السؤال الذي يلح في ذهن معظم العراقيين: هل سيبقى صدام في الحكم ام ينتهي، وليس: هل ستنشب الحرب أم لا؟ فالعراق والعراقيون في حالة حرب منذ دشن صدام حسين الرئاسة عام 1979 بمذبحة قضى ضحيتها معظم رفاق دربه ليتبعها بعد عام بحرب عبثية ضد ايران دامت ثمانية اعوام، ثم يليها بغزو الكويت وما اعقب ذلك من حرب لا يزال العراق يعيش تداعياتها. ان نهاية هذه الحرب/النزيف - داخلياً وخارجياً - يتحقق بزوال النظام وليس بإعطائه جرعة من الحياة باسم السماح للمفتشين الدوليين بالمزيد من الوقت للخلاص من اسلحة النظام ذات الدمار الشامل، فدمار العراق والعراقيين تحقق بدون هذه الاسلحة. هذه ليست دعوة للحرب، فحرب الخليج الاولى ضد ايران انتهت من دون سقوط النظام، كما ان "عاصفة الصحراء" التي حققت تحرير الكويت عصفت بالعراقيين لا بالنظام. فالعراقيون لا يحتاجون لدروس في مآسي الحرب ولكنهم في أمس الحاجة للمساعدة للخلاص من هذا الكابوس الطويل. والقول بأن تغيير النظام العراقي هو من حق الشعب العراقي وليس من حق اي قوة خارجية صحيح، اذا كان العراق في وضع طبيعي، أما في حالة الغرق التي يعيشها اليوم فتصبح تلك المقولة اشبه بالقول: على الغريق ان ينقذ نفسه بنفسه من دون مد يد المساعدة اليه. ويذهب آخرون من "الاشقاء" في تبرير استمرار الوضع الراهن معاناة العراقيين بأن اميركا تطمع في نفط العراق وليس في حرية العراقيين، وكأن نفط العراق استخدم طوال حكم صدام لخدمة العراقيين وليس مجرد وسيلة للحفاظ على السلطة وشراء التأييد العربي والاجنبي لنظامه، ناهيك عن اسلحة الدمار و شن الحروب. ويتعاظم شعور المرارة لدى معظم العراقيين عندما يأخذ البعض من العرب والمسلمين عليهم تعاونهم مع الولاياتالمتحدة للخلاص من هذا الكابوس بحجة ان الاخيرة منحازة لاسرائيل، وكأن في استمرار معاناة العراقيين وحرمانهم من الحرية خلاص للفلسطينيين! ويطلع علينا اكثر من كاتب عربي بالقول: ان اميركا لا تريد الديموقراطية في العراق لأن حكم الغالبية سيعني حكم الشيعة في العراق وهذا انتصار لايران الاسلامية. فاضافة الى التشويه او الجهل بشيعة العراق فإن التلويح ب "الخطر" الشيعي استخدم لإدامة نار الحرب العراقية - الايرانية التي كان الشعب العراقي برمته وقوداً لها، والآن يراد استخدامه مجدداً خوفاً من رياح التغيير الديموقراطي في المنطقة، على رغم ان الدول العربية كافة - خصوصاً الخليجية منها - على علاقة حسنة مع ايران الاسلامية. ومن اجل الحفاظ على الوضع الراهن عراقياً واقليمياً يستخدم البعض الورقة الطائفية باسم الخوف على "سنّة" العراق من الخطر الشيعي، فيكتب رئيس تحرير سابق لجريدة عربية تصدر في لندن "الحياة"، 19/1/2003: "ان تغيير النظام، وليس اطاحة صدام حسين وحده، يعني استهداف الطائفة العربية السنية"، متجاهلاً ضحايا النظام من السنة العرب، اضافة الى "سنية" التركمان والكرد الداعين للتغيير لصالح الديموقراطية، ويذهب آخر الى اختصار الحالة العراقية بمجرد مطالبات لاقليات "شيعية" و"كردية" لا تستحق الاهتمام ما دام الحكم في يد عرب العراق السنة، ناسياً او متناسياً ان الرقمين الشيعة والاكراد يشكلان اكثر من ثلثي سكان العراق. وتتعاظم الجفوة بين العراقيين و"اشقائهم" العرب، عندما يتحدث البعض منهم عن أكراد العراق كخطر يهدد وحدة العراق بالوقت الذي يطالب كرد العراق الذين يتمتعون بالاستقلال الفعلي بالعودة لعراق موحد في ظل نظام ديموقراطي فيديرالي. ومع ذلك يشكك البعض بالفيديرالية كخطوة للانفصال الكردي، ولا ادري ما الذي يجب ان يقوم به الكردي ليثبت عراقيته؟ ان النظام الفيديرالي مطلب عراقي قبل ان يكون كردياً وفيه مصلحة لكل العراقيين. واذا كانت الفيديرالية تخدم طموح الالماني والبرازيلي وحتى ابناء دولة الامارات العربية المتحدة، فماذا يمنع ان تكون الفيديرالية النظام الاتحادي وصفة لعراق المستقبل. ان من يريد من الكردي ان يكون عراقياً عليه ان يبدأ بمعاملته كعراقي متساوٍ بالحقوق والواجبات وشريك كامل في الحكم والمواطنة، وإلا فإن من حق الكردي الاستقلال. التعاون مع الولاياتالمتحدة العراقيون، وبالذات قواهم الديموقراطية، أدرى باخطاء السياسية الاميركية وخطاياها، التي دفع العراقيون ثمنها في الحرب العراقيةالايرانية، وقبل ذلك في تخلي الولاياتالمتحدة عن كرد العراق لمصلحة تحالف صدام - الشاه، واخيراً في تخليها عن الشعب العراقي بوجه آلة القمع الصدامية إبان انتفاضته عام 1991. فقدت السياسة الاميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، بعدها الديموقراطي الويلسوني لمصلحة مكارثية الخوف من الشيوعية والاعتماد على الدكتاتوريات بحجة الوقوف في وجه الخطر السوفياتي. وهذا ما أكده تقرير أخير ل "كريستيان ساينس مونيتور" مؤداه أن اميركا غيّرت بالقوة 81 نظاماً، ولكنها لم تقم انظمة ديموقراطية بديلة إلا في خمس دول المانيا، اليابان، ايطاليا، بنما، غرينادا. الجديد في السياسة الاميركية او حالة "عودة الوعي" في التعامل الاميركي مع العالم العربي يعود الفضل فيه الى كارثة 11 أيلول، التي كشفت عيوب بل مخاطر التعويل على اساليب الانظمة القائمة في احتواء خطر التطرف باشكاله المختلفة الدينية او القومية. من هنا باتت سياسة "الوضع الراهن" في المشرق العربي التي اعتمدتها واشنطن لعقود، تهدد مصالح اميركا بدلاً من حمايتها، بما جعل من التغيير لصالح الانفتاح والاصلاح الديموقراطي بديلاً مقبولاً. هنا التقت مصلحة الاخيرة مع القوى العراقية المناهضة للدكتاتورية للتعاون من اجل اقامة عراق ديموقراطي، ومع ذلك هناك من لا يزال يشكك بصدق التحول الاميركي مشيراً الى تعاون الولاياتالمتحدة مع دكتاتوريات عسكرية قائمة، مثل باكستان. الجواب على ذلك ان عملية التحول الديموقراطي ليست مجرد قرار سياسي يصدر من أعلى، او بضاعة تستورد، بل هو توجه ومسار قد يطول ويحتاج الى مستلزمات تتجاوز الارادة الاميركية، ولكن على الاقل لم تعد الاخيرة عقبة امام مثل هذا التحول، بل هي تطالب به حتى باكستان. ولكن المشكلة في التحول الديموقراطي في العراق تكمن في العراقيين انفسهم، اضافة الى العامل الدولي والمناخ الاقليمي غير المساعدين، فغياب التراث الديموقراطي والمؤسسات التمثيلية في العراق، خصوصاً بعد ثلاث عقود من حكم البعث، يجعل مثل هذا التحول مهمة شاقة قد لا يستطيع العراقيون، وهم في حالة الانقسام القائمة اليوم، تحقيقها من دون مساعدة خارجية وان واقع المعارضة العراقية في المنفى وما تعانيه من انقسامات يعكس في جانب منه هذه الحقيقة. من هنا نرى في المواجهة الدولية التي تقودها الولاياتالمتحدة ضد النظام العراقي فرصة، ليس لإزالة اسلحة الدمار الشامل فحسب، بل لاعادة بناء عراق تلعب فيه الولاياتالمتحدة دور العامل المساعد Catalyst في تكريس الممارسات الديموقراطية التي لا يمكن ان تستقيم من دون حمايتها من التدخلات الخارجية، فالفراغ السياسي الذي سيعقب سقوط النظام الحالي يجب ان لا يترك للتنافس الاقليمي بما يحول العراق الى ساحة صراع جديدة. كما ان الولاياتالمتحدة بالتعاون مع دول اوروبا هم الاقدر على المساهمة في