عند بدايات سنوات الستين من القرن العشرين، حين سئلت كوكب الشرق أم كلثوم عن رأيها في فريق"البيتلز"الغنائي البريطاني، الذي كان قد فرض حضوره في العالم كله خلال سنوات قليلة، قالت:"انها قد لا تكون معجبة بالأسلوب الغنائي والموسيقي الصاخب الذي اتى به ذلك الفريق، وقد لا تكون معجبة بالشكل الخارجي الثياب وقصة الشعر التي تميز اعضاءه، لكنها بالتأكيد ترى ان المستقبل له، وان هذا الاسلوب"سيسود ويؤثر في شبيبة العالم، شئنا أم أبينا". أما الكاتب يحيى حقي، الذي كان من اكثر ابناء جيله من الادباء، انخراطاً في الفنون وكتابة عنها، فإنه اعتبر فريق"البيتلز"الخنافس"صرخة حقيقية في وجه رأسمالية جشعة لا تكف عن الاساءة الى نفسها والى العالم"، مضيفاً:"كيف تريدون للمظلوم ألا يصرخ زاعقاً في وجه الذين ظلموه". ومن الواضح هنا ان يحيى حقي انما اعتبر غناء البيتلز"صرخة مظلوم". وفي امكاننا ان نفترض انه لو لم يكن الهجوم على الرأسمالية في شكل مطلق رائجاً في تلك الايام، لكان في وسع يحيى حقي ان يقول رأياً اكثر صواباً، حول صراع الاجيال داخل المنظومة الرأسمالية، وخارجها، الذي اتى غناء"البيتلز"ليعبر عنه. وإلا لكان من الصعب تفسير نجاح غناء"البيتلز"في غزوه للعوالم كلها: الرأسمالي والاشتراكي وما بينهما خلال سنوات قليلة. ذلك ان ما في امكاننا ان نتحدث عنه اليوم حقاً، بصدد الحديث عن تلك الثورة الغنائية والموسيقية التي أتى بها ابناء ليفربول الاربعة الصاخبون بول ماكارتني، جورج هاريسون، رنغو ستار، وجون لينون، انما هو كون تلك الثورة جزءاً من ذهنية عامة، بدأت ارهاصاتها في نوع من الفهم الشعبي للفلسفة الوجودية، برز ما إن انقضت الحرب العالمية الثانية، بمذابحها ومساوئها، لتحل مكانها حرب باردة وتهديد نووي وصراعات خفية راحت تملأ العالم وتطلق قوى الرفض من عقالها. في مثل تلك الاوضاع، كان لا بد لأجيال جديدة، زاد انتشار السينما وعولمة الثقافة العالمية وقرب المسافات بين الأمم والأفكار، من أن تزيد حدة غضبها على مجتمع الماضي ومجتمعات الآباء... وتحديداً على خطوات مسرح بريطاني غاضب ومسرح عالمي عابث ولا معقول، كانا ظهرا تحت شعار جعله جون اوزبورن عنواناً لواحدة من اولى مسرحياته"انظر الى الوراء بغضب". وتلك السنوات كانت على اي حال سنوات بروز الجاز وألفيس برسلي وجيمس دين والروك اند رول، في أميركا، وبروز حركات التحرر في البلدان النامية، وتنامي الصراعات بين امبرياليات ذات وجه جديد، وأخرى ذات وجوه قديمة مكشوفة. والحقيقة ان ثورة الغناء والموسيقى كما عبر عنها فريق"البيتلز"انما ولدت من رحم ذلك كله، كما ولدت - وربما مواربة - من رحم شعر وفن البيتنكس الاميركي الرافض... اضافة الى عامل آخر، فني قومي الى حد ما هذه المرة، هو الرغبة الانكليزية في الإفلات من السيطرة الاميركية الكلية على الموسيقى والغناء في العالم. وهكذا، على الارجح تضافر هذا كله ليطلق أولئك الشبان المرحين الصارخين الذين كانوا في ذلك الحين في العشرينات من عمرهم، ولم يكن اي منهم ليتوقع ولو جزءاً يسيراً من النجاح الذي حققوه معاً. طبعاً نعرف، من خلال قراءتنا تاريخ هذا الفريق ان بداياته كانت مختلفة عما آل اليه وضعه لاحقاً، وان اشخاصاً تبدلوا فيه: تركه البعض وانضم اليه البعض الآخر. وحتى الاسم تبدل غير مرة... غير ان سنوات المخاض ما لبثت ان انتهت، تحديداً في العام 1961، حين قيض للفريق، وقد اكتمل كما سنعرفه لاحقاً، رجل