يعبر الصخب السياسي والعسكري في العراق عن وجود قوى متنوعة في المجتمع العراقي لم تستطع الهيئات السياسية الجديدة التي كونها الاحتلال الأميركي - البريطاني ان تمثلها، أو ان تمثيلها لها جاء هزيلاً. ويعترف المحتلون بذلك، وكذلك الذين جرى اختيارهم والقبول بهم اعضاء في مجلس الحكم الانتقالي والحكومة الموقتة، ويعدون بأن تتمكن الانتخابات المقبلة من تمثيل جميع القوى والفئات التي يتكون منها المجتمع العراقي. لكن ذلك قد لا يحل مشكلة العراق السياسية لأن الصيغة الغربية الديموقراطية، أكانت الأوروبية البرلمانية أو الأميركية الرئاسية، لم تستطع الاحاطة بالتضاريس الاجتماعية التي يتكون منها العراق لا في العهد الملكي ولا في العهد الجمهوري. كما انها شكلت غطاء للتسلط والتفرد كما حدث خلال حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي تحول حكمه الى سقف ارتفع فوق كل فئات المجتمع وقيمه. ومع سقوط عهد صدام حسين وتداعي السقف الذي عطل الحركة السياسية والاجتماعية في العراق، تتبين ضرورة إثارة إشكالية تلك الصيغة الديموقراطية الغربية للحكم التي طبقتها أوروبا في الدول التي ظهرتها هي ايضاً وبلورت وجودها في بداية النصف الاول من القرن العشرين من شمال افريقيا الى الشواطئ الشرقية للمنطقة العربية التي يسمونها الشرق الاوسط. وليست حال العراق هي الوحيدة، بل كانت هذه حال الجزائر بعد استقالة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. والانتخابات التي كادت تأتي بالجبهة الاسلامية للانقاذ الى السلطة، كذلك كان حال لبنان بعد حربه التي كشفت ان الصيغة الغربية للحكم فيه هي احد ابرز الاسباب لتلك الحرب، وها هي حال السودان الآن، وربما حال غيره غداً. لذا لم يعد القول هو ان الصيغة الغربية الديموقراطية في الدول العربية والاسلامية هي اشكالية ومشكلة، ربما اصبح هذا الامر مسلماً به، بل اصبح ضرورياً اجتياز ذلك الى مرحلة تحديد طبيعة المشكلة وعواملها المتعددة، وهل هي فقط مشكلة عدم وجود ديموقراطيين يطبقون تلك الصيغة الديموقراطية ام ان الصيغة نفسها هي مشكلة ايضاً؟ ما يمكن قوله اولاً ان الصيغة الديموقراطية الغربية لم تستطع، على مدار اكثر من نصف قرن من التطبيق في البلاد العربية والاسلامية، الوصول الى جميع القوى والفئات التي تتكون منها مجتمعات تلك الدول، ولم تتمكن من رعايتها. فلم تكن ديموقراطية لغالبية المواطنين وإنما كانت آلية للحكام للحكم على هواهم ولاقصاء الآخرين الذين يعارضونهم. وفي العراق كان الامر اكثر وضوحاً. فمع سقوط النظام بفعل قوى خارجية أجنبية، بدا من الصعب وجود اي قوى في الداخل العراقي قادرة لتكون نواة لنظام جديد مغاير، او حتى مجرد نواة لقيادة تتولى السلطة او حتى تتيح افراد اي رموز تكون جديرة بالسلطة وشغل الفراغ الناشئ. الى جانب ان المعارضة العراقية وجدت نفسها مصطفة الى جانب الاحتلال بعدما عجزت هي عن تغيير النظام. أما قوى الداخل فعطلتها سنوات التسلط الذي مارسه النظام بقسوة ووحشية جعلت صعباً تبلور اي قيادات معارضة داخلية حتى ولو كان ذلك سراً. وها هي الآن "بؤر الحركة والقوة"، اذا صح التعبير، تنم عن تضاريس المجتمع العراقي سياسياً واجتماعياً. فاذا كانت قد تبلورت على مدى سنوات تطبيق الصيغة الغربية الديموقراطية قوى من طبيعة تلك الصيغة وتقول بها، وحزب البعث هو واحد من تلك القوى وحكم صدام حسين باسمه، فإن القوى الاسلامية التي كانت في الظل، هي احدى حقائق المجتمع العراقي، تماماً كما هي حالها في المجتمعات العربية كلها. وحتى الاحتلال وجد نفسه يقبل بتمثيل تلك القوى في مجلس حكمه وحكومته، وها هو مفاجأ بأن تلك القوى الاسلامية موجودة في الشارع بقوة وفاعلية أكانت في اطار حركة السيد مقتدى الصدر او في الحوزات العلمية كلها او في الاحزاب العراقية كحزب الدعوة او المجلس الاعلى. من هنا سيظل يشكل خللاً كبيراً عدم استيعاب حقائق المجتمع العراقي وبقية المجتمعات العربية لجهة تكوينها الفعلي وبالذات الحال الاسلامية فيها التي لم تستطع ان تغيبها الصيغة الغربية الديموقراطية أكانت اوروبية أم أميركية. ومن الخطأ الظن ان وجود أميركا المباشر في أرض العراق وفي عمق المنطقة العربية والاسلامية قد يمكنها من تجاوز الحالة الاسلامية لا اقصاء سياسياً ولا اقتلاعاً عسكرياً. واذا