تضمن «بيان مسيرة التطوير والتحديث في الوطن العربي» الذي اقره مؤتمر القمة العربي السادس عشر الذي عقد في تونس عام 2004 تأكيد الحكومات العربية على «بذل الجهود وتكثيفها من اجل تحقيق اسس الديموقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام، واحترام حقوق الانسان، بما يدعم دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية...». احيطت هذه «المسيرة» باهتمام واسع في وقتها من قبل اطراف متعددة رسمية وغير رسمية اذ بدت وكأنها مصالحة بين الحكومات والشعوب، وانهاء لقطيعة واحتراب لم تكن من فائدة منهما لأي من الجهتين. وفيما استمر الاهتمام غير الرسمي بالمسيرة - المصالحة بعض الوقت، فإن الاهتمام الرسمي بها ما لبث ان تقلص وانكمش بصورة تدريجية. ففي مؤتمر القمة العربي اللاحق اي السابع عشر الذي عقد في الجزائر عام 2005، جاءت في وثائق المؤتمر ومناقشاته ومقرراته اشارات خافتة الى تلك «المسيرة» والى مسألتي الديموقراطية وحقوق الانسان، واستطرادا الى مساعي المصالحة المفترضة بين النخب السياسية والمواطنين العاديين. تضمن الخطاب الذي ألقاه الامين العام للجامعة السيد عمرو موسى، اشارة مبهمة الى المسيرة اذ قال: العمل العربي المشترك استرد بعض عافيته عندما اقرت قمة تونس تحديث الميثاق العربي لحقوق الانسان. وتضمنت المقررات اشارات مبهمة ايضا اذ جاء فيها ان المؤتمر بعد ان اطلع على تقرير الامين العام بشأن «المسيرة» و «أخذ علما» - بالاستناد الى ذلك التقرير - بجهود الدول العربية في مجال الاصلاح، طلب الى الامين العام الاستمرار في تقديم تقارير الى الجامعة بشأن «المسيرة». وصدر عن قمة الجزائر قرار استند الى «المسيرة» هو ذلك المتعلق بإقامة «البرلمان العربي». وهذا القرار كان خطوة جيدة في الاتجاه الصحيح، ولكنها كانت انجازا محدود الاثر ليس فقط لأن الحياة البرلمانية في المنطقة العربية تشكو من اعراض كثيرة لا حاجة للتبسط فيها، ولكن لأن البرلمان جاء ليكرس هذه الاعراض ولكن على النطاق العربي حيث ان صلاحياته لم ترق حتى الى صلاحيات مجالس الشورى العربية. بعد قمة الجزائر واصلت «المسيرة» سيرها الانحداري اذ بات من الصعب جدا العثور على اثر لها سواء في المقررات او التقارير الرسمية، وتراجع الاهتمام على نحو ملحوظ بكلمة الديموقراطية التي نالت حظوة كبيرة ايام مؤتمر تونس. وهكذا وجدنا المسيرة تغيب عن القمة الاخيرة ومعها بعض المفاهيم التي حملتها. فكيف نفسر صعود وهبوط «المسيرة»؟ كيف نفسر الضجة التي احاطت بها يوم ولادتها، والتعتيم الكامل الذي انزل عليها؟ سعيا وراء تفسير هذه الاحجية علينا ان نرجع الى الظروف الدولية والعربية التي احاطت بولادتها وب «مسيرتها». خرجت المسيرة الى الحياة بعد حرب العراق وبعد ان فشلت القوات الاميركية في العثور على اي اثر او دليل على وجود اسلحة الدمار الشامل في الاراضي العراقية. وولدت المسيرة في خضم مساعي ادارة جورج بوش لسحب قضية اسلحة الدمار الشامل من التداول ولاسدال ستار من النسيان على الادعاء الذي قدمته لشن الحرب ولاستبدالها بذريعة تصدير الديموقراطية الى الدول العربية كمبرر لشن الحرب الى ذروتها. وفي سعيها للترويج للذريعة الجديدة لم يكن يكفي ادارة بوش ان تقول للمواطنين الاميركيين ان النظام العراقي السابق كان مسرفا في عدائه للديموقراطية، وان مجرد اسقاط النظام في بغداد كاف لنشر الديموقراطية في العراق وفي المنطقة. كان من الضروري حتى ينسى المواطن الاميركي كذبة اسلحة الدمار الشامل وان يقبل بذريعة تصدير الديموقراطية الى الشرق، ان تدعم ادارة بوش تلك الاكذوبة بالادعاءات الاضافية التالية: اولا، بأن التزام ادارة بوش بنشر الديموقراطية في العالم عموما والمنطقة العربية خصوصا يرتقي الى مستوى «العقيدة» و «الرسالة». وبلع الكثيرون هذا الادعاء الى درجة انهم كانوا يأخذون على ادارة بوش نزعتها «العقائدية» وغربتها عن تقاليد البراغماتية الاميركية. ثاينا، ان ادارة بوش لم تكن تخوض معركة كبرى - صليبية - على هذا الصعيد بل كانت تسجل انتصارات فيها حاسمة. من هنا سطت ادارة بوش على «ثورة الارز» في لبنان لكي تصورها وكأنها من منجزات حملة دمقرطة الشرق. ومن هنا ايضا كان تصعيد الضغط على الحكومات