أباتريد Apatride مفردة ذات جذر يوناني شاع استعمالها في اوروبا اثر الحرب العالمية الاولى، ومنذ عشرينات القرن المنصرم دخلت في القاموس السياسي للعلاقات الدولية كمفردة تعني الذين لا وطن لهم ثبوتياً او "البدون" كما اصطلح عليه في بعض الاصقاع العربية. كانت الحرب الكونية 1914-1918 والثورة البلشفية 1917 في روسيا دفعتا الملايين من النازحين خلف حدود بلادهم الأصلية تاركين مواطنيتهم الموروثة من اسلافهم وحقوقهم الاساسية التي تضمنها شرائع ودساتير دولهم الام، كحقوق طبيعية غير قابلة للجدل. كان هؤلاء الملايين من الروس البيض خصوصاً والاوروبيين اللاجئين السياسيين قد دخلوا حدود دول اخرى اوروبية للاقامة الموقتة من دون ان يتمتعوا بصفة مواطنين لهم حقوق وواجبات. لم يتمكن هؤلاء من الانضمام الى اجساد الدول - الامم المضيفة لانشغالهم بقضايا دولهم الام لسنوات ما بين الحربين وأيضاً بحكم عوامل ثقافية وتاريخية هي من صميم المكونات الاوروبية لتلك الحقبة. هكذا فإن جيلاً كاملاً ظل يتحدث بلغته الاصلية ويتعامل وفقاً لتقاليده الاولى حالماً بالعودة الى الوطن الأم من دون جدوى. ولكن بعد عقود كان ابناء هذا الجيل قد انصهروا في مجتمعات الضيافة جسداً وروحاً، تقاليد وثقافة ما صار يشكل الهوية الاوروبية التي نعرفها اليوم. هوية تجمع ابناء الروس البيض والبولونيين والايطاليين والاسبان واليونانيين في نسيج موحد الحاضر متعدد الماضي والجذور. وفي السياق ذاته شكل الفنانون والأدباء الاباتريد استثناء الى حد ما. اذ ان انتماءهم الى ثقافة اوروبية ذات جذور مشتركة سهل دخولهم الى المجتمعات الجديدة والمشاركة في لب الحياة الثقافية على رغم رطانتهم اللغوية. ظل شاغال يتحدث الفرنسية بلكنة روسية مبالغ بها، واستمرت روسية نابوكوف على رغم كتابته بالانكليزية، وظلت ثروة بيكاسو اللغوية في الفرنسية قاصرة على مفردات الحياة اليومية. وتشكل حالة الاباتريد العراقية، التي هي اليوم على مفترق طريق خطر، أنموذجاً للحالة القصوى لتجارب الاباتريد السابقة. القلق الراهن الذي يعيشه عراقيو الخارج يبدو مفهوماً في اكثر من مناسبة، اذ ان وجودهم في مجتمعات الضيافة لم يعد يحمل الصفات الرمزية التي كانت تحيط به قبل عام، كضحايا لنظام قمعي نادر. اي انهم وقد فقدوا موقعهم "المقدس" لحظة سقوط تماثيل صدام فإن موقعاً آخر بديلاً، تعويضياً، لم يمنح لهم. وهم اليوم كما يعبر مثلهم الدارج "لاحظت برجيله ولا خذت سيد علي"، اي لم تبق مع زوجها ولم تقترن بعشيقها. الاباتريد العراقي الذي صار ظاهرة منذ آخر سبعينات القرن العشرين كان هو النزيف الآخر، المرئي امام العالم، لشعب فقد في الظل قرابة المليونين في الحروب والقمع المنظم الذي مارسته الدولة البعثية وصدمت به العوالم العربية والاسلامية والانسانية لشدة القسوة. الانتشار العراقي لقرابة اربعة ملايين يمثلون الطوائف والاعراق والثقافات المتعددة لبلاد عريقة، في قارات كثيرة، صار يشار اليه بالبنان، كحالة استثنائية، وكأنموذج من نماذج تمزق مجتمع بحكم قسوة السلطة التي تحكمه. يكفي ان نشير الى ان هذا العدد يماثل عدد سكان دول مثل لبنان او فلسطين او ليبيا لنضع ايدينا على حجم الكارثة. بل انه ضعف عدد سكان دولة الكويت المجاورة التي كان غزوها ومحاولة ابتلاعها سبباً لاندلاع اكبر حروب النصف الثاني من القرن العشرين. استطاع عراقيو "الاباتريد" البقاء لأكثر من عقدين في حال الانتظار، على صعوبة اوضاعهم المادية والنفسية والقانونية، لكن سقوط النظام غيَّر المعطيات النفسية والقانونية لهم من دون ان يضيف رصيداً مادياً. يتمثل في سرعة العودة او تسهيلها او الارتباط السريع بمؤسسات الحكم كجاليات منظمة معترف بها في شكل شبه قانوني. بل ان الذي حدث هو العكس، ففي اقل من عام اكتشف الكثير أن لا مكان لهم تحت شمس بلادهم بحكم الفوضى السائدة وبروز