على ضفتي سنة 1900 صرخ قاسم أمين صوتاً داوياً في كتابين دعا فيهما الى تحرير المرأة من ربقة الرجل ومن ظلم المجتمع والتقاليد. كان من الطبيعي أن يثير هذا الصوت"عش الزنابير"، فتنطع له كل من حمل قلماً تقليدياً محارباً مقاتلاً مكفراً - وأخيراً مناقشاً. وددت لو أن بعض طلابنا النبهاء وأساتذتنا العقلاء ممن ينفقون الوقت في كتابة رسائل الدكتوراه في أمور متنوعة يلتفتون الى هذا"الأدب"الذي انهال أو بعث أو نُبش حول هذا الموضوع. وبطبيعة الحال لم يقتصر الأمر على الاقلام المصرية، ولكن تنطع للبحث أو للشتم المقذع كل من حلم قلماً وكان يعنى بمثل هذا الموضوع. وقد تأثر عدد قليل من أصحاب العقول المتفتحة والأقلام النيرة بدعوة قاسم أمين فأيدوه. بل ان البعض رأى في دعوته اعطاء العنصر الرئيسي في المجتمع البشري في ديارنا صدقاً وحقاً، فلبّى النداء ولكن مع توجس وخوف، لأن قوة التقاليد التي قيدت المرأة رحباً من الزمن لم يكن من اليسير التغلب عليها في كتاب أو أكثر أو مقال أو أكثر. ودليلنا على ذلك ان المرأة في عالمنا لا تزال ربة بيت ومربية أطفال ومتعة للرجل. هذا مع العلم ان المتعلمات في ديارنا كثيرات. لكن أنا لا أتحدث عن بضع مئات من الألوف ولكن أقلب ناظري في أرض الله الواسعة. لكن صرخة قاسم أمين لم تذهب عبثاً بالمرة، ذلك ان أحوال المجتمع وسبل المعيشة والعمل كانت لها أثر كبير في تحرير جزئي للمرأة. فالحجاب الذي نعرفه في ديارنا الدنيا أصلاً هو الملاءة الملاية أو الحبرة التي تتكون من قطعتين تنورة فضفاضة تصل الى الكاحلين، وملاءة تغطي القسم المتبقي من الجسم من الوسط الى قمة الرأس، يضاف اليهما منديل يربط حول الرأس تحت الملاءة بحيث يغطي الوجه. هذا هو الحجاب الذي عرفته بلاد الشام أصلاً. وأمي كانت عندها ملاءة من الحرير سوداء استعملتها لما سكنّا في دمشق في حي الميدان، واستعملتها في جنين لما انتقلنا اليها 1917 الى انتهاء وجود الدولة العثمانية. اذ بعد ذلك أخذت السيدات المسيحيات يخففن الحجاب حتى نزعنه. أنا أعرف أن مناطق مختلفة من عالمنا العربي التي زرت أكثرها عرفت أنواعاً مختلفة من الحجاب، لكن المهم الفكرة - ان لا يظهر من جسم المرأة شيء أمام الرجل. لذلك فإن الحبرة أو الملاية أي التنورة كانت دائماً فضفاضة بحيث لا تبدي تقاسيم الجسم، أنا أتحدث عن الحجاب القديم، ولا أتعرض للحجاب الحديث، الذي لبسته فتياتنا حديثاً والذي يبدي في أحيان كثيرة مرتفعات الجسم الأمامية والخلفية. الحياة التي تبدلت كثيراً في مصر وبلاد الشام في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين ولنترك ما تبقى من القرن المرحوم جانباً كان لها أثر فاعل في تحرر وأحياناً تحرير جزئي في حياة المرأة. ذلك ان قيام السيدات بأعمال متنوعة بدأت بالتعليم وتلا ذلك دخول الجامعة ثم العمل في بعض المهن العامة من مثل التوظف في بعض المؤسسات الأجنبية في البلاد أولاً ثم الوطنية - في المصارف في دوائر الحكومة، على استحياء: كل هذا أدى الى تحرر جزئي يقوم أصلاً على نزع الحجاب، وكان الأمر في فئات محدودة من المجتمع، ثم التخلص من بعض العادات النسائية التي كانت تعتبر ضرورية في حياة المرأة مثل ترجيل الشعر وضفره وصفه. فلم يعد وقت هؤلاء السيدات للقيام بذلك، فقصصن الشعر ولبسن الثوب الذي لا يعرقل حركتهن. بدأ الأمر خجولاً، وساعدت الأحوال السياسية المرأة على التظاهر سياسياً في الغالب واجتماعياً في النادر على أن تخفف الثياب الخارجية بعض الشيء من كشاكشها وما شابه ذلك. وقد كان لسيدات مصر دور لا يستهان به في التظاهرات السياسية، التي كانت تسير بقيادات نسائية ذات مقام يشجع الأخريات على الانضمام. لكن فيما كانت النساء تمارس هذا الحق الى درجة ما في القاهرة والاسكندرية وسواهما، جربت سيدات دمشقيات في عشرينات القرن الماضي أن يقلدن سيدات القاهرة فألقى الشباب المحافظ على الأخلاق عليهن ماء النار. عنونت كلمتي بالإشارة الى صفية زغلول زوجة سعد زغلول. ذلك ان زعماء الوفد المصري، وعلى رأسهم سعد، لما عادوا من المنفى، ولما وصل القطار محطة باب الحديد في القاهرة، ونزل أعضاء الوفد والزوجات من القطار، نزعت صفية زغلول حجابها والقت به جانباً، اشارة الى تحرر المرأة. واذا كان قاسم أمين قد صرخ وأثار عشاً من الزنابير لا يزال يلدغ حتى الآن، مناقشاً، محاجاً، مُؤلاً، ذادباً، ساخطاً، حزيناً، شجاعاً، صارخاً، فإن عمل صفية زغلول أثار يومها موجة من السخط لكن السخط كان يخالطه - في القاهرة مثلاً - شيء من الأدب، لأن التي قامت بالعمل صفية زغلول زوجة زعيم مصر الأول الزعيم الأوحد استعملها مصطفى النحاس لما تولى قيادة الوفد ثم شاعت في دنيانا فيما بعد لكن للحاكم الأوحد. كنت في شبابي لما كانت الزوبعة ضد ما قاله قاسم أمين قد قويت وتشعبت نقاشاً واتهاماً الخ، لذلك قرأت الكثير عنها. ومن الأمور التي شاعت في ذلك الزمن هو انغماس الأدباء/ الأدباء، شعراء وثائرين في هذه القضية، فكان ثمة أدب حري بالدرس. لست أذكر، بعد هذه السنوات الطوال نحو ستين سنة، الكثير مما قرأته من حيث النص. لكنني أذكر ان أديباً مثل مصطفى صادق الرافعي نظم قصيدة يدافع فيها عن الشعر الطويل التي كانت السيدة تتعامل معه فناً ووقتاً فتبدو زينتها أبهج، مطلعها - ولا أذكر سوى المطلع. ماذا جنى الشعر حتى/ زجيته الخير شرا أرجو ممن يمكنه أن يحصل عليها أن يبعث بها الى"الحياة"لعل"الحياة"تعيد الى هذه القصيدة الحياة. أما أنا وانا في الثامنة والتسعين من عمري، فليس بعد في طاقتي أن أطارد قصيدة، وأنا قد توقفت عن مطاردة الغزلان - عفا الله عما مضى. كاتب ومؤرخ.