العربية لكي تعطي ادارة بوش نجاحا ما يساعدها على تعزيز مصداقيتها الداخلية، وعلى الذريعة الجديدة التي قدمتها لحرب العراق. ثالثا، ان ادارة بوش تخوض معركة حقيقية من اجل نشر الديموقراطية في الشرق الاوسط، وهذه المعركة لم تستهدف اسقاط النظام العراقي السابق، ولكنها كانت تستهدف ابعد من ذلك بكثير اذ كانت تستهدف اسقاط سياسات الواقعيين الاميركيين، بما فيهم ادارة جورج بوش الاول ومواقفها المسايرة للأنظمة العربية. لقد بشرت ادارة بوش الرأي العام الاميركي بأن ثمة فجرا جديدا في السياسة الاميركية اساسه «قانون بوش» الثاني الذي يرفض تلك المسايرة ويعتبر أن الموقف من الديموقراطية وحقوق الانسان هو الاساس في بناء العلاقات مع دول العالم. على خلفية هذه الادعاءات، لم تتردد ادارة بوش في توجيه الانتقادات بين الحين والآخر الى الانظمة العربية المحافظة بحجة انها تحيد عن مبادئ الديموقراطية وحقوق الانسان. في هذا السياق، لم يتردد المحافظون الجدد من ذوي الحظوة والمكانة في واشنطن في شن حملات التقريع والتنديد العلني بهذه الانظمة. فمثل هذه الحملات كانت تدفع بالادارة الاميركية الى اعتماد اللعبة الصفرية مع العرب، اي الى سلوك طريق العداء لكل ما هو عربي حتى ولو كان مواليا للادارة الاميركية. ثم ان هذه الحملات كانت تنفع في تسليط الانظار على «الاستبداد العربي» الذي هو من طبائع العرب، وكانت تبريرا لاحتلال الاراضي العربية على اساس ان الديموقراطية لن تأتيها من الداخل بل من الخارج. اما ما عدا هذا وذاك فإن هذه الحملات كانت تنفع لإخافة الحكومات العربية الصديقة والحليفة للادارة الاميركية حتى تكون معها، اي مع المحافظين الجدد، «مئة في المئة»، ولحملها على التخلي عن بعض المواقف التي لا يرضى عنها المحافظون الجدد. في الضغوط التي مارستها ادارة بوش على الحكومات العربية من اجل تحقيق الاصلاح الديموقراطي، بدت تلك الادارة وكأنها في موقع القوة المطلقة. ولم يكن من شك في قدرات القوة العظمى ولا في قدرة ادارة بوش على الانتقام من الاعداء وترويض العصاة والمترددين. بيد أن ادارة بوش كانت ايضا تعاني من ضعف وحرج كبيرين نتيجة الكارثة العراقية التي جلبتها على الاميركيين. هذا الضعف جعلها في حاجة الى «نجدة» تأتيها من الحكومات العربية لكي تعطيها ورقة توت تغطي بها اخفاقها الرهيب في حملة «دمقرطة العراق والعرب». ولم تكن الحكومات العربية لتبخل على ادارة بوش بهذه الورقة بخاصة انه لم يكن صعبا عليها ان تعرف ان بوش ديموقراطي مزيف - وتاريخه في حكم ولاية تكساس بعيد عن سيرة الحاكم الديموقراطي - وانه لا يعرف عن الديموقراطية في المنطقة العربية الا ما جاءه عن طريق كتاب «عبقري» السياسة الاسرائيلية والشرق اوسطية اناتولي شارانسكي. اي ان الحكومات العربية كانت تعرف ان ادارة بوش لن تذهب بعيدا، في نهاية المطاف، في سيناريو «تصدير الديموقراطية الى المنطقة». في اطارعلاقة الشد والجذب بين الادارة الاميركية والحكومات العربية، حققت «المسيرة» خلال عامي 2005 و2006 جزءا مهما من اغراضها. حتى اذا جاءت الاعوام اللاحقة وخفتت الحملة داخل الولاياتالمتحدة ضد حرب العراق وبدأت امارات التعثر والارهاق تظهر على المقاومة العراقية، وحتى اذا نسي الرأي العام الاميركي اكذوبة «اسلحة الدمار الشامل العراقية»، تراجع اهتمام ادارة بوش بتصدير الديموقراطية في المنطقة العربية. وبموازاة ذلك التراجع، تراجعت «المسيرة» وضاع اثرها في تقارير القمم العربية ومقرراتها ومداولاتها واجنداتها. ولكن هل بطلت الحاجة الى «المسيرة»؟ ان الحاجة الى بذل الجهود «من اجل تحقيق اسس الديموقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام، واحترام حقوق الانسان، بما يدعم دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية...» لا تزال قائمة اليوم كما كانت قائمة خلال انعقاد قمة تونس وقبلها. والحاجة الى مصالحة الحكومات مع الشعوب على اساس احترام المبادئ الديموقراطية كانت موجودة منذ نشوء الدولة المعاصرة. اذا كانت قرارات الدوحة قد نسيت ما جاء في المسيرة وما تتطلبه من مصالحات، فإنه ليس من الجائز ان تنساها المنظمات الاهلية والحركات المعبرة عن آمال الشعوب ومطالبها. * كاتب لبناني