ليس صحيحاً موقف أحزاب المعارضة"الديموقراطية"السورية، وموقف مثقفيها المؤيد لجماعة الإخوان المسلمين، والمدافع عن توجهها الأخير. وخاطئ أيضاً موقفهم من مثقفين غيرهم تمسكوا بعلمانية الدولة في مواجهة المشروع الإخواني، حين استشعروا خطراً في موقف تلك الأحزاب ومثقفيها، حيث اعتبر هؤلاء أن الإخوان قد تحولوا أو انتقلوا إلى الموقع الديموقراطي. بيد أنه إذا كان تبديل القوى السياسية مواقفها أو تكتيكاتها، بقصد كسب سياسي أو سلطوي، مبرراً بالمعنى السياسي، فإن التخلي والابتعاد عن العقائدية ليس معناه الانتقال إلى البهلوانية السياسية الرافضة للمبادئ والمتنكرة للأهداف الإنسانية الأساسية. إذ لا بد لكل فاعل سياسي من الوفاء لبعض القناعات والمبادئ، التي يعرّف نفسه بها ويتمايز بها عن غيره. فالديموقراطي ملزم بالوفاء والالتزام بحقوق الجميع في التمثيل والتمثل السياسي، وبمساواتهم القانونية. وهو مطالب، مثلاً، بالتمسك بمساواة النساء الحقوقية بالرجال، وألا يعتبر قضايا المرأة خارج الحقل السياسي، فيمكن إسقاطها من حساباته في سبيل الإطاحة بالنظام السوري. والأهمّ، ولكي يبقى"الديموقراطي"ديموقراطياً، عليه عدم المهادنة والمساومة أو التنازل عن عماد الفكرة الديموقراطية، أي أن الشعب هو صاحب الحق في التشريع وفي الحاكمية، ولا يكفيه حق السيادة فقط. في المقابل، لا يجوز للمثقف أي مثقف طي قناعاته بذريعة الغاية السياسية. إذ من المفترض أن يكون غرض المثقف هو البحث عن حقيقة معرفية أو علمية، وليس بغاية الكسب السياسي. أما موقع المثقفين الديموقراطيين السوريين فإنه يتحدد بمعركتيهم، الراهنة، والمقبلة، في مواجهة الاستبداد المستشري والمستفحل في النظام السياسي، وفي البنى المجتمعية، وفي الثقافة عموماً، وفي الثقافة السياسية تحديداً. غير أن مثقفي تلك الأحزاب مازالوا محكومين، على ما يبدو، بموقفهم الاعتراضي على السلطة، الذي يحددهم ويعرّفهم، حالهم في ذلك كحال أحزابهم التي لا تقوم بأي دور معارض، مكتفية أو مأسورة بموقفها وموقعها المعترض على السلطة فحسب، لا يحيد عن هذا الوضع سوى جماعة الإخوان التي تقوم بلعب دور معارضة فعلية. في الطرف الآخر من انقسام المثقفين السوريين، حيال الموقف من الإخوان، أو نقيضه الموقف من العلمانية، هناك من اعتبر، وأنا أحدهم، ضرورة"الكلام"و"الكتابة"دفاعاً عن المكاسب العلمانية في سورية. هذا لاعتقادهم أن المشروع الإخواني ليس إلا محاولة جديدة من قِبل الاستبداد، ليأتينا متلطياً بهيئة دينية، متنكراً لهيئته العسكرية القائمة بعد تفسخها وازدراء الجميع لها، بمن فيهم أصحابها وسادتها. ولم يكن تناولهم موضوع العلمانية بحثاً في المطلق، بل في الواقعية السياسية السورية. فالعلمانية السورية، أو علمانية الدولة السورية، ليست ترفاً فكرياً، ولا حوارية في المقهى السياسي السوري، إنما هي ضرورة للعملية الديموقراطية، بل يمكنني القول إنها عصب الديموقراطية المرتجاة في سورية. فالديموقراطية السورية ليست آتية من صراع اجتماعي أو أهلي أو طبقي صريح، لا يمكن إنهاؤه إلا بتسوية مؤداها المساواة السياسية والحقوقية. إضافة إلى عدم وجود حامل اجتماعي واضح أو محدد للمشروع الديموقراطي. فالبنية المجتمعية السورية متخلفة، وكذلك الثقافة الديموقراطية والحقوقية. فالمجتمع يقوم على كتل بشرية دينية وطائفية وقومية متعددة، لم تنجز بعدُ في ما بينها