مشكلات جديدة تستدعي اقصاءهم ولو في شكل موقت. واذا كنا نتحدث عن اباتريد عراقي بالمعنى الدقيق للكلمة فلأن الغالبية المطلقة من هؤلاء المنفيين لم يعودوا يملكون وثائق ثبوتية تؤكد عراقيتهم اضافة الى انقطاعهم التام عن العراق لأكثر من ربع قرن. فممثليات الدولة البعثية لم تجدد، منذ ثمانينات القرن المنصرم، جوازات الملايين منهم كما ان عائلاتهم في العراق لم تسجلهم في التعداد السكان لأسباب امنية معروفة. صحيح ان نسبة منهم صارت تحمل جوازات دول الضيافة الأوروبية والأميركية بحكم سهولة التجنس في بلدان الاقامة هذه، غير ان نسبة لا يستهان بها لا تحمل غير "وثيقة السفر" التي هي ورقة تنقل وليست هوية تثبت مواطنة. المأزق الذي تعاني منه غالبية "عراقيو الخارج" اليوم هو غياب المواطنتين! بمعنى انهم من درجة "البدون" بامتياز. غياب المواطنتين الحقوقيتين، هو المأزق الكبير الذي يرزح تحته الملايين من العراقيين الذين انتظروا ربع قرن لاستعادة درجة المواطنة التي فقدوها خلال حكم صدام حسين وكأنهم في هامش جمهورية الامبراطور الروماني كراكالا التي استثنت الفقراء والعبيد والنساء من المواطنة الرومانية! بعد اكثر من عام على سقوط صدام حسين لم يسترد مواطن عراقي هذه الدرجة. القنصليات والسفارات المغلقة خلال الاحتلال وبعد اعلان الدولة الجديدة لم تمارس بعد اي حضور لها، على رغم ان جاليات كثيرة في اكثر من بلد اوروبي حاولت تنظيم نفسها طوعياً لتسهيل مهمات الاحصاء وحصر الاشكالات القانونية والادارية في ملفات جاهزة. كما ان التعيينات الاخيرة لعدد كبير من السفراء أيقظت الرمزية القديمة للدولة والعلاقة المعقدة بين العراقي ودولته، اذ ان نسبة كبيرة من السفراء المعينين حديثاً خرجوا من جبة النظام السابق او انهم - باستثناء الاكراد - غير معروفين تماماً في اوساط عراقيي دول الاباتريد وينتمون في شكل خاص الى الحلقة الضيقة للسياسيين عائلياً او عقائدياً، والبعض منهم متورط بجرائم تاريخية يذكرها العراقيون. من جانب آخر، يعرف الكثير من العراقيين ان عودتهم بوثيقة السفر ينزع عنهم حقوقهم القليلة المكتسبة في دول الضيافة ويجعل منهم سكان ما بين الحدود No man's land. ازاء التطورات الحاصلة في العراق، يمكننا القول على صعيد آخر ان جوهر المشكلة العراقية اليوم ليس الجانب الأمني الذي وضعته حكومة اياد علاوي الموقتة في اولوياتها بل الصيرورة الديموقراطية للبلاد واعادة اعمارها مادياً وقيمياً. بمعنى تثبيت درجة المواطنة كمقياس للجنسية. في هذه الصيرورة تبدو مشكلة الاباتريد العراقية من الجوهريات العاجلة وليست مشكلة قابلة للحل في سياق التطور كما صرح اكثر من مسؤول عراقي. فالمواطنة هي نقطة ارتكاز الديموقراطية المزمع اقامتها في العراق. لسنوات كانت قضية الملايين الاربعة من العراقيين المنفيين رمزاً للمعارضة التي صارت تحكم العراق اليوم. وفي الحرب التي شنت لاسقاط نظام صدام حسين كانت مشكلة الاباتريد "قميص عثمان" او "حصان طروادة"، اضافة الى أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع تنظيم "القاعدة". وهي واحدة من ادلة سيقت تعبيراً عن وحشية نظام وواحدة من المبررات الاعلامية الاساسية لشن الحرب. واذا كان عام ونصف العام بعد انتهاء هذه الحرب لم ثتبت بعد صدقية العذرين الأخيرين فإن وجود الاربعة ملايين عراقي في المنفى امر لا ريب فيه. اذا نظرنا الى واقع الحال، فإن تصريحاً ايجابياً واحداً، او دعوة لهؤلاء للعودة الى بلدهم لم يرد على لسان اي من مسؤولي العراق الجديد. بل على العكس فإن التصريح اليتيم لوزيرة الهجرة والمهجرين باسكال ايشو كانت في نصيحتهم بتأجيل العودة لأسباب امنية! الأدهى، بعد هذا الاهمال، ان تصريحات وخطوات تتم لفصلهم عن مجرى العملية الديموقراطية المزمع الاخذ بها في الشهور القادمة لأسباب تقنية! ولعل تصريحات السيد فؤاد