مسألتان تتوقف على فهمهما مجموعة سياسات وممارسات تختلف عن بعضهما قدر الاختلاف في فهم كل منهما. الأولى تتعلق بعلاقات الدول الثماني ببعضها بعد قمة "سي ايلاند" في جورجيا الأميركية. وعلى التحديد ما يختص بدول ما يسمى الشرق الأوسط. والثانية متعلقة بتحليل حقيقة الدوافع والأهداف الأميركية من وراء مطالبة الدول العربية بالإصلاح والديموقراطية. فبالنسبة إلى المسألة الأولى ثمة قراءة تقول إن الدول الثماني تفاهمت في ما بينها، في ظل القيادة الأميركية، على توزيع المهمات الموكلة لكل منها في موضوع إصلاح دول الشرق الأوسط الكبير، لا سيما الدول العربية منها. الأمر الذي يوحي بأن المنطقة وضعت تحت الوصاية، واقتُسمت مواقع النفوذ فيها، كما حدث في مؤتمر سان ريمو بعد الحرب العالمية الأولى، أو مؤتمر يالطا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. هذه المقولة غير دقيقة، وغير صحيحة. فهي لم تقرأ غير ظاهر الخطاب، أما السببت فيرجع إلى كون الدول الثماني لم تتفق على استراتيجية ترتيب العلاقات في ما بينها، فكيف تتفق على ترتيب العلاقات مع خارجها؟ فأميركا لم تعلن تخليها عن استراتيجية الأمن القومي المعلنة في 20 أيلول سبتمبر 2002، والدول الكبرى الأخرى لم تُعلن خضوعها لتلك الاستراتيجية. أما الذي سمح بظاهر الاتفاق مع استمرار الخلافات اياها تحته، فقد جاء نتيجة حاجة جورج بوش إلى تخفيف أزمته العراقية وإلى الرد على منافسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة المرشح الديموقراطي جون كيري الذي اتهمه بتخريب علاقات أميركا بأوروبا وحلف الأطلسي. الأمر الذي دفع إدارة بوش إلى السعي لترطيب الأجواء مع الدول الكبرى الأخرى. ومن ثم فإعلانات قمة الدول الثماني عابرة موقتة لخدمة اغراض آنية. أما الدول الكبرى الأخرى، فقد لحق بها الكثير من الازعاج والإرباك بسبب تدهور علاقاتها بأميركا. مما جعلها، ولكل منها أسبابها، تجد مصلحة موقتة عابرة كذلك في التهدئة وترطيب الأجواء، ولكن من دون التوصل إلى اتفاق على اقتسام الغنيمة. فالتنافس ما زال مستعراً من دون ضجة واشتباك. واضح أن المبالغة المقصودة في قراءة العلاقات المستجدة بين الدول الكبرى الثماني، واعتبارها إعلان وصاية على العرب تؤدي، وبغض النظر عن النية والهدف المتوخى، إلى الضغط على بعض الأنظمة العربية لاغلاق كل الأبواب في وجهها، فلا يبقى غير الباب الأميركي الإسرائيلي بالضرورة. فهو الأولى بولوجه "ما دام الكل اتفق علينا". وفي المقابل، يتضح أن قراءة تلك العلاقات بحدودها، وبحيث ترى التناقضات والصراعات تحت ظاهر خطاب "سي ايلاند"، تسمح بدرجة من الممانعة وتفتح أبواباً لسياسات دولية غير الاستسلام للسياسات الأميركية. المسألة الثانية تتعلق بكيفية فهم الضغوط الأميركية التي تمارس على الدول العربية تحت شعار "الإصلاح والديموقراطية". وبداية، ليس صحيحاً أن إدارة جورج دبليو بوش تضغط على كل الأنظمة العربية من أجل الإصلاح والديموقراطية. فالأنظمة التي يُركز عليها هي السعودية ومصر وسورية ولبنان وفلسطين. أما ما عداها فمقبول منها أي خطوة تسميها "إصلاحاً" أو "ديموقراطية" حتى لو كانت شكلية