كان هناك من هو مهتم بتظهير قيادة او سلطة مسؤولة للعراق او يعمل من اجل ذلك، فإن تلك القوى، النابعة من تضاريس المجتمع العراقي، يجب استيعاب حقيقتها، للتمكن من تظهير تلك القيادة المطلوبة للعراق، شرط عدم تجاهل تلك القوى الاسلامية التي فرضت نفسها في الساحة العراقية مستندة الى كم بشري وانتماء الى مخزون ديني وثقافي كبير، وهي حال اصول تكاد تسود المجتمعات العربية والاسلامية كلها. نجحت الدول الأوروبية في خططها التي مكنتها من البقاء ردحاً من الزمن في ديار العرب والمسلمين، وأتاحت لها فرض ما لديها من اصول وأسس وثقافات عبر انظمة حكم وقوانين، مع ما يرافقها عادة من انماط سلوك وتفكير في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومجالات الفكر والتربية والتعليم والثقافة. وبدا في فترة من الزمن وكأن القوى الاسلامية افسحت في المجال للطروحات والأصول الأوروبية لتفعل فعلها في المجتمعات العربية والاسلامية رغبة منها في تعميق نهضة حتى على الطراز الأوروبي. لكن الذي حدث هو ان النمط الأوروبي لم يتم تأسيسه في العمق، ولم يحل محل ما هو موجود وقائم من صيغ عربية واسلامية. فممارسة الديموقراطية، في جانبها الانتخابي، وبناء للحال العائلية القبلية السائدة في المجتمعات العربية والاسلامية، تحولت ممارسة حق اقتراع وانتخاب، حدود حريته هي مصالح العائلة التي ينتمي اليها صاحب ذاك الحق، وهي بذلك تحولت عملية اقتراع جماعي تجري بناء للقاعدة الاسلامية القائلة بأن القرار هو "لأهل الحل والعقد". وبدت الديموقراطية بذلك وكأنها كانت تقوم وتبنى على ما هو قائم لأنها لم تستطع الغاءه. هنا يمكن القول ان كل ما هو أوروبي في المجتمعات العربية والاسلامية من نظم وممارسات وصيغ لم يكن راسخاً ومعمقاً وثابتاً، وانما كان طلاء وقشرة تتساقط عند اي اهتزاز اجتماعي، بل وتساقطت في بعض هذه المجتمعات، وتكاد تتساقط في البعض الآخر. ويمكن القول ان كانت هذه حال لبنان حيث تراجعت صيغ القيادة السياسية الحزبية والاجتماعية العادية التي قامت بناء للصيغة الأوروبية وكادت تغيب عن ساحة الفاعلية والتأثير. واي قراءة لمراكز القرار في لبنان منذ انتهاء تلك الحرب الداخلية اللبنانية توضح صحة ذلك. وفي اليمن، وبعد حرب الجنوب والشمال فيها والتي انتهت بتوحيدها سياسياً، وسقوط سلطة الحزب الاشتراكي واحزاب قومية في الجنوب، اصبح للاحزاب الاسلامية وزنها وثقلها في المجتمع وفي مركز التمثيل الشعبي الذي هو مجلس النواب. والأمثلة كثيرة في الجزائر والمغرب والأردن وحتى في الكويت، حيث نهضت الحركات الاسلامية في مواجهة ما كان قد تبلور في سياق الهجمة الأوروبية من احزاب وتجمعات ثم عاد ليتداعى. وهذا كله يتيح لنا ان نقول ان البديل المنظم او غير المنظم لكل تلك الحالة الأوروبية كان في مجمله اسلامياً. وها هو العراق الآن يعبر عن هذه الفرضية. فمع سقوط النظام الذي اتصف بالحسم والقمع لكل ما هو اسلامي، يشهد العراق نهوضاً اسلامياً شاملاً أكان في جنوبه ام في معظم مناطقه. من هنا يتضح ان آلية تظهير قيادة جديدة للعراق لا بد لها من الأخذ بكل التضاريس السياسية والاجتماعية في العراق التي برزت بعط سقوط النظام، ويشكل ذلك النهوض الاسلامي أبرز تلك التضاريس. واذا كانت الدول المحتلة تخاف ذاك النهوض الاسلامي قبل احتلالها للعراق وبعده، وها هي مواجهة به، فلا مفر لها من التعاطي معه. وليس ضرورياً ان يكون رجال الدين هم تلك القيادة، لكن الضروري هو ان يجري القبول بقيادات تعبر عن ذاك النهوض أكانوا أهل ربط وعقد، او زعماء عائلات وقبائل او تجمعات اسلامية. هذا اضافة الى كل القوى السياسية العراقية المعروفة من وطنية وقومية أكانت عامة او حزبية بعثية او غيرها. هذه حقيقة اجتماعية قائمة لا مفر لقيادة الاحتلال من الاخذ بها والتعامل معها، وإلا فستجد نفسها في حال صدام مستمرة مع تلك القوى الاسلامية وغيرها، اذا ما اندفعت لتبني نظاماً وتقيم قيادة بقوة السلاح والبطش، عندها تؤسس لنظام سيكون مجدداً سقفاً ضاغطاً كالنظام الذي انهار وبالتالي يستثير المقاومة اكثر فأكثر. لكن المقاومة ضد نظام يقيمه جيش محتل ستكون ممكنة اكثر من مقاومة النظام السابق. عندها قد تتاح الفرصة لولادة القيادة الحقيقية للعراق وسط المواجهة الشعبية والمسلحة للاحتلال. * كاتب لبناني.