ربما كان من الصعب تذكّر فيلم يمكن لصورة واحدة ان تختصر اجواءه كلها... ومع هذا هناك الكثير من الصور التي تختصر افلاماً او بالأحرى روح هذه الأفلام. من هذه الصورة، تلك التي نرفقها مع هذه النبذة: هي تعكس واحداً من اول مشاهد فيلم اميركي حقق في العام 1952... وفيها، كما سنفهم لاحقاً في الفيلم اناس عاديون، مع ان قدراً كبيراً من القلق يخيم على وجه الشخصية المحورية: شخصية الشريف ويليام كين ونراه هنا تحت ملامح غاري كوبر، الذي كان في ذلك الحين يعيش آخر سنوات مجده السينمائي فجاء دوره في هذا الفيلم ليعجل من تألقه على رغم اكتهاله. وهذا القلق يتواكب مع شيء من الحيرة يبدو على محيا الصبية الواقفة الى جانبه: انها خطيبته، والاثنان يعيشان استعداد عرسهما، في الوقت الذي يتجه الشريف كين الى ترك منصبه والانصراف الى حياة عادية، بعدما أنفق سنوات كثيرة من حياته وهو يضبط الأمن. على الحائط الى يمين الصورة ثمة ساعة تشير الى العاشرة والنصف قبل الظهر... وهذا التوقيت شديد الأهمية هنا، لأن الفيلم نفسه سينتهي احداثاً بعد ساعة وثلاثة ارباع الساعة، اي ان اللقطة الأخيرة فيه ستكون عند الظهيرة والربع. وأما القلق البادي على وجه غاري كوبر الشريف كين فستحل محله في اللقطة النهائية نظرة احتقار الى تلك البلدة وإلى اهلها... نظرة حادة مريرة حاقدة محقة يلقيها كين على اهله وجيرانه، فيما ينتزع نجمته الرسمية من على قميصه ويلقيها ارضاً في اتجاههم. كل هذا يبدو هنا اشبه بأحجية... ولكن الذين شاهدوا فيلم "رعاة البقر" هذا، عندما عرض للمرة الأولى بداية سنوات الخمسين من القرن الماضي، ثم حين عرض وأعيد عرضه مراراً وتكراراً بعد ذلك، يدركون حقيقة ما حدث ويعطون الشريف كين الحق في موقفه النهائي، كما يفهمون سر قلقه الذي بات يخيم على ملامحه منذ دقائق الفيلم الأولى. عنوان الفيلم هو "عز الظهيرة"... مع انه قدم في بلدان عدة في عنوان يقارب عنوانه الفرنسي "القطار يصفر ثلاث مرات". ونحن اذا كنا في السطور السابقة وضعنا معوقات من حول وصفه بفيلم "رعاة بقر"، او كواحد من افلام "الغرب"، فإننا تعمدنا هذا، لأن "عز الظهيرة" يتجاوز هذين الوصفين كثيراً: فهو، قبل اي شيء آخر، فيلم اخلاقي فكري عميق يتحدث عن شجاعة الفرد وجبن الجماعة... ثم بخاصة عن المجابهة الحتمية بين تلك الشجاعة وهذا الجبن. صحيح ان السينما - بين فنون اخرى - طاولت هذا الموضوع مرات ومرات على مدى تاريخها، لكنها ابداً لم تصل في التكثيف والإيضاح الى المستوى الذي بلغته في هذا الفيلم المأخوذ اصلاً عن رواية للكاتب الأميركي جون كاننغهام. ولعل ما يزيد من حدة الدلالة - المناهضة لجبن الجماعة - في هذا الفيلم، كونه أنجز وعرض في زمن كانت شرور الماكارثية مستشرية في طول اميركا وعرضها، ولا سيما في هوليوود، حيث كانت محاكمة النيات والانتماءات اليسارية والديموقراطية، من جانب اليمين المهيمن على اميركا وسلطتها وربما مجتمعاتها ايضاً، على قدم وساق. ولقد كان مخرج الفيلم - وصاحب مشروعه اصلاً - فرد زينمان واحداً من الذين تطاولهم تلك المحاكمات. ولقد كان زينمان في ذلك نقيضاً لإيليا كازان، الذي وشى برفاقه تحت ضغط "لجنة النشاطات المناهضة لأميركا" السيئة الذكر التي كانت تتهم الديموقراطيين وتدينهم وتحاكمهم، وسط صمت جماعي جبان وعنيد... زينمان لم يش بأحد، بل تحمل ضغط اليمين بقوة، ثم قدم هذا الفيلم الذي شاءه شهادته على ما يحدث... وإدانة ل"صمت الغالبية الصامتة" اكثر من إدانة الأشرار انفسهم. والأشرار في "عز الظهيرة" يمثلهم مجرم كان الشريف كين ساهم قبلاً في ايصاله الى السجن بعدما قبض عليه. وهذا