معصوم المسؤول عن المؤتمر الوطني الموسع المنوي عقده نهاية الشهر الجاري، والتي استبعد فيها مشاركة عراقيي الخارج في الانتخابات، تصب في هذا المجرى الخطر... صحيح ان بضع مئات من العراقيين قد عادوا اثر الحرب مباشرة لملء الفراغات السياسية التي حدثت اثر سقوط الدولة العراقية، لكن تنبغي الاشارة لتوضيح اكثر، ان من عادوا هم من محترفي السياسة مئة في المئة ومقربيهم السياسيين والعائليين وممن انتقتهم ادارة الاحتلال كخبراء في مهمات محددة. وبالتأكيد ايضاً فإن نسبة العائدين لا تمثل غير قطرات في بحر. واذا اخذنا في الاعتبار، شهادات الدول المضيفة والمنظمات الدولية، فأن نسبة كبيرة من الابارتيد العراقي هم من ذوي الكفايات والخبرة والمعرفة بتقنيات الحياة الديموقراطية بحكم عيشهم - في اوروبا وأميركا وكندا خصوصاً - في كنف انظمة ديموقراطية لسنوات طويلة. وهم في هذا السياق القوة الاكثر فاعلية في اعادة البناء السياسي والاقتصادي والثقافي للعراق الجديد. على صعيد آخر فإن مشروع اقامة الدولة العراقية الجديدة على النحو الذي يصرح به مسؤولو هذه الدولة ك"دولة قانون" يستدعي تفعيل مفهوم المواطنة على نحو تاريخي، كحق طبيعي للذين ولدوا داخل العراق وابنائهم الذي ولدوا في دول الاغتراب. فالمواطنة تحمل صفتها القانونية في دول التعددية السياسية من فعل المشاركة في الحياة العامة والارتباط بمشكلات المجتمع كما يشير الدستور الفرنسي. ودولة القانون المرتجاة التي كثر ويكثر الحديث عنها اليوم هي "الدولة التي تسمح لمواطنيها بامتلاك الحقوق المدنية" كما يؤكد الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، ومن اوائل هذه الحقوق حق الانتخاب الذي يكرس اختيار المشاركة في الحياة العامة السياسية. فالمواطن في الدولة الحديثة، الديموقراطية، هو جوهرياً كائن حقوقي يستمد جنسيته من ممارسة مواطنيته على نحو كامل. ان محاولة ابعاد عراقيي الخارج عن مجرى العملية الانتخابية ليست الا مخالفة صريحة للمادة العشرين من "قانون ادارة الدولة" الذي هو بمثابة الدستور العراقي الموقت في المرحلة الراهنة. اذ ان المادة المذكورة ببنديها تتيح لكل عراقي "الترشيح والادلاء بصوته" و"تمنع التمييز ضد اي عراقي لأغراض التصويت في الانتخابات..." كما ورد حرفياً في النص. لم يشهد العراق، للأسف، ومنذ سقوط النظام غير ضروب من المواطنة العصبية المستمدة من تقاليد حزبية وعشائرية وتعاقدية عائلية اثر سعة من تعاقدية النظام السابق، تجعل اكثر العراقيين في حال احباط ويأس ازاء المشروع الديموقراطي الذي حلموا به لعقود عدة. على رغم التغيير الكبير الذي حدث، والذي يشبه ثورة في مقاسات من طراز خاص بالعراق، والذي بدوره احدث فضاء رحباً من الامل، فإن التغييرات في الواقع لم تجار الحدث، بل ان خلل الدولة العراقية المزمن لا يزال قائماً... المحاصصات العرقية والدينية والطائفية والسياسية في طريقها كي تصبح ثوابت رياضية. الديمقراطية الموعودة في طريقها الى سياق عالم ثالثي - عربي محدد سلفاً بحدود القوى المشاركة في السلطة اليوم، ما يوحي بأن ديموقراطية الغد لن تتجاوز حدود الحكومة الائتلافية التي تقررها الاجتماعات المغلقة وليس صناديق الاقتراع الشفافة. والرخاء الخليجي الذي نشده العراقيون باعتبارهم مالكي ثاني احتياط نفطي عالمي اختصر بعقال رئيس الجمهورية. اما حالمو الاباتريد العراقي فكأنهم لن يستردوا مواطنيتهم اليوم أو في الشهور المقبلة وليس لهم الا العودة لزيارة البلاد كمسافرين او سيّاح او عاملين في منظمات اميركية او اوروبية غير حكومية، كما لو ان ما حدث لم يكن غير حال من العفو الحكومي يسمح لهم بزيارة بلادهم وذويهم في غياب صدام حسين. بعد ذلك عليهم العودة الى بلدان الضيافة وتوسيع هوة اليأس في الانتظار الذي اعتادوا عليه منذ اكثر من ربع قرن. * كاتب عراقي مقيم في فرنسا.