تمثل أزمة دارفور التحدي الأكبر الذي يواجه الحكومة السودانية بعد انفصال الجنوب، فقد أدت الأحداث في إقليم دارفور إلى نزوح أكثر من 3 ملايين شخص، باتوا يعيشون في مخيمات ومعسكرات لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة. واعتبرت أكبر عملية نزوح تتم في التاريخ الحديث، مما أدى إلى تدويل القضية بصورة سريعة جداً وأصبحت ملفاتها في كل أروقة المؤسسات السياسية والحقوقية في العالم، وترتب عليها استصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير في أول سابقة في العالم لرئيس دولة ما زال في كرسي الحكم. إقليم متوتر وجاء انفصال الجنوب ليصب الزيت على النار في المناطق المتاخمة لإقليم دارفور، وهي إقليمجنوب كردفان والنيل الأزرق التي أضحت في حالة توتر عسكري واضطراب أمني شامل، مما يؤثر سلبا على العملية السلمية التي تسعى من خلالها الحكومة السودانية إلى القضاء على الحركات المتمردة في دارفور التي لم توقع على اتفاقية الدوحة الأخيرة التي لاقت مباركة كل دول العالم، وشاركت فيها كل من دولة قطر، والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، كأعضاء في اللجنة بينما حضرت كل من الصين وكندا كمراقبين. العدل والمساواة وتعتبر حركة العدالة والمساواة أحدث حركات التمرد في دارفور، وهي حركة ثورية منشقة عن حركة تحرير السودان في 2001، وقادها أحد أعضاء الحركة الإسلامية في السودان الدكتور خليل إبراهيم وزير الأمن السابق في حكومة عمر البشير، وانتهت الحركة إلى قبيلة الزغاوة.. وبدأت تمردها على الخرطوم عام 2003 بدعاوى التهميش وظلت تمثل أقوى الجماعات المتمردة بدارفور ماديا وعسكريا، في تمرد لم تفلح معه جميع اتفاقات السلام الخاصة بالإقليم.. ورفضت العدل والمساواة التوقيع على اتفاق أبوجا للسلام في مايو 2006 بين الحكومة السودانية وجناح مينو أركو ميناوي بحركة تحرير السودان بعدما رأت أنها لا تلبي المطالب.. وفي يوليو 2008 وقعت الحكومة السودانية وثيقة الدوحة للسلام مع حركة التحرير والعدالة، والتحالف الذي يضم عددا من فصائل التمرد.. لكن الحركات الكبرى بما فيها العدل والمساواة رفضت توقيع الوثيقة. تأثير على التحالفات وجاءت عملية مقتل زعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم، مع مجموعة كبيرة من قيادات الحركة في عملية عسكرية نفذها الطيران العسكري السوداني في محافظة ود بندا في شمال ولاية كردفان ليمثل تحولا نوعيا في قضية دارفور، وتلقي تلك العملية بظلالها على حركة العدل والمساواة نفسها، حيث يعتبر خليل المحرك الوحيد للحركة وهو الذي حمل أعباء القيادة والتخطيط وحتى التنفيذ وحده منذ تأسيسها، وكذلك يؤثر غياب خليل على مجمل التحالفات السابقة مع الحركات الأخرى داخل السودان وخارجه. وسيؤثر الغياب المفاجئ لقيادة العدل والمساواة سلباً على عمل الحركة، حيث تحتاج لوقت ليس بالقصير لتستعيد توازنها.. كما سيمثل وضع قيادة توافقية جديدة معضلة أخرى، خاصة أنه بدأت الانشقاقات بين القيادات الجديدة ولا يوجد من يستحوذ على احترام مقاتلي الحركة، مما ينعكس على ضعف وجود الحركة في الميدان، وهو ما تتميز به العدل والمساواة عن بقية الحركات التي تقاتل الحكومة في دارفور.. ويثير اختيار قيادة جديدة للحركة العديد من التساؤلات.. هل سيتم على أساس انتخابي؟ لكن حدوث صراع حول قيادة الحركة قد يعصف بها نهائيا، وبجهود التسوية السياسية في دارفور. تأثير الغياب وظهر أثر غياب خليل إبراهيم عن المشهد الدارفوري في أكثر من اتجاه، أولها: مدى اقتناع القيادة الجديدة للحركة بعدم جدوى العمل المسلح في حل مشكلة دارفور. ثانيها: قبول القيادة الجديدة لعروض الحكومة والدخول في مفاوضات جادة حتى يلحقوا بركب اتفاقية الدوحة. ثالثها: أن تحذو القيادة الجديدة حذو زعيمها الراحل وتواصل الحرب، وبهذا يثبت أن الخيار المسلح هو خيار كافة القيادات وليس خاصا بخليل إبراهيم وحده.. مما يضعف فرص السلام في دارفور بأكملها. تصريحات استفزازية بالنسبة للحكومة السودانية فإن مقتل خليل إبراهيم في هذا التوقيت هو فرصة كبيرة لها لمحاولة إنهاء الأزمة برمتها، خاصة أن الحكومة السودانية متورطة في معارك على أصعدة شتى، ومقتل خليل يعني مقتل مقاومة وحركة، ولكن ردة فعل الحكومة السودانية للعملية جاء استفزازيا، وأطلقت الكثير من التصريحات أكدت فيها نهاية الحركة، مما قد يعطي أفراد العدل والمساواة الدافع الكافي لتنظيم صفوفهم والعودة بقوة