في حديث له مع المخرج الناقد بيتر بوغدانوفيتش، قال ألفرد هيتشكوك مرة: "واحد من الأسباب التي من اجلها أجعل بطلي هارباً من البوليس والمجرمين على حد سواء هو انه اذا لم افعل ذلك تساءل المشاهدون لم لا يذهب الهارب الى البوليس لحل مشكلته. ضروري جداً ان يتعاطف المشاهدون معه. بجعله مطارداً من البوليس لا يمكن له ان يتوجه اليهم... أليس كذلك؟". ببساطة شديدة يمنح ألفرد هيتشكوك قارئ هذه الكلمات مبرراً وجيهاً للسبب الذي من اجله لا يضع أبطاله، وهم عموماً متهمون - ابرياء، ثقتهم بالشرطة والعدالة ويفضلون الهرب منهما. وإذا ما راجعت افلامه لا تجد ان أياً من أبطاله رجل بوليس من اي نوع مرتبة او درجة، وحين يستعين هيتشكوك بأحد منهم في هذا المجال كما في "سايكو" و"جنون" أو "الرجل الخطأ" فهو لتأثير موقت او محدود وبحجم مساند. لكن هذا الجزء من الحديث الذي هو واحد في سلسلة احاديث طويلة تمت، على مدار سنوات بين هذين المخرجين شبيهة بتلك التي جرت ايضاً بين "هيتش" والمخرج فرنسوا تروفو يكشف ايضاً عن قيمة اساسية في سينما هيتشكوك قلما يتم الحديث عنها ومن الصعب الا بالتقليد ربما، ولحين بسيط. هذه القيمة هي التفكير بدلاً عن المشاهد ومعرفة كيف سيتجه بتفكيره وماذا سيسأل وكيف ستكون ردة فعله على المشهد اذا ما حققه هيتشكوك على هذا النحو او ذاك. لا عجب انه لم يكن فقط سيد التشويق ولا يزال بل ايضاً المخرج الأشهر بين الجمهور الذي اولاه اهتمامه وفهم توجهاته وأجاب اسئلته قبل ان يطرحها. من غير هيتشكوك كان يتجرأ فيلماً وراء فيلم على تصوير ما يدور من دون التواءات ومفاجآت مصطنعة، ويحقن مشاهديه في الوقت ذاته بأعلى شحنة من الاثارة؟ من غير هذا المخرج العبقري الى اليوم الذي يستطيع ان يقول انه يحسن ممارسة هذه التوليفة؟ الرقم 13 اليوم، الجمعة الثالث عشر، كما في أفضل خرافات الرعب الحديثة، هو عيد ميلاد المخرج الأشهر في التاريخ: ألفرد هيتشكوك، سيد التشويق بلا منازع ولد قبل مئة سنة. ففي 13/8/1889 ولد في لندن ابناً لتاجر فاكهة. في سن مبكر سألوه: ماذا تريد ان تصبح حين تكبر؟ أجاب: مهندساً ميكانيكياً. في سنة 1914 حققوا له رغبته فوضعوه في مدرسة للهندسة. تطلب الأمر منه اربع سنوات من الدراسة ومن العمل في هذا الحقل قبل ان يقرر، في العام 1918، ان الهندسة الميكانيكية ليست المستقبل الذي يرغب فيه. لم يرد ترك عمله في مؤسسة هينلي لشؤون الصناعات التقنية والكهربائية آنذاك، لكنه التحق بمعهد لتعليم الفن والرسم ولاحقاً أقنع رئيسه في مؤسسة هينلي التي كان يعمل فيها بتوليه مسؤولية التصاميم الفنية لما تقوم المؤسسة بنشره من مطبوعات ازدادت حينما اتجهت لنشر مجلات وكتب مختلفة من بينها صحيفة باسم "هينلي تلغراف". هيتشكوك كان المدير الاعلاني وأحد المؤسسين وأحد المصممين. لكن