تعاقداً اجتماعياً سورياً، ما يهوّن على العديد من زعمائها، بل مثقفيها، طرح مشاريع اقتتالية أو انفصالية، خصوصاً مع مثول الحالة العراقية في شرق البلاد، والحالة اللبنانية في غربها، اللتين تتعثران في إقامة نظام ديموقراطي، ما يدفع العموم للتسليم بأن قدرهم ماثل في التقاسم الطائفي أو الديني للسلطة، وهو أقصى ما يمكن لأهل الشرق تحقيقه على صعيد نظام الحكم. أما الديموقراطية التي نقول بها جميعنا، فإننا نجترحها ونجتهد في تكوينها بشكل إرادي. في خطوة متقدمة جداً على البنية المجتمعية السورية، هادفين منها إلى إنهاء كل بنى الاستبداد الظاهر والكامن في اجتماعنا، وفي فهمنا. فاستبدادنا حاضر دوماً ليتخذ أشكالاً عدة بسهولة وسلاسة: كالاستبداد الوطني أو الديني، أو استبداد الأقلية، وكذلك استبداد الأكثرية. فالخشية من هذا، ومن سواه، تجعل التمسك بالعلمانية ضامناً لتحييد الدولة، قدر المستطاع، عن سيطرة أي أقلية أو أكثرية، بحجة أقليتها أو أكثريتها. فالإقرار بأن تكون الدولة على مسافة واحدة من كل سوري، بغض النظر عن جنسه أو دينه أو قوميته أو اعتقاده، هو الضامن الوحيد لإدامة الديموقراطية، ولعدم وقوعنا في تجربة ديموقراطية المرة الواحدة. لهذا نعتبر أن العلمانية ضرورة حاسمة، في حال التوافق عليها، لقطع الطريق على الاستبداد، من إمكان العودة إذا ما قيض لنا، وبنا، أن ننتهي من هيئته المسيطرة ذات مرة. التمسك بعلمانية الدولة يأتي في إطار نشر ثقافة الديموقراطية، والمساومة عليها تعتبر إعادة إنتاج للثقافة الاستبدادية. كذلك فإن التمسك بفصل الدين عن الدولة هو أمر مختلف تماماً عن إمكان تحقيقه، وعن طبيعة آليات وأزمنة تحققه. الحال في ذلك كحال الموقف من الديموقراطية أو حقوق الأفراد وحرياتهم، هو موقف كامل وغير منقوص، مع أن مسار وآليات وأزمنة تحقق الديموقراطية شيء آخر، وفيه كلام آخر مرهون بموازين القوى وبأزمنة الصراع. لذلك فإن خشية العلمانيين من الدعوة إلى تديين الدولة أو أسلمتها، بحسب الوثيقة الإخوانية، هي خشية تستوجب منهم إثارة النقاش والحوار مع"التشدد"بالتمسك بعلمانية الدولة. فأن نطلب من الإخوان المسلمين في سورية اعترافهم الصريح والموثق بمساواة كل المواطنين أمام القانون، وبمساواتهم حقوقياً في الدولة بغض النظر عن جنسهم أو دينهم أو قوميتهم أو اعتقادهم، في مقابل الاعتراف بهم بأنهم ديموقراطيون، وليس في مقابل إلغاء القانون 49 اللاإنساني الذي يبيح إعدام كل منتسب إلى جماعة الإخوان أو في مقابل حقهم في العودة إلى البلاد بكامل حقوقهم كمواطنين، وليس شرطاً للحوار معهم، فإن طلباً كهذا تعتبره بعض الأحزاب المعارضة، وبعض مثقفيها، طلباً تعجيزياً، لأن تحقيقه يجعل من الإخواني ليس إخوانياً. هذا صحيح، فعلى الإخواني ألا يبقى إخوانياً إن أراد أن يصير ديموقراطياً، بل وعليه أن يبدأ باستبدال اسم حزبه. فالفكر الديني السياسي هو خطر مباشر وحقيقي، وباستمرار، على حيادية الدولة علمانيتها وعلى حريات الأفراد وحقوقهم. وهذا يماثل قولنا للاستبدادي أن يتخلى عن مقولة الحزب الواحد القائد للدولة وللمجتمع، إن أراد أن نعتبره ديموقراطياً، كذلك أيضاً يواجَه الشيوعي بأن يتخلى عن الثورة. وأن يجد بعضنا أن جماعة الإخوان المسلمين في سورية حزب طائفي نابذ للطوائف والأديان الأخرى، فسنجد من بين مثقفي تلك الأحزاب من يعتبر في هذا القول تراشقاً بالطائفية. وعلى