسمى بالمجتمع الدولي، وبتحديد أكثر الإدارة الأميركية. ليس بالضرورة لأنه يفضل الصِدام مع هذا العالم. بالتأكيد لن تكون سياسته مختلفة في الجوهر عما اتفق عليه الكبار حتى الآن في مجال السياسة الخارجية والذي رسموه للعشرين عاماً المقبلة، كما أسلفنا. لكن انضمام أحمدي نجاد لهؤلاء الكبار لا بد أن تظهر"نكهته"في الخارج ايضاً. ونكهته ستكون بأن الرجل وجماعته المدعومة بوصفة:"صفاً كأنهم بنيان مرصوص"لن يكونوا متحمسين لأي اتفاق كان وبأي ثمن كان وفي أي توقيت كان! انهم سيطالبون بالتأكيد وقريباً جداً - نهاية شهر تموز يوليو - حيث تنتهي المدة العرفية المتفق عليها بين ايران و"المجموعة الأوروبية"حول تخصيب اليورانيوم بضرورة إعادة النظر في نوع التعامل مع"المجتمع الدولي"بخصوص هذا الملف والذي يعتقدون ان"ميوعة"من سبقوهم من الوفد المفاوض، قد تعرّض الإنجاز القومي للبلاد الى حافة"التفريط"به. صحيح انهم يعرفون تماماً بأن الأمر لن يكون سهلاً، لكنهم سيتبعون نهجاً أقرب ما يكون الى سياسة"حافة الصدام"على أمل التوصل الى"تسوية ما"بدلاً من نهج أسلافهم ممن كانوا يتبعون نهج الاتفاق على"تسوية ما"والتهديد بسياسة"حافة الصدام"، وهو النهج الذي عابوا عليه انه استبدل"الجواهر الثمينة بماء السكر"كما كان يصفه دوماً أحد رجال الأصولية المنتمي الى"ظاهرة"أحمدي نجاد، في إشارة الى اتفاق باريس الذي يقضي بالوقف الطوعي من جانب ايران لعملية تخصيب اليورانيوم الى حين صناعة الثقة بينها وبين المجتمع الدولي، فيما تحول ما يشبه"الإلزام القانوني الصارم"لطهران والمطالبة بعدم العودة عنه واعتبار أي خطوة خلاف ذلك بمعنى"الخرق"لاتفاق باريس، فيما تعتقد طهران بأن العكس هو الصحيح شرط التخلي عن"الميوعة"السياسية المذكورة. وهنا ثمة من يعتقد بأن مجموعة أحمدي نجاد ستستخدم - بالإضافة الى"حزمها"المعهود - كل الأوراق"الاقليمية"التي بحوزة ايران والتي تعتقد ان أسلافها لم يستخدموها بما فيه الكفاية في مفاوضاتهم الطويلة مع المجتمع الدولي، أو لنقل أنهم لم يفعلوها كفاية! وهذا سيعني فيما يعني حسب بعض المحللين ان ايران قد تقدم على عرض"نكهة"جديدة أيضاً هنا بخصوص الملفات الخاصة بأفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، إذا ما تمادت المجموعة الأوروبية بالضغط عليها ودفعت بها الى"حافة الصدام"الحقيقي. لن تتغير بالتأكيد سياسة ايران العامة بخصوص ضرورة نزع التوتر مع العالم الخارجي وضرورة بناء جسور الثقة القوية والمحكمة مع الجيران ليس فقط كقناعة راسخة تثبت في الاستراتيجية الايرانية العامة، بل ايضاً كمصلحة ايرانية قومية عليا. لكن هذه المصلحة بالذات كما تعتقد المجموعة الأصولية الجديدة تتطلب"حزماً"من نوع جديد يقلب هرم التفاوض الفعلي ليضعه على قاعدته الصحيحة كما يعتقدون. وهي القاعدة الايرانية التقليدية الشهيرة التي تقول:"الحرب في البداية أفضل من صلح النهاية"بمعنى ان يكون كل شيء واضحاً وشفافاً في البداية مهما كان مراً على الطرف الآخر أفضل من إظهار النيات الطيبة"الساذجة"مصحوبة بالتسويف والمماطلة على أمل تسهيل مهمة الصلح التي قد لا تأتي. انها سياسة الرجل الذي قيل عنه انه قادم الى مطبخ الكبار من"جنس الناس"وستجد نفسها قريباً وجهاً لوجه أمام حكم التاريخ الذي سيسجل لها النجاح أو الفشل وليقول كلمته فيها الكبار والصغار، في ما إذا كانت سياسته تنفع الناس حقاً أم ستدفع بهم الى تجاوز"حافة الصدام"الى الصدام الحقيقي مع المجتمع الدولي لا سمح الله؟! * كاتب متخصص بالشؤون الإيرانية