تطلعاته بقيت الى الخارج. وفي العام 1920 وجدت تلك التطلعات مطرحاً مغرياً: شركة "فاموس بلايرز" الأميركية لتوزيع الأفلام التي كانت تتبع باراماونت آنذاك والآن هي شركة توزيع وصالات كندية فقط قررت فتح فرع لها في لندن. هيتشكوك تقدم للعمل كمسؤول عن تصاميم الدعاية والعناوين وقبل طلبه سريعاً. وهذه الوظيفة أتاحت له الاطلاع على سير العمل من الداخل ومقارنة عمل المخرجين الذين كان يتابع افلامهم من الألماني فريتز لانغ الى الأميركي د. و. غريفيث. وما هي الا فترة قصيرة حتى بدأ هيتشكوك يخرج بعض المشاهد التي لا اداء لممثلين فيها. عندما اشترت شركة بريطانية فاموس بلايرز تم تعيين هيتشكوك مساعد مخرج. لكن الرجل كان بدأ يكتب السيناريوهات التي تم تحويلها ما بين 1923 و1925 الى افلام من بينها "الشبح الأبيض" و"من امرأة لأخرى" و"الحارس الأسود". لكن محاولات هيتشكوك كانت سباقة. في العام 1922 اخرج "الرقم 13" الذي صور منه بكرتين فقط ولم يتمه. وفي العام ذاته شارك سايمور هيكس اخراج "أخبر زوجتك دائماً". حسب هيتشكوك، فإن "الرقم 13" تم بفضل امرأة تعمل في مجال الاعلانات في "فاموس بلايرز"، "وجدت فيّ ما لم اكن اعرفه". الثاني حدث عندما فصل سايمور، مخرج الفيلم المعين واستبدل بهيتشكوك، الذي كان حتى ذلك الحين معنياً بتصميم الديكور. قال سايمور له: "عدنا أنا وأنت ننجز هذا الفيلم معاً". لكن بداية هيتشكوك الفعالة والمنفردة كما المكتملة كانت في "حديقة اللذة" 1925 الفيلم الذي تولاه هيتشكوك منذ البداية واعتبره منتجوه البريطانيون/ الألمان، أميركي التأثير. بعد افلام صامتة اخرى، اهمها "المستأجر" الذي شهد نجاحاً تجارياً كبيراً في العام 1926، انطلق هيتشكوك في مجال الفيلم الناطق وأخرج في سنة 1929 فيلم "ابتزاز" الذي هو ايضاً أول فيلم بريطاني ناطق تم تسجيل الصوت منفرداً على شريط صاحَبَ الصورة في دور العرض. كسر التنميط في "المستأجر" قام هيتشكوك بإسناد دور البطولة الى الممثل ايفور نوفيللو ديفيز، وكان أكبر نجوم السينما البريطانية آنذاك، لكنه اعطاه دور المجرم الذي يستأجر الغرفة العليا ويبقي حياته الخاصة غامضة الى ان يُكتشف امره. بذلك كسر هيتشكوك التوقعات مانحاً نجماً وسيماً ومعتاداً على الأدوار البطولية دوراً شريراً. هذا النوع من كسر النمط مارسه هيتشكوك مرة اخرى في فيلم "اشتباه" 1941 عندما جلب غاري غرانت ليلعب دور الزوج الذي يشتبه به مخططاً لقتل زوجته. قبل ان يجد "المستأجر" نجاحاً كبيراً بقي لشهرين على رف الشركة التي لم تعتقد انه سيجد اقبالاً يذكر، قبل ان تطلقه بحذر وتفاجأ بعنوان احدى الصحف "اعظم فيلم بريطاني صنع الى الآن". الى جانب محاولة هيتشكوك المبكرة والمتفائلة لكسر التنميط، هناك قيمة اخرى في فيلم "المستأجر" وهي انه يعكس مدى تأثير السينما