لم يكن خطاب الرئيس الاميركي جورج بوش الابن ليأتي على هذه الدرجة من اللاتوازن الا بفعل انحناءات السلطة الفلسطينية ورفضها نداء الانتفاضة لبناء الوحدة الوطنية وبرنامج سياسي موحد، والتهافت في الموقف الرسمي العربي. وتحت زلازل الانتفاضة والمقاومة، واجتياحات الاحتلال العدوانية جاء خطاب الرئيس الاميركي بوش. الخطاب غير المتوازن، وضع شروطاً مسبقة على الشعب الفلسطيني. يريد قيادة اخرى اكثر مطواعية للاملاءات الاميركية، "مختلفة وجديدة"، ووقف المقاومة الوطنية تحت عنوان "وقف العنف والارهاب". ولم يدعُ إلى "وقف الاحتلال والعدوان" بل كرر تفهمه لعمليات شارون الدامية تحت عنوان "حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها" بينما تعتدي لإدامة الاحتلال والاستيطان. خطاب بوش وضع شروطاً مسبقة قبل أي خطوة وآلية عملية ملموسة لوقف الاستيطان وانسحاب الاحتلال من الارض الفلسطينيةالمحتلة. خطاب بوش وضع زمام المبادرة بيد شارون، وعليه رحب فوراً بشروط بوش المسبقة على الشعب الفلسطيني، وأكد "لا بحث سياسي قبل وقف العنف والارهاب وتشكيل قيادة اخرى مختلفة وجديدة. ترك بوش افكاره الخاصة بالانسحاب الاسرائيلي والاستيطان، والحدود والقدس واللاجئين معلقة بالهواء من دون آليات وعلى مساحة ثلاث سنوات. متجاهلاً القرارات الدولية بشأن حدود دولة فلسطينوالقدس واللاجئين والاستيطان ورحيل الاحتلال الى ما وراء خطوط 4 حزيران يونيو 1967. بوش وضع شروطاً على سورية ولبنان ودعا الدول العربية لوقف الانتفاضة والمقاومة تحت عنوان "وقف الارهاب"، وطالب الدول العربية "بتطبيع العلاقات مع اسرائيل". ما زالت افكار بوش تحتاج الى التوازن عملاً بالقرارات الدولية، وتفتقر الى خطة ملموسة وآليات عملية وجداول زمنية تنزل تحت سقف القرارات الدولية. إن ادارة السلطة الفلسطينية ظهرها لنداء الانتفاضة والوحدة الوطنية السياسية، والتهافت العربي، شكلا عاملاً مهماً دفع بوش نحو تبني الموقف الاخير. فالوضعان الفلسطيني والعربي متداخلان تماماً، وفي هذا التداخل تطفو على السطح تناقضات الحالة العربية الرسمية، والانفصام في السلوك السياسي العملي وبين ما تم اقراره على مستوى قمم الانتفاضة العربية الثلاث القاهرة، عمان، بيروت التي تواتر انعقادها خلال العامين الماضيين. وواقع النظام الرسمي العربي والفلسطيني لا يسر صديقاً، ولا يغضب عدواً، فهو واقع متآكل بشكل مستمر منذ اكثر من عقد من الزمن، منذ حرب الخليج الثانية تعطيل وزن العراق وانهيار التضامن العربي... ومقايضة مسلسل اوسلو بوقف الانتفاضة الكبرى، على رغم أن الانتفاضة الثانية الجديدة اعادت شيئاً من الوهج والبريق الى العلاقات العربية - العربية المشتركة، وتحديداً منذ قمة القاهرة التي عقدت بعد اسابيع من اندلاع الانتفاضة في اكتوبر 2000. .وبدلاً من تثمير الانتفاضة، والامساك بإنجازاتها التي فرضتها كواقع على الارض تم وللأسف وضعها على طاولة المساومة بين مختلف الاطراف الاقليمية مع الولاياتالمتحدة واسرائيل، الامر الذي أدى الى ارتباك الموقف الاوروبي وحتى الدولي الداعم لنضال الشعب الفلسطيني. ونعتقد الآن بأن اللحظات المفصلية التي تعيشها المنطقة تتطلب من النظام الرسمي العربي مغادرة نهج الاستجداء ولغته وشعارات المبادئ العامة، للدخول الى ساحة الفعل والتأثير عوضاً عن البقاء ضمن دائرة ردود الفعل الاستجابية السلبية وبناء نهج آخر قوامه تفعيل عناصر القوة العربية، وتثمير الانتفاضة بمد سبل العون للقوى الميدانية والقاعدة العريضة وللشعب الفلسطيني لضمان استمرارها حتى تحقيق اهدافها، ومغادرة سياسة صب الاموال إما في طاحونة اجهزة السلطة او اللون السياسي الفئوي بديلاً من القاعدة العريضة للانتفاضة والمقاومة والشعب التي جُمعت الاموال بإسمها. هذه مسألة تقع على عاتق الحالة العربية الرسمية والشعبية. وفي الجانب الرسمي وهو الجانب المعني أولاً باعتباره قابضاً على القرار والامكانات والقدرات، فإن خطوات عربية مطلوبة لتحقيق نقلة نوعية جديدة في العلاقات العربية المشتركة أولاً، وفي العلاقات العربية مع العالم بأسره، خصوصاً الولاياتالمتحدة وأوروبا، وعنوان العلاقات الاخيرة يجب ان يصب بالضرورة في نهج لغة المصالح المتبادلة. فالعلاقات الدولية تصطبغ الآن بالمصالح، والعديد من دول العالم، خصوصاً الكبرى منها تخوض صراعات وصراعات دموية من اجل المصالح. ونملك كعرب من القدرات والامكانات ما يؤهلنا لتقديم مصالحنا بالتوازي مع ما لغيرنا من مصالح لدينا، وهو ما ينعكس على مستوى ودرجة العلاقة السياسية التي تعود علينا بالفائدة الكبرى. وفي الوضع الفلسطيني نلحظ جانبين اثنين: - تنامي المقاومة والفعل الفدائي المسلح ضد جيش الاحتلال والمستوطنين، ونهوض شعبنا من بين ركام مسلسل اوسلو وتنازلاته، ما يؤشر على فشل جولة "الجدار الواقي" الشارونية على رغم الخسائر الباهظة التي لحقت بشعبنا ومؤسساتنا الفلسطينية. ولن يكون مصير الجولة الراهنة "الطريق الحازمة" بأفضل من المصير الذي سبقه. - الارتباك السياسي في صفوف السلطة، وترددها في الاقدام على اتخاذ مواقف اكثر حزماً ووضوحاً على صعيد رفض الضغوط والاملاءات الاسرائيلية والاميركية، واطلاق الطاقات الفلسطينية المختزنة وتحديداً عامل الوحدة الوطنية ببرنامج سياسي موحد على اختيار الانتفاضة والمقاومة، ودمقرطة مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية. من هنا نجد أن الارباك والتجريب سيد الموقف في سياسة السلطة. فتحويل مسألة الاصلاح السياسي والمؤسساتي الى قضية شكلية يلبي ما هو مطلوب اميركياً من دون أن يلبي ما هو مطلوب فلسطينياً. ان الوضع الفلسطيني بشكل عام شائك ومعقد، ويمر بلحظات مفصلية لها علاقة بما جرى ويجري فوق ارضنا الفلسطينية منذ اكثر من عشرية من السنين، خصوصاً بعد عدوان "الجدار الواقي" الذي قاده شارون وطاقمه الامني والعسكري. فحكومة شارون والادارة الاميركية، تحاولان الآن بأقصى الجهود الممكنة قطف ثمار العدوان الذي احرق الاراضي الفلسطينية، وألحق بشعبنا خسائر باهظة بشرية ومادية. ومن هنا فإن ما بعد المجزرة العسكرية الدموية المتواصلة، وفق نهج "الاجتياحات الدوارة" التي يمارسها شارون الآن، ليس مجزرة اخرى سياسية يراد بها فرض منطق التسوية الاميركي - الاسرائيلي، بإعادة تقزيم حتى ما طرح في كامب ديفيد 2 تموز يوليو 2000، ودفع الفلسطينيين الى القبول بتحويل سلطة الحكم الذاتي بعد إعادة قولبتها وفق المقياس الاميركي - الاسرائيلي الى كيان فلسطيني، وآخر ما تفتقت به العبقرية الاميركية هو الحديث عن "دولة موقتة"، مصيرها اللاحق غير معروف. مع ان شارون لا يزال حتى اللحظة متمسكاً بما سبق وأبلغه الى الرئيس بوش الابن أخيراً عن تمسكه ببرنامج حل انتقالي طويل الاجل أي عودة الى سياسة الخطوة خطوة الاوسلوية، يتم من خلاله اعطاء اسرائيل الفسحة الزمنية الواسعة لاستكمال سياسة ابتلاع الارض وتغيير معالمها الديموغرافية وتهويدها المتتابع. وفي هذا السياق فإن دعوات الاصلاح الاميركية الموجهة للسلطة الفلسطينية، دعوات غير نزيهة لا وظيفة لها سوى اعادة قولبة الهياكل والمؤسسات الفلسطينية حتى تستجيب للاشتراطات الاميركية المقدمة على اساس التسوية التي أشرت لها خطاب بوش في 24/6/2002. ندعوكم إلى أن تلاحظوا خطوات السلطة الأخيرة والعلنية "ادانة المقاومة المسلحة بالمطلق، نهب المساعدات الشعبية والرسمية العربية، الوثيقتان اللتان قدمهما نبيل شعث الى وزير خارجية واشنطن 18/6/2002 بالاستعداد للتنازل عن معظم القدس وضم المستوطنات لاسرائيل وتجاهل حق العودة بالكامل راجع جريدة "الحياة" 18/6. ندعوكم لملاحظة مظاهرة عمال غزة 20/6/2002 حيث البطالة والجوع والسؤال الكبير عن الاموال العربية اين هي؟"