إلى الميدان مرة أخرى، فقد صرح رئيس القطاع السياسي قطبي المهدي أن مقتل "إبراهيم حرر شهادة وفاة حركة العدل والمساواة بل للتمرد في دارفور"، وتوقع قطبي مقتل قيادات أخرى في الحركة.. فيما اعتبر رئيس كتلة نواب الوطني غازي صلاح الدين أن مثل هذه التصريحات تفتقد للرؤية السياسية. ويتباين أثر غياب زعيم العدل والمساواة في بقية الحركات المتمردة مثل الجبهة الثورية وتنظيم كاودا الذي أسسته حركة العدل والمساواة، وكذلك الحركة الشعبية قطاع الشمال، وحركة تحرير السودان- جناح عبدالواحد نور، وحركة تحرير السودان - جناح منى أركو مناوى، وبعض القوى السياسية الشمالية بصورة كبيرة، فقد يكون هذا التأثير سلبيا لأن الجبهة الثورية وتحالف كاودا قامتا على أساس قيادة شخصية لها علاقات إقليمية ودولية واسعة مثل خليل إبراهيم، وبغيابه تفقد التحالفات قائدا لديه الكاريزما والمقدرة على قيادة التحالفات التي لا يجمع بينها أي رابط غير إسقاط النظام الحاكم في الخرطوم.. كما قد يعتقد البعض الآخر أن غياب خليل سيفتح الطريق لصعود آخرين أقرب فكريا لتيار الجبهة الثورية اليساري العلماني الليبرالي، وبهذا تكون الجبهة قد تخلصت من رجل مثل خليل الذي كثيرا ما أرق دوائر السياسة في الغرب، خصوصا بعد تشكك بعض الدوائر في علاقة خليل بالمؤتمر الشعبي الذي يقوده الترابي. قيادات جديدة ومن المؤكد أن المعارضة الشمالية وخاصة المؤتمر الشعبي قد فقدوا حليفا مهما أقض مضاجع الخرطوم لفترة طويلة من الزمن إعلاميا وعسكرياً، وكان جريئا في أفعاله ويشهد له غزوه المسلح للعاصمة السودانية ومحاولة احتلالها في مايو 2008 وسميت العملية "الذراع الطويل"، والمؤتمر الشعبي تربطه علاقة متينة بحركة العدل والمساوة، وأصبحت العلاقة أكثر من واضحة بعد الكشف عن تورط الرجل الثاني في حزب المؤتمر الشعبي إبراهيم السنوسي في الاتصالات بين تجمع كاودا والمؤتمر الشعبي أثناء زيارته الأخيرة لجوبا ونيروبي، وقد دافع الترابي عن حركة العدل والمساواة، وعقد عليها آمالا عريضة لتغيير معادلات السلطة في الخرطوم، ولكن بمقتل خليل، سوف تكون هنالك معادلات كثيرة ستتغير، وقد تشهد الأيام المقبلة بدايات هذا التغير، حين تعلن الحركة عن قيادتها الجديدة التي صرح زعيم المؤتمر الشعبي حسن الترابي أن الزعيم الراحل أبلغه بها قبل مقتله. المصالح ضد الحركات ولأول مرة، تلتقي مصالح الخرطوموجوبا في ضرورة مكافحة حركات دارفور وجيش الرب الأوغندي بقيادة جوزيف كوني، بالإضافة إلى الثوار الجنوبيين. أما الحركة الشعبية في شمال السودان وقضية دارفور، فهي بالنسبة للساسة في دولة الجنوب مجرد كروت يمكن التنازل عنها لمصلحة دولتهم الوليدة واستقرارها. وكما يبدو أن هناك إشارة مهمة في تزامن مقتل جورج أطور - متمرد جنوبي تزعم الحركة الشعبية - قبل أيام من مقتل خليل.. وإذا صدقت الأقاويل أن الخرطوم تدعم أطور في حربه ضد جوبا، فلا يمكن للخرطوم أن تضحي به، إلا في حالة واحدة، هي أن يكون الطرفان قد نظرا إلى مصالحهما العليا المتمثلة في الأمن، والاستقرار، ومعالجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة لكليهما. فتخلت الحكومة السودانية -وفقا للافتراض- عن أطور، وتنازلت حكومة جنوب السودان عن خليل الذي جاهد ضدها يوما من الأيام تحت ميليشيات الدبابين، قبل انقسام الحركة الإسلامية عام 1999. أطراف أخرى وستكون أوغندا طرفا في محاربة حركات دارفور التي تتخذ من أراضيها منطلقا للتمرد على حكومة السودان. ذلك وفقا لقمة البحيرات العظمى، في المقابل، يجب على الخرطوم الكف عن دعم حركة الجيش، بينما ترتاح أوساط الحكم في تشاد لرحيل خليل الذي تمرد على سلطتها، التي كانت قد اتخذت قرارا سابقا بإبعاده عن أراضيها بعد اتفاقها المفاجئ مع الحكومة السودانية عام 2010. اتفاقية دولية ويرى مراقبون أنه من المحتمل أن تكون عملية مقتل خليل إبراهيم بداية لوضع جديد في المنطقة بأكملها، وقد يكون هنالك تنسيق بين السودان، وأوغندا، وتشاد، وجنوب السودان ودول البحيرات العظمى لتصفية الحركات المسلحة التي تهدد استقرار دول المنطقة. ورغم شعور حكومة الخرطوم بالارتياح والطمأنينة بعد غياب الدكتور خليل عن ساحة الأحداث، فلن يكتمل ارتياحها وتتنفس الصعداء إلا بعد معرفة اتجاهات التغيير داخل حركة العدل والمساواة، حينها يمكن أن تقرر الخرطوم في أي اتجاه تذهب؟ اتجاه الحرب أم اتجاه المفاوضات وطي صفحة المعاناة التي يعيشها مواطن دارفور البسيط.