التعبيرية الألمانية عليه. جزء من ذلك التأثير يعود الى متابعة هيتشكوك لأعمال فريتز لانغ و ف. و. مورنو، وجزء آخر له علاقة بأنه قبل عام من هذا الفيلم أمضى هيتشكوك بضعة أشهر في استديوهات UFA الألمانية. ايضاً تبدت دراسة هيتشكوك التصميمية الفريدة، عندما امر ببناء أرض من الزجاج وضع الكاميرا عليها ليصور مشاهد معينة من زاوية نظر المستأجر وهو ينظر الى اسفل. كما استعان بالمرايا لتصوير مشهد هبوط بطله على السلم موحياً بعلو غرفته وبالاجواء الداكنة من دون اظهار تلك المرايا مطلقاً. نجاح "المستأجر" التجاري والفني لم يتكرر حتى خروج "ابتزاز" بعد ثلاثة أعوام. بدأه هيتشكوك كفيلم صامت وخلال التصوير تم اكتشاف امكانية الصوت. لكن هيتشكوك اعترف لاحقاً انه لم يجد استخدام الفرصة فخرج الصوت غير فعال في مشاهد كثيرة. على ان كل هذه كانت اشبه بتفعيلات محدودة. اسلوب هيتشكوك الفعال الذي اوحى به هذان الفيلمان لم يكتمل الا بعد عدد من الاخفاقات الناطقة ضمت أفلاماً اما ضائعة او غير معروضة منذ حين بعيد، منها "جريمة" و"لعبة الجلد"، "ثري وغريب"، "الرقم 17" و"رقصة من فيينا" وهذا الأخير كان نهاية تلك المرحلة. بعده مباشرة اخرج واحداً من افضل افلامه الأولى. فيلم من نوعيته المفضلة حيث البطل مطارد لجريمة لم يرتكبها. هذا الفيلم هو "الرجل الذي علم اكثر من اللازم". تحدث هذا الفيلم الذي اعاد هيتشكوك اخراجه في العام 1955 كفيلم اميركي عن زوجين يكتشفان، بالصدفة، خطة لاختطاف سياسي. الجهة المخططة تدرك انهما يقفان على ما لا يجب معرفته من اسرار فتختطف ولديهما لاجبارهما على السكوت. منذ هذا الفيلم وعلى الرغم من ثغرات في السيناريو، اخذ هيتشكوك يمارس قدرته على البناء الاجوائي وبث التشويق لا من خلال الحدث الرئيسي وحده فقط، بل من خلال طرح اسئلة يتركها من دون اجابات. مثلاً، نتعرف منذ مطلع الفيلم على شخصية رجل لا يبعث الارتياح في النفس ولاحقا نعرف لماذا اسمه أبوت بيتر لوري. معه امرأة يسميها "الممرضة" وطوال الفيلم لن نعرف لها اسماً غير ذلك، لكننا لن نستطيع ان نعرف ماهية العلاقة القائمة بينهما. هل به علة وهي ممرضة بالفعل؟ ام انه يلعب معها، في اوقات الفراغ، لعبة الممرضة والمريض؟ كذلك يفتح الفيلم على جبال الألب وهي فكرة استوحاها هيتشكوك خلال زيارة قام بها لسانت موريتز فاستبدل الفصل الافتتاحي الذي كان كُتب سابقاً. ويختتم بفصل معتم مظلم ينطلق من الأزقة في بعض أحياء لندن الى سطوح مبانيها. ومن بين الملامح التي تكونت هنا ثم انطلقت في افلام هيتشكوك اللاحقة رسم حياة شخصيات البطولة كما لو كانت بمنأئ عن أي شر او خطر، لحين وقوع جريمة قتل. بعد مشهد التزلج ندخل قاعة رقص في الفندق حيث تقع جريمة قتل على حين غرة. ومع وقوعها والتطورات اللاحقة لها تجد هذه الشخصيات