، والصراع المعلن الدائر الان بين القوى الميدانية للمقاومة وبين سياسة السلطة وانصارها وشركائها في التشكيلة الوزارية القديمة - الجديدة نداء شخصيات اكاديمية وقوى ضد المقاومة المسلحة - جريدة "القدس" 19، 20، 21، 22/6/2002... الخ. من جهتنا، نعتبر الاصلاح قضية مطلوبة قديمة - جديدة، منذ بدء نفق اوسلو سبتمبر/ ايلول 1993 وكسر قرارات المجلسين المركزي والوطني لمنظمة التحرير رجع الكتابين: "اوسلو والسلام المتوازن الآخر"، و"ابعد من اوسلو... فلسطين الى اين؟" لكاتب المقال ومدخلها الاصلاح السياسي أولاً في اطار منظمة التحرير الفلسطينية وصولاً إلى السلطة الفلسطينية. وهذا ما عبرنا عنه في مسار الانتفاضة والآن في المبادرة التي طرحتها اللجنة المركزية للجبهة يوم 6/6/2002 تحت عنوان "مشروع الاصلاح الوطني والتغيير الديموقراطي". نحن نناضل ونعمل أولاً، لتحقيق الاصلاح السياسي الذي يضمن البدء أولاً باصلاح مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد المسؤول عن كل الشعب وقضاياه في فلسطين والشتات. بما في ذلك مسؤولية المنظمة واشرافها على السلطة التي تمثل بدورها جزء من الشعب على جزء من الارض. وطريق الاصلاح السياسي يمر بالضرورة عبر حوار شامل تشارك فيه كل القوى في الوطن والشتات لاعادة بناء عقد الوحدة الوطنية على اساس البرنامج الائتلافي المشترك، والسير بخطوات حثيثة نحو انتخابات برلمانية جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني والمجلس التشريعي للضفة والقدس وقطاع غزة، تنبثق منه المؤسسات والهيئات الفلسطينية الوحدوية والديموقراطية. وبالضرورة فإن اصلاح سياسي كهذا يستتبع اصلاح اداري يمس كل الهيئات والهياكل للمنظمة والسلطة بتخليصها من الفساد المستشري، والاشراف على المال العام من الجهات الفلسطينية المؤتمنة والمسؤولية، وتسييد معايير الشفافية والنزاهة في عمل المفاصل والاجهزة ووضعها تحت رقابة القانون والقضاء المستقل. وعندئذ نستطيع ان نقول ان الطريق اصبحت مفتوحة امام حكومة وحدة وطنية سنكون من روادها. من جانب آخر، ان الحالة الرسمية العربية والقوى التي تصب في طاحونتها، تكرر ومن موقع تبرير سياساتها الهابطة معزوفة ترك المجال امام الحركة السياسية القطرية الاقليمية بدلاً من وضع آليات عمل عربية موحدة عملاً بقرارات قمة بيروت والمبادرة العربية الجماعية لمحاصرة شارون. وفي الشارع العربي اسمعوا ايقاع الجماهير العربية، "ففي مصر شعارات الشعب العمال، الجامعات، المثقفين تصرخ: واحد... اثنين الجيش العربي فين، مطلب كل الجماهير... غلق سفارة وطرد سفير، وفي المشرق العربي الجماهير تصرخ: قطع العلاقات مع اسرائيل وفتح الحدود العربية للمقاومة الفدائية". اما الحركة الشعبية العربية شكلت رافداً كبيراً للانتفاضة، اثرت ايجاباً على عطاء الشعب الفلسطيني، ودفعته إلى الأمام لتصعيد الانتفاضة والمقاومة. ورفعت من معنوياته الى درجة اصبح يرى فيها ان العالم كله يتكلم بكلمة فلسطين. ولكن هذه الحركة الشعبية العربية اذا بقيت من دون روافع وحوامل منظمة جماعية وعملية على يد القوى والاحزاب والمؤسسات والنقابات فإنها ستبقى حركة فقط، دوامها يقتصر على لحظاتها. بمعنى انها ستبقى حركة بثمار محدودة من دون نتائج استراتيجية. وهنا مسؤولية الاحزاب والمنابر الاعلامية بوضع كل الوقائع وكثيرها معلوم لها تحت بصر وبصيرة الاطارات والشعب لمعالجة الفقر الرهيب بالمعلومات في صف الشعوب والاطارات السياسية والنقابية والاعلامية. وعلى هذا الاساس نحن نأمل من كل قوى الشارع العربي ان تتصدى لحمل هذه الحركة الشعبية وحمايتها والمساهمة الرئيسية في ادامتها، وتحويلها الى قوة مادية ملموسة في التأثير على القرار الرسمي، وفي دعم الانتفاضة مادياً ولوجستياً وإعلامياً وسياسياً وبالأشكال الممكنة. من دون هذا وهذا، فإن اولويات خطاب بوش 24/6/2002 "لوقف الانتفاضة والمقاومة تحت عنوان وقف العنف والارهاب والا مواصلة اجتياحات شارون للشعب والارض في فلسطينالمحتلة" تطل ثقيلة برأسها، وتدب على الارض ببحور الدماء والجوع والدموع والشهداء على ايقاع شروط بوش المسبقة وتقاطعاتها مع شروط شارون الدموية. * الامين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.