تركز الديبلوماسية السودانية كثيراً هذه الأيام على أن أزمة دارفور"مفتعلة"، وان افتعالها حالياً من الخطط التي تستهدف البلد. ولا تنفي الخرطوم الفظاعات التي ترتكب في الولايات الغربية الثلاث، لكنها تقلل من حجم المأساة، معتبرة ان الأرقام المتداولة لدى الأممالمتحدة والمنظمات الانسانية تهدف فقط الى تبرير التدخل الخارجي في الشؤون السودانية. ومهما اجتهدت الخرطوم في تخفيف ما تشهده ولايات دارفور، فإن ثمة اجماعاً في تقارير بعثات تقصي الحقائق على ان نحو مليون شخص من أصل ستة ملايين يعيشون في الاقليم نزحوا من ديارهم، منهم ما لا يقل عن 120 ألفاً لجأوا الى تشاد المجاورة، وان عدد القتلى الذي لا يمكن حصره في دقة يصل الى عشرات الألوف في المواجهات، إضافة الى تدمير عشرات القرى وحرقها والانتهاكات الكثيرة لحقوق الانسان وقتل واغتصاب ونهب محاصيل. استغرب السفير السوداني في القاهرة، قبل إيام، اثارة هذه المشكلة الآن، وهي التي تتكرر فصولها كل فترة من الزمن منذ العام 1959. ولفت إلى أن المشكلات التي تنشب بين القبائل العربية والقبائل ذات الاصول الافريقية، كانت تحل دائماً وفق التقاليد المحلية من دون ان تتدخل فيها الدولة. وربما قد ينصح باعتماد الاسلوب التقليدي لحل المأساة الراهنة. قد يكون صحيحاً أن سكان الاقليم المختلفي الانتماء القبلي تواجهوا في السابق على المرعى والماء والمحاصيل في تلك المنطقة الفقيرة شبه الصحراوية. وتوصلوا الى تسويات في ما بينهم، لا تلبث المواجهات والغزوات ان تتجدد بعدها. لكن الحاصل منذ مطلع 2003، وإن كان يحمل إرث الماضي وخلافاته القبلية، يتعلق بمستجدات تعني الحكومة المركزية أكثر بكثير من السابق. لقد وصلت المفاوضات الحكومية مع"الحركة الشعبية لتحرير السودان"الى مرحلة متقدمة، بعدما حافظ الجنوب عملياً على الهدوء منذ اطلاق جولاتها منذ أكثر من سنتين. وبات في قدرة الحكومة تحرير قسم كبير من قواتها التي كانت تقاتل في الجنوب، مما يعني انتفاء الحاجة الى الاعتماد على"الجنجاويد"، أي رجال القبائل العربية في دارفور الذين اكتسبوا اسمهم من طريقة غزواتهم لمواطنيهم الافارقة في الاقليم. كما ان تقدم مسار السلام في الجنوب حيث رفعت مطالب المشاركة السياسية والانمائية يفرض التعامل مع المطالب المماثلة التي ترفعها خصوصاً حركتا"تحرير السودان"و"العدالة والمساواة"في دارفور. مع العلم ان الحركتين يتزعم الأولى أحد الذين اوصلوا الرئيس ديبي الى السلطة في نجامينا والثانية أحد أركان حزب الترابي، تتمسكان بوحدة السودان كمطلب أساسي في دعوتهما الى التفاوض على عكس الاتفاق مع حركة جون قرنق الذي لا يلغي احتمال الانفصال عن الجنوب. وهذا يعني ان الحركة المتمردة في دارفور تطرح على الحكومة المركزية تحدياً كبيراً يتعلق بمدى قدرتها على إمكان تمسكها بكل المناطق السودانية واستيعاب مشاكلها وكيفية ايجاد حلول لها بمنطق الدولة المسؤولة عن كل مواطنيها. وليس بمنطق تصفية الحسابات، كما في شأن"المؤامرة الدارفورية"التي قالت السلطات إنها اكتشفتها أخيراً واتهمت بها حزب الترابي، لمجرد الصلة بين زعيم"العدل والمساواة"والجبهة الاسلامية السابقة. دخل السودان سابقاً في مواجهات مسلحة مباشرة، أو بالواسطة، مع الدول المحيطة به والتي تعاني مثل ما يعاني من معارضات مسلحة تستخدم في هذا الاتجاه او ذاك، بحسب المصلحة. وقد يكون من مصدر القلق ان يتحالف متمردو دارفور مع دول في الجوار، لكن البلد المرشح أكثر من سواه لاحتضان التمرد، أي التشاد متهم بمحاباة الخرطوم وليس المتمردين على رغم انتماء رئيسه ديبي الى احدى القبائل الدارفورية الكبيرة. كما ان الثروة النفطية في السودان تجذب كثيراً من الاهتمام الغربي، خصوصاً الاميركي. كما يجذب موقعه ومساحته المصالح الاقتصادية والأمنية، كمدخل الى افريقيا الشرقية على اقل تقدير. كل هذا يعني ان الاهتمام الاميركي والدولي بهذا البلد سيزداد، وستجد الحكومة السودانية نفسها تحت وطأة مزيد من الضغوط المتنوعة، وبينها ازمة دارفور، من اجل تسهيل هذه المصالح. كل هذه الأسباب من المفترض ان تدفع الخرطوم الى الاسراع في انهاء الأزمة في دارفور، لأن في ايجاد حل سياسي وإنمائي وأمني في الاقليم، بالتفاوض مع سكانه وممثليهم، ما يقوي الدولة في وجه الضغوط الفعلية او المفترضة. أي ان الحل السريع العادل والشامل للأزمة يجب ان يكون مصلحة سودانية مباشرة، وليس تلبية لشروط أي طرف خارجي. ومثل هذا الحل يفترض ان تعي الخرطوم ان حجم المأساة الانسانية، والسياسية، في دارفور لا يمكن تغطيته بالقاء اللوم على"مؤامرة"ما، وان العالم لن يجد غير العقوبات لإراحة ضميره، في حال امتناعها عن هذا الحل.