نفسها مجذوبة الى القاع، او الى حيث أزقة لندن وأسطح مبانيها الصغيرة الداكنة. السكين والطائرة هذا الفيلم ايضاً كان بداية سلسلة من افلام التشويق الجاسوسي. تبعه بفيلم رائع من ذات النمط هو "العتبات ال39" الذي هو افضل اعماله الى ذلك الحين ومن بين أفضل ما حققه هيتشكوك في حياته. حكاية كندي روبرت دوناب يمضي اجازة في لندن ويجد نفسه متهماً بجريمة لم يرتكبها رغم ان السكين تحمل بصماته. يهرب من العدالة لكنه في الوقت نفسه يحاول اثبات براءته عبر البحث عن القاتل والسبب، ليكتشف وجود حلقة جاسوسية خطيرة. هذا البحث من ناحية والهرب من ناحية اخرى ترددا كثيراً في سينما المخرج، كما سبق القول، وفي كل مرة حافظ على قدره من التشويق من دون ان تتكرر معه الظروف ذاتها او الملابسات. تفعيلة نلاحظها في "تخريب" و"المراسل الاجنبي" و"شمال شمالي غرب" من بين افلام اخرى لكن دائماً بتفاصيل او مفارقات مختلفة. وإذا كان المرء يريد الوقوف على نموذج متكامل لها فلديه "شمال شمالي غرب" 1958 حين نرى غاري غرانت في ذلك المشهد الشهير الذي يسقط رجلٌ قُتِل بسكين في الظهر بين يديه، فيقبض على السكين دون انتباه فيعتقد بأنه القاتل. خلال هربه عليه ان يبحث عن دليل براءته اذا ما اتيح له دون ان ننسى ان اللعبة التشويقية تحتوي ايضاً على مطاردته ومحاولة قتله. هنا يبرز ذلك الفصل من المشاهد المصورة في احد الحقول خارج المدينة. لقد تم الاتصال بروجر ثورنهيل غاري غرانت لموعد في تلك النواحي المقطوعة. تتوقف الحافلة الباص وينزل روجر الى طريق زراعي خال من البشر باستثناء رجل عابر يلحظ ان الطائرة الصغيرة التي ترش المبيدات على بعد لا تقوم بعملها كما يجب. يلحظ ذلك ويستقل الحافلة ويذهب. الآن روجر هو وحيد تماماً الا من ملاحظة الرجل التي تحتل حيزاً صغيراً من بال روجر. يكبر هذا الحيز وهو يلحظ ان الطائرة غيرت تحليقها فوق المزارع وهي الآن تطير على مستوى منخفض متوجهة صوبه. ويدرك انها تريد قتله فيركض هارباً منها والكاميرا مثبتة امامه. تصميم هيتشكوك لما سبق ولما سيلي فذ للغاية. ما يخطر في بال روجر يخطر في بال المتفرجين: لماذا هذا الموعد في اللامكان؟ من الذي سيقابله؟ متى؟ ماذا سيفعل اذا لم يأتي احد؟ ماذا عن تلك الطائرة؟ لماذا تطير على علو لا يصلح للرش؟ ماذا سيفعل روجر والطائرة الآن تأخذ وضعاً مهاجماً وتلحق به؟ ثم: بما ان الأرض مفتوحة ومنبسطة والرجل - أي رجل - لا يستطيع ان يسبق الطائرة كيف سيهرب منها اذن؟ شخصيات ومواقف قبل هذه التحفة البوليسية كان هيتشكوك حقق عدداً من الافلام الرائعة من بينها "تخريب"، "السيدة تختفي"، "ربيكا"، "جامايكا ان"، "اشتباه"، "مخرب"، "ظل الشك"، "غريبان في القطار" أحد افضل اعماله، "مشهور"، "الحبل" الذي صوره بلقطة واحدة من بدايته لنهايته "اطلب حرف م. للجريمة" و"خوف مسرحي". وكلها تستحق التوقف عندها تفصيلياً لولا ضيق المساحة. أبطاله في تلك الأفلام تعددوا من روبرت وولكر وفارلي غرانجر بطلي "غريبان في القطار" اللذين لم يحققا الشهرة الى بعض اشهر النجوم مثل غريس كيلي ومونتغمري كليفت وجيمس ستيوارت ومارلين ديتريش وانغريد برغمن وغريغوري بك وجوزف كوتون. ثم هناك الكثير جداً مما يمكن ان يقال عن الشخصيات وتكويناتها وما كان يسترعي تفضيل هيتشكوك. والكثير عن المداعبات التي كان يخفف فيها ثقل المنحى التشويقي دون هدره او تخفيف وقعه. وحين يأتي الأمر الى مواقع التصوير الفريدة التي اختارها لتكون دعماً لبنائه التشويقي فإن الكثير جداً من التفاصيل يمكن تناولها من نواح متعددة. هيتشكوك في هذا المجال، دائماً ما وجد طريقة لكي يحشر فيها مفارقة فاصلة بين الحياة والموت لها علاقة بالموقع الذي تدور الأحداث فيه: تدلي ايفا ماري سانت من حافة الجبل الشاهق في "شمال شمالي غرب"، وتدلي الشرير اوتو غروغر من حافة تمثال الحرية في "مخرب" والمشهد الأخير في مدينة الملاهي في "غريبان في القطار". قبل "شمال شمالي غرب" حقق هيتشكوك فيلماً بديعاً آخر هو "النافذة الخلفية" 1953 حيث يشاهد مصور مقعد جيمس ستيوارت جريمة قتل من نافذته التي كان يتلصص منها على جيرانه درءاً للملل. القاتل فيما بعد يعلم انه شوهد وهو الآن يحاول النيل من هذا المُقعد وقتله. صراع القوي ضد الضعيف والقادر على الفعل والحركة ضد المقعد. ثم جيمس ستيوارت ايضاً في "فرتيغو" 1957 هذه المرة مع خوف من الاماكن العالية الذي كان، في مشهد يقع في مطلع الفيلم، تسبب في مقتل رجل بوليس بينما كانا في مطاردة فوق السطوح لمجرم. الحكاية في "فرتيغو" اخاذة تتعامل مع رجل يضع ثقته بنفسه على المحك طوال الوقت ويخفق. يقع في حب زوجة رجل طلب منه منع زوجته كيم نوفاك من الانتحار ويعتقد انه فشل في المهمة بسبب خوفه من العلو، ليكتشف ان اللعبة كانت تدور عليه، فالرجل قتل زوجته بالفعل وجلب من تشبهها للعب دور الزوجة عوضاً عنها في عقدة مليئة بالتفاصيل، ولو انها ضعيفة في بعضها. بعد "شمال شمالي غرب" حقق هيتشكوك الذي توفي في العام 1980، سبعة أفلام آخرها "حبكة عائلية" 1976 الذي لم يستقبل جيداً. باقي هذه الأفلام هي "سايكو"، "الطيور"، "مارني"، "الستار الممزق"، "توباز"، و"جنون". "سايكو" و"الطيور" يبقيان الأبرز على الرغم من الحرفية الماهرة التي صاغ بها هيتشكوك بقية هذه المجموعة من الأفلام. "سايكو" "سايكو" 1959 اساسي في حياة هيتشكوك السينمائية كما لو انه فيلمه الوحيد. تنطلق القصة بسلسلة سريعة من الاحداث: جانيت لي موظفة في مؤسسة في مدينة فينكس، ولاية اريزونا، تسرق مالاً يخص الشركة لكي تلحق بعشيقها المتزوج. الفندق الذي حلت فيه في ليلة ماطرة يخدمه قاتل معقد نفسياً