قُذِف الدخان الأبيض الكثيف على الطرف الأيمن للمدينة. في البدء راح يتصاعد عمودياً نحو السماء ثم ما لبث ان دفعه الهواء، فراح يتهادى صوب المدينة ويتغلغل في شوارعها، ينفذ الى البيوت، يدخل في كل شيء، ثم لفّ الأشجار، ولامس البراعم المتفتحة لبضعة أيام خلت ونزل الى الأرض الخصبة، فخضب جذور النبت والشجر، وحتى الأطفال الرضع عانقهم الدخان، وهم غافون في سرير، أو في حضن أم حنون. الدخان يسير. يحمله الهواء الذي لا يخلو من لسعات برد قارس والسماء صافية تماماً. فقد بدد الهواء الربيعي غيومها الداكنة التي كانت متراكمة بالأمس، دفعها عن وجه الشمس، فأشرقت هذه تزهو بأشعتها الدافئة. كان كل شيء مدروساً بشكل دقيق. فقد لوحظت تقلبات الجو، وعرفت حركة الهواء وسرعته، فحددت كمية الدخان، بعدها تم اختيار المكان المناسب لقذفه، ورشت المدينة به، وكأنها موبوءة بوباء خطير قُررت ازالته، والقضاء عليه بأطنان من الدخان الأبيض، كما كان يُقضى على البعوض في أيام الصيف بسيارات"الدخانية". هكذا كنا نسميها ونحن أطفال، كانت تجوب الشوارع والأزقة وهي ترش الدخان مع قدوم الليل. كنا نركض وراءها بمرح شديد لكي نصبح ضمن دائرة الدخان الكثيفة. عندها تنعدم الرؤية نسبياً فنلعب، ويضرب بعضنا بعضاً بمرح وبراءة. وما ان تبتعد السيارة حتى نرجع الى بيوتنا متعبين، ولننعم بعدها بنوم هادئ على سطوح المنازل، نوم ليست فيه لسعات بعوض. ولكن هذا الدخان غطى المدينة كلها بسرعة بالغة. فلم يدع للأطفال فرصة اللعب به، كلهم استنشقوا الدخان، نفذ الى الأنوف رغماً عنها، وتسلل الى الأعماق. وما هي الا لحظات حتى احمرت العيون، وشعر أهل المدينة لا البعوض بحرقة بالغة في وجوههم. وراحت تتسلل ببطء وتنتشر الى كل أقسام الجسد. وبحركات سريعة مذعورة ترك الناس كل شيء الا الاتجاه الى المياه الباردة ليطفئوا اللهيب المتأجج في أجسادهم، ملأوا الأحواض البلاستيك، السطول، قدور الطبخ، بالماء، وجلسوا يرشونه على عيونهم ووجوههم، وصرخ الأطفال، ارتموا أرضاً، ورقصت أجسادهم الناعمة كطيور مذبوحة. هرعوا الى الشوارع، لحقتهم امهاتهم. كان الدخان قد تسلل الى أعماق أفئدتهم، ركضوا بهلع شديد، وسرعان ما سقطت أجسادهم في الطريق، وعلى أعتاب البيوت، وسكتت أنفاسهم تماماً لتريحهم من عذاب لا يمكن وصفه أبداً. ومن الناس من هرع الى النهر الصغير الذي يمر في"اطراف المدينة ليشاهدوا هناك الطيور وهي تتساقط, الأبقار والأغنام والدواجن ترفس الأرض، تموت محترقة بالدخان. وشهد النهر مئات البشر، وهم مضطجعون على حافته، يغرفون الماء ليرشوا به وجوههم، ويغسلوا أعينهم علَّ الماء البارد يخفف اللهيب الذي راح يسري في كل عرق من عروق الجسد. وللحظات معدودة سكتت الأنفاس، وماتوا كلهم، النساء، الأطفال، الشيوخ، الشباب، الحيوانات، العصافير، وحتى جذور الشجر. كان الدخان كثيفاً. ميونيخ - طلال صابر النعيمي