اعمال فطن هو بريان ايشتاين، الذي ما إن أصغى الى بعض اولى الاغنيات، حتى صرخ كما كان فعل ارخميدس قبله بقرون:"وجدتها"ثم فرغ نفسه... واذ انضم رنغو ستار، صاحب الموهبة المدهشة الى الفريق، ظهرت اغنية Love Me Do، التي سرت في سماء الغناء العالمي كالعاصفة، لتتبعها خلال السنوات التالية، سلسلة اغنيات وسلسلة اسطوانات وسلسلة حفلات وجولات، قفزت بالشبان الاربعة الى الصف الاول من صفوف الساحة الموسيقية العالمية، خصوصاً ان المخرج البريطاني"الغاضب"بدوره ريتشارد ليستر والذي كان في ذلك الحين احد ألمع وجوه"السينما الحرة"في بريطانيا، التقط الفريق وحقق معه وله فيلم"ليلة يوم متعب"... ولسنا في حاجة الى ان نذكّر هنا بمقدار النجاح الذي حققه الفيلم وأغانيه، في تواصل مدهش للنجاح الهائل الذي راح يحققه كل عمل يصدر عن"البيتلز". لقد كتب الكثير حول اسباب ودوافع وعناصر نجاح هذا الفريق وأغانيه. واذا كان لنا ان نلخص ما كتب، يمكننا ان نتوقف عند عناصر قليلة: فإذا كان الحب قد شكل العنصر الاول في معاني اغاني"البيتلز"، لا شك في ان هذا لم يكن جديداً، طالما ان الغناء كان دائماً مرتبطاً بالحب. الجديد هنا كان مسحة الواقعية التي تضافرت مع رومانسية الحب كما عبرت عنه اغاني الفريق. والجديد ايضاً كان في البعد الاجتماعي للنصوص. فمن يحب هنا - ومن ينطق الفريق باسمه في اغانيه - لم يعد انساناً آتياً من اللامكان معلقاً في سماء النجوم المرصعة ليلاً، تحت اشجار الدفلى، بل صار انساناً من لحم ودم، ينتمي الى طبقة عادلة تكدح وتتعب لكي تأكل وتعيش، فيما المجتمع الطبقي أو مجتمع الكبار يحاول منعها من ذلك. والتغني بالحب يأتي هنا في تضافر مدهش مع رفض الحرب ورفض القنبلة ورفض الاسلحة، ورفض كل الايديولوجيات الداعية الى قتل الانسان للانسان، اضافة الى رفض كل فكر مهيمن... طبعاً لا يمكن القول هنا ان كل اغاني"البيتلز"والتي تضمها ألبوماتهم الثلاثة عشر وأفلامهم الثلاثة، التي قدموها معاً، خلال سنوات تعاونهم تتحدث عن هذا بكل وضوح، ولكن يمكن القول، ان هذا الجو الثوري الرافض للماضي وللهيمنة الاجتماعية والاخلاقية والطبقية، كان يتسلل من خلال الاغاني واختياراتها الموسيقية. وهذا ما ادى، وسط مناخ مؤات كان هو الذي سيؤدي بالطبع ايضاً، الى ولادة ثورة الطلاب والشبيبة في الستينات - والتي لا يمكن في اي حال فصلها عن"ثورة"موسيقى وغناء"البيتلز"، الى ولادة فرق اخرى مشابهة، بعضها سيكون اكثر راديكالية من"البيتلز"فريق"رولنغ ستون"مثلاً، صاحب اغاني الرفض مثل I Got No Satisfaction، وأغاني معاداة حرب فيتنام - وكل الحروب - مثل Paint it Black ما عمم الثورة الموسيقية - الغنائية وثورة الفنون الى حد كبير. غير ان هذا كله سرعان ما خبا كما نعرف. فالفريق انتهى الى الفرقة، وقتل احد كباره جون لينون في شكل تراجيدي. وهذا النوع من الفن كله حدث له، بسرعة، ان استوعب تحديداً من قبل رأس المال الذي انتفض هو في الاصل للثورة عليه كما يحدث دائماً لكل فن ولكل تمرد... غير ان تأثيراته ظلت باقية، بصرف النظر عن وجوده كثورة واضحة. اذ ان اجيال أيامنا هذه، اذا كانت قد رمت جانباً كل البراءة الساذجة التي جرت محاولات كثيرة لتوريثها اياها، أسوة بميراث اجيال النصف الاول من القرن العشرين، فإن هذا يدين، جزئياً على الاقل، الى ذلك الوعي الاجتماعي الذي حملته ذات يوم ثورة فنية اطلقها فنانون شبان، ملأوا العالم صخباً وضجيجاً وغناء وثورة.