يعتقد ان امه لا تزال حية ويقتل بسكين طويلة مرتدياً ثيابها، ثم يخلع هذه الثياب ويصرخ في هيكل امه النفسي كما العظمي شاكياً غيرتها ومستنكراً ما ارتكبته. لم يكن احد يتوقع في تلك الاثناء قصة داكنة ونفسية على هذا النحو تشي بخلفية علاقة غير صحية بين ام وإبنها ماتت هي بعدما غرزت فيه عقداً دفينة. "سايكو" علاوة على ذلك جاء شحنة كهربائية واحدة من المفاجآت تبدأ بقتل نجمة يتوقع لها الجمهور ان تبقى الى نهاية الفيلم. لكن صيغة "الجريمة والعقاب" تتم سريعاً وتترك المجال مفتوحاً امام اي شيء. سيد التشويق بلا منازع والى اليوم ومدرك واع في الطريقة التي سيتجه اليها مشاهدوه كما لو كانوا نتاج آلة واحدة لصنع الدمى. كان قال ذات مرة ان الممثلين دمى، لكنه هل عنى ايضاً ان الجمهور كذلك؟ سر هيتشكوك الدفين موزع بين حسن تصميمه وهو الذي درس الهندسة والتصاميم لكل الفيلم الذي يقف لإخراجه ولكل حركة فيه، وبين دراسته الكاثوليكية التي - باعترافه - ولّدت فيه القدرة على التنظيم. ضمن هذه الخلفية نستطيع ان نتلمس ان التعاليم الكاثوليكية الصارمة منحته الخوف من الريبة التي وضعها في شكل شخصياته المتهمة بما لم ترتكبه والمرأة والسلطة. وهو خوف احسن توظيفه فنقله من ذاته الى ذوات غيره بمهارة وكياسة وبالكثير من السخرية المبطنة. مئوية السير الفريد هتشكوك في بريطانيا قد تكون سينما الفريد هتشكوك سينما أميركية، بتقنياتها ومواضيعها وأماكن تصويرها، غير أن بريطانيا لا تنسى أبداً ان السير الفريد بريطاني الأصل والجنسية، وانه هو الذي بدأ حياته بتحقيق أفلام انكليزية، كان واحد من آخر أفلامه فرنزي فيلماً صور في لندن. من هنا، واضح، ان الانكليز يبدون أكثر احتفالاً بمئوية لندن، من الأميركيين الذين عاش في أحضانهم معظم سنوات حياته، وحقق لديهم أعظم أفلامه، وهكذا امتلأت مكتبات لندن بكتب جديدة عن هتشكوك، أبرزها كتاب "قصة الفريد هتشكوك" وكتاب "الفريد هتشكوك مكتملا". ومن ناحيتها وزعت مجلة "سايت اند ساوث" التي تصدر عن معهد الفيلم البريطاني كيباً عن هتشكوك في عددها الأخير، نشرت فيه شهادات لعدد من المخرجين والسينمائيين الآخرين الذين تحدثوا عن تأثرهم بفن الفريد هتشكوك، كما أعلن بعضهم تفضيله لهذا المشهد أو ذاك من مشاهد هذه الأفلام التشيكوكية. ومن ناحيته، يحتفل "معهد الفيلم البريطاني" بمئوية هتشكوك كما ينبغي له أن يفعل: يعرض أعمال هتشكوك كلها على شاشة طوال شهري آب اغسطس الجاري وايلول سبتمبر المقبل، مع عروض لمختارات من كلاسيكيات هتشكوك في صالات متفرقة تشمل معظم المناطق الأخرى. فإذا أضفنا إلى هذا سلسلة الاصدارات الجديدة المتتالية التي تتناول جوانب فن هتشكوك، والمعارض العديدة المكرسة له، يحق لنا أن نتساءل عما إذا لم يكن السير الفريد قد عاد أخيراً بريطانيا رغماً عنه.