أو مضحكة، أو دارت إلى الخلف مثل تغيير قانون الانتخابات إلى الأسوأ. فما دام هنالك تركيز أولوية على أنظمة بعينها فكل دولة بعيدة منها، أو مناكفة لها، بهذا القدر أو ذاك تعتبر، في نظر بوش، كمن تقفز قفزاً نحو الإصلاح والديموقراطية، أو لها عين الرضا. يلحظ ان هذه الانظمة الخمسة المستهدفة اميركياً بحملة الاصلاح والديموقراطية هي التي لعبت دوراً اساسياً بين 1995 2000 في عدم تمرير التسوية الاسرائيلية بالنسبة الى الضفة والقطاع والجولان، والقضية الفلسطينية عموماً، وان بالاستناد الى القرارين 242 و338. وقد اتهم المحور المصري - السوري - السعودي باجهاض مشروع الشرق اوسطية كذلك. ومن هنا جاءت ادارة بوش ومعها قرار اسرائيلي - صهيوني بتجميد مسار التسوية من اجل احداث التطويع الضروري للانظمة الخمسة المذكورة حتى تقبل بالتسوية الاسرائيلية للقضية الفلسطينية وتسلم بالهيمنة الاسرائيلية الى جانب الاميركية على المنطقة. وهذا هو الذي يفسر وليس احداث 11 ايلول سبتمبر 2001، استراتيجية الحرب العسكرية والاعلامية والسياسية على المنطقة. والذين يشكون في النقطة الاخيرة اعلاه لا يلحظون معنى التماهي بين ادارة بوش وحكومة شارون، لأن من غير الممكن قراءة السياسات الاميركية ازاء المنطقة عندنا بعيداً من هذا التماهي. ولا حاجة الى التذكير بان الصهيونية الليكودية بل الأشد تطرفاً من الليكود هي في مركز دائرة اتخاذ القرار في ادارة بوش. ومن ثم يخطئ من لا يستحضر ذلك في كل تحليل للسياسات الاميركية. ولهذا يخطئ من يتصور ان ثمة مشروعاً اميركياً للاصلاح والديموقراطية في البلدان العربية على الخصوص، فيقال، مثلاً، ان هنالك خلافاً اميركياً مع الانظمة الخمسة المذكورة حول الاصلاح والديموقراطية. ففي هذا استبعاد لاخطر ما تحمله الهجمة الاميركية الراهنة على العرب والمسلمين، اي استبعاد السياسة. فادارة بوش تقدمت بقائمة طلبات من الانظمة العربية المعنية، وتطلب مثل ذلك من ايران، ومن بينها ادارة الظهر للشعب الفلسطيني وفي المقدمة اعتبار انتفاضته ومقاومته وايضاً "حزب الله" في لبنان ارهاباً وتمسكه بالقدس وبثوابته الاخرى بما فيها حق العودة، لاواقعية وتطرفاً. فهذه القائمة من الطلبات هي التي لها الاولوية على شعار الاصلاح والديموقراطية الذي قصد منه الابتزاز لانتزاع لا شيء آخر غير ذلك. وبكلمة، ليس لادارة بوش من سياسات في المنطقة غير خدمة السياسات الاسرائيلية بالدرجة الاولى. ومن ثم لا يمكن ان تقرأ الضغوط تحت شعار الاصلاح والديموقراطية الا في خدمة تلك السياسات. فهذه القراءة وحدها هي التي تنقذ الديموقراطيين الحريصين على اوطانهم من الهيمنة الصهيونية ومن الشعور بالتناقض بين دعوتهم للديموقراطية ومواجهتهم للحملة الاميركية التي تطالب بالاصلاح والديموقراطية، كما لا يبقى مكان للسؤال هل الاصلاح والديموقراطية من الداخل ام من الخارج. فهذا الخارج وتلك الحملة لا علاقة لهما باصلاح وديموقراطية وانما بفرض المشروع الصهيوني على المنطقة. فلا تناقض بين الدعوة الديموقراطية واعطاء الاولوية لمواجهة الحملة الاميركية، ولا مكان لسؤال عن داخل وخارج في موضوع الاصلاح والديموقراطية.