تقدير أن التراشق بالطائفية لا بد له من أن يكون بين طرفين طائفيين، فقد نفهم من ذلك إشارة إلى أن المتمسكين بالعلمانية هم من أصول أخرى وهذا غير صحيح أبداً. بل نخشى أن يكون القصد من ذلك إشارة إلى أن مواقف هؤلاء العلمانيين ليست وفاء لقناعاتهم، وإنما تمسكاً بانتماءاتهم الطائفية، وهذا غير القول بأن دافعهم ناجم عن شعورهم بالضغط أو بالعزلة أو بالخوف من مستقبل غير آمن لهم، فهذا تفسير لا يقلل من مشروعية موقفهم. فطالما أن الطرف المطلوب منهم تأييده أو التحالف معه في وجه السلطة، أو بأقل تقدير سكوتهم عن لاعلمانيته أو دينيته، لا يقدم لهم ضمانات حقيقية بعدم الاعتداء على حقوقهم، وأولها وأهمها حقهم في عدم اختزالهم لمجرد أفراد في طائفة أو في دين، فهم يرفضون أن يكون ذلك أحد مكونات هويتهم الفردية والوطنية، أو في اعتبارهم ناقصي أهلية إن كانوا إناثاً، أو في اعتبار آخرين مرتدّين عن دينهم. لهذا لا يؤخذ على كل هؤلاء تمسكهم بالعلمانية وإثارة الحديث عنها الآن، أو أنه يأتي في إطار مواجهة المشروع الإخواني بأسلمة الدولة السورية، فهذا تجنّ على نواياهم ودوافعهم، وهو اجتزاء للحقيقة بقصد تقزيمها وتمسيخها. هكذا هي المعارك دوماً، لا بد لها من طرف أو آخر ليبدأها، فهي لا تسقط من السماء ولا تنبت من شقوق الأرض. فحين يدعو الإخوان لدولة إسلامية، سيطلب من المتضررين منها معارضتها أو الوقوف في وجهها وفي وجههم، منخرطين في معركة ثقافية وسياسية وحقوقية. وإن أكثروا أو"تشددوا"في الحديث عن العلمانية، فلن يجعلهم هذا منحازين للنظام أو للسلطة كما ينظر إليهم بعض"ديموقراطيي"المعارضة، فالجوانب العلمانية في الدولة السورية ليست نتاج النظام الحالي، بل ولطالما كان الإخوان يصارعون لإلغاء تلك المكاسب العلمانية قبل وجود هذه السلطة. كما أن هذا النظام هو أيضاً ليس علمانياً بخلاف ما تشيع عنه الجهات الإسلامية، مع وجوب التمييز على أنه، على هذا المستوى، أكثر تقدماً بما لا يقاس بالإخوان ومشروعهم، أقلّه على صعيد النصوص والأدبيات، فهو لا يطرح نفسه بشكل طائفي، أو ممثلاً لطائفة دينية كما هي حال الإخوان. ولا يكفي لتحليل الطائفية على الإخوان أن يطلب مثقفو المعارضة من"العلمانيين"إطلاق الحكم نفسه على النظام، فالموقف العلماني ليس في موقع الحَكم بين الإخوان والسلطة، إن قال قولاً في هذا وجب عليه قوله في ذاك في العبارة نفسها، وكأنه قاضٍ بين أطفال متنازعين يُسقط التهمة عن طرف إذا كان الآخر متهماً بها. في معارك من هذا النوع، لا تكون الأولية هي البحث عن البادئ أو تحديده، بل المهم ضبط الفعل وتبيان ظروفه وأسباب نشأته. فمن غير المفيد إثبات إن كانت السلطة هي من بدأت تدمية الصراع مع الإخوان، أو أنها من أثار الشعور بالانتماء الطائفي أو تحميلها سبب كل تخلفنا واستبدادنا، فهذا لن يصلح ما أفسدته السلطة أو غيرها. وكذلك فإن إسقاط السلطة، بحد ذاته، لا يحل أزمة الوطنية السورية، ولا يفك عنان التنمية ولا يبيح الحقوق. فإن كانت المشكلة في طائفية السلطة فلن يكون الخلاص باستبدالها بسلطة طائفية، وإن كانت المشكلة في استبدادها العسكري أو الوطني، فالاستبداد الديني أو المدني حاله من حالها الاستبدادية. كما أن استبداد الأغلبية ليس أقل طغياناً من استبداد الأقلية بل ربما أفظع، لقدرته على تحقيق شرعية انتخابية، وإن كانت مكتسبة من تعداد طائفي. كاتب سوري.