اعادة بناء الاقتصاد العراقي بما يسهل عملية التحول الديموقراطي بل يدفع بها. ان عملية بناء العراق سياسياً واقتصادياً Nation Building تحتاج الى وقت، الامر الذي يفترض ان يحكم العلاقة بين العراقوالولاياتالمتحدة تحالف استراتيجي اشبه بتحالف كوريا الجنوبية او تركيا مع الولاياتالمتحدة. فقياساً الى تجربة التحالف العراقي - البريطاني بعد الحرب العالمية الاولى، نجد ان الاخيرة كانت عاملاً اساسياً في استقرار العراق الذي استطاع بدعم من بريطانيا ترسيم حدوده مع تركياوايران والسعودية والبعض يقول لصالح لعراق، واستطاع أن يتمتع بسلام وانماء اقتصادي وحسن جوار طالما نتحسر عليه. كما ان تحالف العراق مع اميركا سيوفر له غطاء عسكرياً يغنيه لا عن اسلحة الدمار الشامل فحسب، بل عن نفقات عسكرية باهظة هو أحوج اليها في بناء البلاد، اضافة الى اهمية مثل هذا التحالف لخلاص العراق من الوصاية الدولية المتمثلة بالعقوبات وغيرها من قرارات افقدت العراق استقلاله. ان هذه ليست دعوة لانتداب اميركي جديد على العراق، فالتاريخ لا يعيد نفسه بهذه الصيغة، وانما دعوة لعلاقة تنقذ العراق من نفسه ومن الاخرين من خلال التعاون مع اقوى ديمقراطية في العالم. وبالمقابل فإن خير ما يقدمه عراق الغد للمنطقة هو في تحوله من عنصر عدم استقرار الى نموذج للاعتدال والانفتاح السياسي، اضافة الى مساهمته في خلق نظام اقتصادي اقليمي جديد يكرس التعاون. ان محاربة التطرف والاصولية لا تتم بالقمع، بل بتقديم البديل المقبول، وفي امكان عراق الغد بالتعاون مع الغرب وبالذات الولاياتالمتحدة، ان يصبح مثل هذه القدوة بما يملكه من مصادر بشرية واقتصادية. كما ان مثل هذا المناخ الاقتصادي والسياسي سيكون الاقدر على المساعدة في حل الكثير من بؤر الصراع في الشرق الاوسط، واهمها قضية فلسطين، التي عجز "الوضع الراهن" عن حلها. وقبل ان اتهم بالتفاؤل المفرط، اقول أن هناك الكثير من العقبات، اولها: حالة الوهن التي تعاني منها المعارضة العراقية، ولكن الأهم من ذلك، ان الكثير من الانظمة الاقليمية التي اعتادت على "الوضع الراهن" ستجد صعوبة في الاستجابة لمتطلبات التغيير لصالح الانفتاح والديموقراطية، وستسعى لحصر التغيير في العراق بشخص الحاكم وليس النظام، اي استمرار الصدامية بدون صدام، بما يجعل التغيير في العراق مجرد التفاف/"تكويعة" Detour يعود بعدها الوضع الاقليمي الى ما كان عليه سابقاً. كما ان التنافس الاوروبي الاميركي قد يفرط بهذه الفرصة، وذلك بتشوية القضية كمجرد "حرب من اجل النفط" او "ثأر بوش من صدام" وغيرها من شعارات تخفي وراءها جهل او تجاهل لخطر دكتاتورية استخدمت اسلحة الدمار الشامل ضد شعبها وجيرانها، والمفارقة ان مثل هذه المعارضة تأتي من دول كألمانيا التي ما كان لها ان تستعيد حريتها من دكتاتورية هتلر إلا بدعم القوات الاميركية، ومع ذلك لا يزال الوقت متاحاً لتعاون اوروبا مع الولاياتالمتحدة لمنع وقوع الحرب وذلك بالاعداد لها بما يقنع صدام حسين بقبول عرض لا مجال لرفضه ألا وهو التنحي بسلام. واخيراً قد تفقد الولاياتالمتحدة العزم باختيار الطريق الاسهل والاسرع وذلك بالاكتفاء بنزع اسلحة الدمار واعتبار ذلك "انتصاراً" على طريقة "ام المعارك"، رغم بقاء صدام في الحكم. ولكي تكون الصورة في منتهى الوضوح علينا فقط ان نتأمل وضع المنطقة - ناهيك عن الشعب العراقي - اذا ما استطاع صدام حسين النجاة مرة اخرى... تماماً كما لو أن هتلر لا يزال في اوروبا! المقال مأخوذ من كلمة القيت في المنتدى الاقتصادي الدولي في دافوس.