لم يكن الأمر، في البدية، اكثر من حفل غناء ورقص كان يراد له ان يجتذب ما لا يزيد عن ثلاثين ألف متفرج. وكان هذا الرقم كبيراً جداً على اي حال، حتى ولو كان قد أعلن مسبقاً ان بعض كبار مغني وفرق "الروك" ومختلف انواع الغناء الآخر سيشاركون فيه. فالمكان الذي تقام فيه الحفلة بعيد الى حد ما عن العمران، حتى ولو كان يقع في ولاية نيويورك غير بعيد عن مدينتها العملاقة، غير ان منظمي الحفل سرعان ما ادركوا انهم، في تقديراتهم الأولية، كانوا متواضعين اكثر مما ينبغي، اذا ما ان مضت ساعات على بدء استقبال المتفرجين، حتى بدا واضحاً ان العدد سيصل وبكل سهولة الى نحو نصف مليون، اي خمسة عشر ضعفاً واكثر، مما كان متوقعاً. من هنا كان المنظمون، اول من فوجئ. والعالم كله فوجئ بعد ذلك، وعلى هذا النحو دخلت المنطقة التي اقيمت فيها الحفلة، تاريخ القرن العشرين من بابه الواسع، وارتبطت الى الأبد بحركات الاحتجاج الشابية والنضالية: "وودستوك". والآن تعتبر "وودستوك" منطقة موجودة دائماً، لكنها الى هذا تحولت الى ذلك الفيلم السينمائي الشهير الذي خلد اللحظة التي استمرت اياماً ثلاثة. وأضافة الى هذا صارت "وودستوك" علامة وذكرى على جيل. فالحال ان الحفلة الغنائية الراقصة كانت اكثر من مجرد مناسبة للهو. وكان الظرف الاميركي والعالمي يهيئ لهذا كله. فقبل عام من انعقاد "وودستوك" كانت احداث الطلاب في فرنسا قد عصفت بيقينات الغرب كله، وكانت احداث تشيكوسلوفاكيا قد عصفت بيقينات الشرق. وكانت مجازر المكسيك وتصعيد الحرب الفيتنامية، واشتداد النضال الزنجي بعد ان تبدت اوهام "الحقوق المدنية" مجرد حبات اسبرين لا أكثر. وسط ذلك كله كانت شبيبة اميركا تبحث عن عالم افضل، عالم مختلف عن العالم الذي يعدها به ريتشارد نيكسون وقنابل النابالم فوق رؤوس الفيتناميين، وكانت الحركات الهيبية قد بدأت تنتشر. وأتت "وودستوك" وسط ذلك لتؤكد الدور الذي يمكن للفن ان يقوم به في الاحتجاج الثوري... الفن ولكن خصوصاً الموسيقى والغناء. ففي تلك الأيام كانت ثورة "البيتلز" لا تزال في اوجها وكانت موسيقى الروك قد تحولت من مجرد صخب راقص الى رمز لاحتجاج الشباب. وهكذا اجتمع، في وودستوك، غضب الشباب وتطلعهم الى امل افضل، مع صخب الموسيقى المعبرة عن ذلك الغضب. وزاد من حدة هذا كله ان منظمي الحفل، بعد ان وصل الى المكان نحو ستين ألف شخص، وجدوا انفسهم مرغمين على الاعلان بأن احداً لن يدفع اجراً للحضور بعد الآن. فالحفل صار مجانياً. وهكذا اكتملت الدائرة. وعاشت منطقة وودستوك بين 15 و17 آب اغسطس 1969 حالة عجيبة، كان فيها كل يتفرج على الكل: نصف مليون متفرج كانوا هم في حد ذاتهم مشهداً في غاية العجب، واربعون فريقاً اتوا بآلاتهم واجهزتهم المكبرة للصوت وايضاً بشعاراتهم الغاضبة، وكل ذلك وسط مناخ اخوي جعل شعاره "ثلاثة ايام من السلم والموسيقى". وكان مطلق هذا الشعار شاب في الثالثة والعشرين من عمره يدعى جون روبرتس، كان هو على اي حال صاحب الفكرة والمنظم والممول الاساسي للمشروع. من كبار الفنانين الذين شاركوا في الاحتفال يومها البريطاني جو كوكر الذي سيصرح بعد ذلك بقوله انه ابداً لم ولن يحدث له في حياته ان يغني امام مثل ذلك العدد الضخم من الناس. وكانت هناك، بالطبع، جوان باز، صاحبة الصوت الذهبي، التي راحت تغني اغاني الاحتجاج ضد حرب فيتنام، امام الألوف من الشبان الاميركيين الذين كانوا يرفضون الذهاب لخوض الحرب في فيتنام ضد جيش هوشه منه، كما راحت تحيي ذكرى النقابي الاميركي الشهيد جو هيل، على ايقاع نشيد "علم النجوم الخافقة".