عندما فضل ميل غيبسون سيناريو "الوطني" على سيناريو "العاصفة التامة" كان بذلك يختار الدور المركب الذي يمر في سلسلة تحريات وصراعات قبل الوصول الى التطور الدرامي المنشود. في المقابل فإن بطل "العاصفة التامة" عبارة عن رجل رسمت شخصيته كاملة قبل بدء الفيلم، يواجهه كارثة طبيعية ليس لها علاقة بالعواطف البشرية وعليه أن يقبل تحديها. التطور الدرامي شبه معدوم، والإضافة الوحيدة التي يستطيع بطل الفيلم كما أداه بعد رفض غيبسون له جورج كلوني القيام بها هي خوض التحدي غير المتوازن هو وسفينته ضد أعتى عاصفة ظهرت على الشاشة... فدفع ثمن ذلك. ولكن في النتيجة، فإن البطولة التي يؤديها ميل غيبسون في "الوطني" هي أقل قيمة من تلك التي يؤديها جورج كلوني في "العاصفة العاتية"، على صعيد مفهوم البطولة وعنصرها البشري وجوهر ما تدعو عملياً اليه، فهي مشوبة في فيلم رولاند ايميريش السارد للثورة الأميركية على الانكليز التي أدت الى الاستقلال الأميركي قبل 224 سنة، بالكثير من التمويه والتعليل لتبدو لعباً على منوال البطولة أكثر بكثير مما هي بطولة حقيقية. طبعاً "البطولة الحقيقية" هي نسيج يتفاوت لوناً وحياكة من سينما الى أخرى، كما من زمن الى آخر. والوقت الذي كان البطل يقبل على سلسلة تضحياته بسبب مواقف ثابتة لا تقبل الجدل وترفض التأقلم، مضى. تستطيع هنا أن تتخيل غاري كوبر في "عز الظهر" ]فرد زنيمان - 1953[ حالاً نموذجية: شريف بلدة يتزوج وفي طريقه الى تمضية عطلة مع زوجته، يتلقى خبراً من أحد المجرمين كان أرسله الشريف الى السجن خرج من معتقله والتأم مع ثلاثة أشرار آخرين وهم جميعاً في طريقهم الى البلدة لقتله. تبدأ الأحداث قبل ثلاث ساعات من وصول قطار الساعة الثانية عشرة الذي يقل المجرمين والبطل يرفض التخلي عن مسؤولياته والهرب من المجرمين. ليس لأنه لا يعترف بالخطر بل لأنه - ببساطة - نشأ على هذا المبدأ. لكن الشريف يطلب من أفراد البلدة مساعدته في التصدي للعصابة الشريرة تضم في من تضم ممثلين من أفضل وجوه الشر القديمة: جاك إيلام ولي فان كليف، ويفاجأ بأن ما من أحد، باستثناء فتى غير مؤهل ورجل معاق، يريد حشر نفسه في صراع من هذا النوع خوفاً على حياته. هنا تدفع الأحداث الشريف الى مواجهة منفردة ولكن على عكس رغبته، فهي مفروضة عليه، وليس فيها تلك البطولة الرجالية التقليدية. زنيمان يصف المجتمع الأميركي، ممثلاً بالمواطنين الممتنعين عن مساعدة الشريف، بالخوف والأنانية عقب وضع مماثل خاضته هوليوود مع لجنة ماكارثي التي كان ضحاياها يجدون أنفسهم مكشوفين أمام الخطر من دون تأييد الوسط السينمائي الذي عملوا فيه. لا عجب أن جون واين، وهو "بطل الأبطال" في السينما الأميركية، ردحاً طويلاً، اعتبر الفيلم أكذوبة و"مضاداً للغرب الأميركي". وبين هذا المفهوم للبطولة، وذاك الذي ورد في الكثير من الأفلام الكلاسيكية الشهيرة من كل نوع، لقاء واضح: البطل الجدير بالكلمة هو الذي يواجه صراعاً حاداً في ذاته بين أن يهرب أو يبقى في "الظهر..." وبينه وبين مفهوم الحرب في "كل شيء..." لا يغيبه عن فعل الشيء الصحيح. وضمن هذه الصورة، فإن هذا الصراع أبعد ما يكون من المصلحة الذاتية والدافع الشخصي. يحمل البطل، ضمن هذا المفهوم، صراعه على كتفيه قدراً مكتوباً عليه، انما في سبيل مبادىء لا لبس فيها. في المقابل، فإن بطولة "الوطني" مجسدة في شخصية رجل "هيبوقراطي". إذا فحصنا شخصيته عن كثب وجدناها تعمل بالتناقض مع الصورة المفترض أن يحملها الفيلم الينا: بنجامين مارتن غيبسون شخص بات مسالماً بعدما شبع قتلاً وتقتيلاً خلال حرب الانكليز على الفرنسيين، فأبلى بلاء حسناً. الآن يجد نفسه منجراً الى دخول الحرب. وما يدفعه الى تلك الحرب ليس المبدأ المتمثل بنيل الاستقلال، وهو مبدأ بالنسبة الى الأميركيين شريف ونبيل، بل ذلك المتمثل برد الصاع صاعين الى من قتل ابنه أمام ناظريه القائد تافينغتون كما يقوم به جيسون أيزاكس. والفيلم يمضي بمثل هذا الدافع الذاتي الذي يلغي الدافع الوطني الغاءً تاماً، أو شبه تام. في الدقائق الأربعين الأولى يسرد رولاند ايميريش أحداثاً طواها كلينت ايستوود في فيلمه النيّر "الخارج على القانون جوزي ويلز" في عشر دقائق، حامية عسكرية شمالية، قتلت زوجته وأولاده فانضم، هو المزارع العادي، الى المعسكر الجنوبي الذي كان يدافع عن آخر معاقله في الحرب الأهلية. إذاً هي حرب فردية بدورها فرضتها الرغبة في الانتقام مما وقع لعائلته. لكن الفارق المميز بين الفيلمين أن جوزي ويلز ايستوود في الفيلم السابق - 1976 لم يخدع نفسه ومشاهديه في هذا الأمر، وبطولته تأسست على أنه ضحية في الأساس. أما "الوطني" فهو دخل الحرب ليحارب الإنكليز وليبلي بلاء حسناً يبدو كما لو كان التحرير من صنعه بينما لا يزال ينشد المواجهة مع قاتل ولديه كما في الفصل الأخير من الأحداث. الفارق الثاني أن أفلام الأمس بما فيها "جوزي ويلز" و"عز الظهر" كانت تدين العنف في ختامها. ويلز ينشد العزلة بعيداً حاملاً جروحه الدامية حين لم يعد قادراً على مواصلة الحرب التي أنهكته. الشريف ويل كين يلقي بالنجمة النحاسية أرضاً، رافضاً ضمن ما يرفضه، مواصلة العمل حتى كرجل قانون. لكن بنجامين مارتن يلتقي وماكسيموس في "المصارع" في أنه يجد في العنف ملاذاً يشفي غليله، في وقت يقدم الفيلم ذلك العنف بمتعة ملحوظة الى جمهور ليس بعيداً، ضمن هذا المفهوم، من جمهور ميادين المصارعة الرومانية التي ينتقل فيلم ريدلي سكوت "المصارع" اليها. مقدمة "الوطني" تطرح على المشاهد ايجازاً لما يشغل بال الفيلم عندما تقول، بصوت المعلق: "هددوا عائلته... دمروا بيته... قتلوا طفله...". رد الفعل الأكثر تماشياً مع هذا المنطق، قبول أي نوع انتقام فردي ينشده ذلك الفرد الذي تتحدث المقدمة عنه، يختاره هو. ولكن ماذا عن حرب التحرير التي يتشدق الفيلم بها بدءاً من عنوانه وانتهاء بتصوير البريطانيين حفنة من القتلى المنضوين تحت النظام العسكري؟ وماذا عن الثورة الأميركية؟ الجواب ان الفيلم يختار لها أن تبقى إطاراً تاريخياً. الطرح نفسه يدعو الى العنف، ثم تأتيك المشاهد الكثيرة للمعارك والمواجهات بدءاً بمشهد غيبسون وهو ينهال على جثة انكليزي بفأسه أكثر من عشرين مرة، وقد ركبه جنون العنف بمجرد أن تخلى، في سهولة، عن مفهومه السلمي المعادي للعنف في لقطة في مشهد سابق، وحتى المشهد الأخير من الفصل الأخير، حين قتله غريمه الأول. لا أبرياء! إذ مضت تلك الصور الجميلة الأولى التي فرقت بين الخير والشر، وبين الأبيض والأسود، لأنها لم تكن ضائعة بينهما على غير هدى، ولم تكن تؤمن بجدوى المناطق الرمادية إلا في اطار أفلام معينة سينما "فيلم نوار" مثلاً تناسب مثل هذه الصورة، فإن البديل المطروح عموماً في أفلام اليوم مقلق من فرط ليبراليته وسعيه الى أن يكون "سياسياً صحيحاً"، على ما تنص شيفرات التعامل المخادعة و"الهيبوقراطية" بدورها. ولا يتوقف الأمر على أفلام تاريخية، أو أفلام تدور على التاريخ الأميركي أو بالاستيحاء منه، بل نراها تشمل الكثير من الأفلام الحديثة، بينها أخيراً "قانون التعامل" من بطولة صامويل ل. جاكسون، الممثل الذي نسف تلك الصيغة المنافقية في فيلمه اللاحق "شافت". في ذلك الفيلم الذي أخرجه ويليام فرايدكن بتنفيذ جيد، يواجه بطل الفيلم جاكسون، الذي يؤدي دور قائد وحدة من البحرية الأميركية تنتقل الى اليمن لتحرير السفير الأميركي بن كينغسلي من تهديد المتظاهرين، معضلة مهمة. فخلال عمليته تلك، ينهال الرصاص الآتي من أسطح المباني القريبة من السفارة. لكنه لا يرد عليه على رغم وقوع اصابات في صفوف رجاله، الى أن يؤمن هرب السفير وعائلته، فيأمر بفتح النار على المتظاهرين في الشارع المواجه ويقتل ويجرح، بحسب الفيلم، عشرات الضحايا المفترض بهم أن يكونوا أبرياء. موقفه هذا يصبح موضوع محاكمة عسكرية. ومثل الموقف الذي طالعنا به "شجاعة تحت النار" ادوارد زويك - 1992 الذي وضعت خلفيته في اطار العالم العربي خلال حرب الخليج، يتردد بين البطولة وعدمها. فما يطرحه "شروط التعامل" هو: كيف يكون الأمر بطولياً إذا فتح الضابط النار على أبرياء؟ ويبدو الطرح جاداً ومثيراً للاهتمام الى أن ينسفه المخرج في مشاهده الأخيرة، كاشفاً في "فلاش باك" عما حدث بالفعل: السبب في أن بطله فتح النار على المتظاهرين الأبرياء، هو أنهم لم يكونوا أبرياء مطلقاً، ففي مشهد لاحق نراهم يسحبون رشاشاتهم من تحت عباءاتهم ويبدأون بإطلاق النار صوب القوات الأميركية. كلهم بمن فيهم فتاة صغيرة، كنا رأيناها وهي تمشي بساق واحدة، بعدما أصيبت بالنار الأميركية، يشاركون في الهجوم على الحامية ما يضطر قائدها الى اصدار الأوامر بالرد بقوة. إذاً، وبلسان الفيلم، لا يخدعنك أن العرب متظاهرون أبرياء، فهناك ملحق يصل مع نهاية الفيلم ويكشف لك أنهم في الحقيقة لا يستحقون الوصف، بل ان مبادرة بطل الفيلم في محلها تماماً! المفهوم البطولي هنا مفهوم عسكري يتوسم صياغة خادعة سينمائياً، تضعف من جدال الفيلم. في الفيلم الجيد فعلاً، يعترف البطل بخطأه ويضع المسؤولية على المؤسسة العسكرية التي دفعته الى مثل هذا الفعل، أو على السياسة الأميركية التي تدفع بالشعوب الأخرى الى رفضها ومواجهتها. شيء مما ضمنه المخرج الفذ ستانلي كوبريك في "سترة معدنية كاملة" 1976 عندما صور لنا مجنداً ينهار تحت الضغط الذي تمارسه عليه المؤسسة العسكرية فيتحول وحشاً يقتل صانعه. وحتى لا يبقى الموضوع فردياً، فإن كوبريك ينتقل - في النصف الثاني من الفيلم - الى فيتنام متحدثاً عن أولئك الذين لم يتصدعوا سريعاً كبطل النصف الأول، فنراهم أعجز من مواجهة فرد واحد مقاتلة من الفييتكونغ خاضعين في حربهم لمبادىء لا علاقة لها بالقيمة الوطنية المجسدة في دوافع المقاتلين الفيتناميين. في عالم بات يقوم على قبول الخطأ كفضيلة، ولا يرى قيمة للقضايا والمبادىء الأخلاقية أو السياسية، فإن ما تروجه أفلام اليوم هو القبول بالمستوى الأدنى من عناصر البطل من باب أن ليس في الامكان أفضل مما كان. والإمكان المتاح هو صور تلتقي عند توفير المسببات الدافعة الى قيام البطل بالقتل، ثم تبرير ذلك، بأنه العنف ضد العنف المضاد. خلال ذلك يسوق الفيلم كل المؤثرات الخاصة التي تزيد من وقع فعل العنف على المشاهد. انها كمن يؤيد المشروع الذي يطرحه الحزب الديموقراطي الأميركي بمنع السلاح، ولكن ليس من قبيل تقديمه في أكثر صوره جاذبية. وليس من قبيل بيعه نتاجاً مثيراً للجمهور الذي بات أكثر قبولاً لهذا التعامل مع مفهوم البطولة، ومفهوم مجتمعه هو، من أي وقت مضى. في المشهد الأخير من فيلم جون هوستون الآسر "مدينة متنفخة" 1972 يجلس ستاسي كيتش وجف بردجز أمام الكاميرا... انهما رجلان عاديان جداً خرجا من صراعهما ضد الظروف المعيشية خاسرين. كل منهما كانت له أحلامه في أن يكون بطلاً الأول ملاكم سابق والثاني ملاكم واعد، وكل منهما تعثر في تحقيقه. لا شيء غير عادي هنا، وهو يقع كل يوم في كل حقل ومهنة وفي كل مكان. لكن المشاهد يدرك فجأة أن البطولة المجسدة هنا هي البطولة الحقيقية والأقرب الى قدرات الجميع. ما تحتاج اليه سينما اليوم هو الكف عن خلط الأوراق، فإذا بالبطل شرير محبوب، خارج عن القانون وخارج عن الخارجين عن القانون في آن. والمطلوب الكف عن تقديم سينما قيمتها الوحيدة صياغة مبررات هزيلة ترويجاً لحال من النفاق تساق تحت تبريرات واهية.