المجرم تصل الأخبار الى البلدة الصغيرة، بأنه قادم في قطار الظهيرة وقرر ان ينتقم من الشريف الذي سبّب له المتاعب. وفي المحطة ينتظر المجرم شقيقه واثنان من رفاقه الأشرار. أما الشريف نفسه فإنه في ذلك اليوم بالذات كان على وشك ان يتقاعد وها هو يستعد لعرسه من حبيبته، التي ما كان يريد ان يقترن بها، إلا بعد استقالته من عمله الأمني. ولكن الآن، امام هذا الظرف الجديد، ها هي مشاريع كين في طريقها الى ان تتلخبط. بيد ان مسؤولي البلدة وأعيانها، إذ عرفوا باقتراب المجرم من قريتهم، هرعوا الى شريفهم ليقنعوه بجدوى الهرب وعدم المقاومة. فالشر اقوى من النيات الطيبة... وهذا المجرم هو ورفاقه اعتى من ان يقاوَموا. لكن كين يرفض. فهو لن يهرب امام مجرم يريد الانتقام منه، ومن البلدة بالتالي، ولن يرضخ لتوسلات اهله وجيرانه وأبناء بلدته... ولا حتى لتوسلات عروسه، التي - انطلاقاً اصلاً من كونها تنتمي الى طائفة الكويكرز - لا تؤمن بالعنف، فتنصح عريسها متضرعة ان يترك كل شيء ليرحلا معاً ويعيشا في سلام ودعة... وليتركا المجرم على إجرامه. طبعاً كين يرفض هذا كله... فهو، اولاً، ليس من النوع الجبان، وثانياً يعرف انه إن هرب الآن سيواصل المجرم مطاردته... كل ما في الأمر، إذاً، هو ان اهل المدينة إذ يطلبون منه الهرب، فليس هذا حفاظاً عليه، بل تخلص من المشكلة، عسى ان يطارده المجرم الى اي مكان آخر وليفعل به ما يشاء. وهكذا اذاً، يقرر كين ان يبقى ويقوم بمهمة اخيرة بصفته "شريفاً" مسؤولاً عن امن البلدة. وهنا في خضم الأحداث التالية، والتي تستغرق ما لا يزيد كثيراً على الساعة ونصف الساعة، يعود الفيلم ليتخذ سماته الطبيعية كفيلم صراع وعنف و"رعاة بقر"... ذلك ان المجرم يصل على متن القطار في الساعة الثانية عشرة تماماً، وينضم إليه أخوه ورفيقاه في المحطة... اما في البلدة فإن الشريف كين وحيد: لم يرض احد من اهل البلدة بمساندته او حتى التعاطف معه... بل ان في بعض تصرفات هؤلاء ما يعيق حركته ويؤدي الى خسارته. لكنه، لا يأبه بهم، بل يخوض قتاله وحيداً ضد الأربعة... وهذا القتال يستغرق كل زمن الفيلم تقريباً، وتصوره لنا كاميرا فرد زينمان لحظة بلحظة، وسط بلدة خلت ازقتها من المارة، تحت شمس لاهبة، وأمام نوافذ أطلت منها مرتعبة نظرات اهل البلدة الجبناء... تتمنى طبعاً انتصار "البطل"، لكنها لا تأبه إن هو خسر، طالما ان الشر سيبعد عنها في الحالين. طبعاً، نعرف ان الشريف سيتمكن من المجرمين الأربعة، متخلصاً منهم واحداً بعد الآخر... لكن المهم هنا ليس هذا الانتصار الطبيعي، بل انعكاسه على نظرة كين الى اهل البلدة، وبالتالي كون هذه النظرة معدية، إذ ان الجمهور - المشاهد للفيلم - والذي يتعاطف مع كين منذ البداية، سرعان ما يجد نفسه غائصاً في موقف احتقار صاخب ازاء اهل البلدة، تواكبه لا مبالاة تامة إزاء الأشرار... فالشر ليس دائماً هناك حيث يلوح لنا، بل هو ايضاً - وفي شكل اخطر - في النفوس الجبانة. هذا هو، إذاً جوهر هذا الفيلم الذي اتى على هامش الصراع بين الماكارثية والديموقراطيين الأميركيين، ليحدد موقفاً جريئاً وواضحاً من ذلك الصراع، عبر كاميرا مخرج ملتزم، كان معنياً بالمسألة برمتها. وفرد زينمان كان دائماً واحداً من اكثر مخرجي السينما الأميركية الملتزمين عند اواسط القرن العشرين... وهو لم يخف ابداً اهتماماته الاجتماعية في عشرات الأفلام التي حققها، والتي كان آخرها في السبعينات، فيلم "جوليا" من تمثيل جين فوندا وفانيسا ردغرين في دور اساس اعطاها زينمان اياه في وقت كان اهل السينما الهوليووديون يقاطعون فانيسا بسبب تعاطفها مع القضية الفلسطينية.