بعد ثلاثين عاماً من احتكار الدولة استيراد الأفلام وتوزيعها في سورية صدر منذ ثلاث سنوات قانون ألغى هذا الاحتكار الذي كان اوصل دور السينما الى حال يرثى لها سواء من ناحية آلياتها وتجهيزاتها وخدماتها التي لم تحدّث منذ خمسين عاماً ام من ناحية نوعية الأفلام المقدمة التي يطغى عليها الرديء والقديم والمكرر، ما أفضى الى تراجع كبير في اعداد روادها ونوعيتهم، ثم الى إغلاق العدد الأكبر من الصالات. وفي محاولة لإخراج الصالات من هذا الواقع المزري صدر قانون آخر في الفترة نفسها "يشجعها" على تحديث خدماتها. ومن الواضح انه لا يمكن تفعيل القانون الأول والإفادة من نتائجه بصورة حقيقية قبل ان يعطي القانون الثاني ثماره التي ما زلنا ننتظرها وربما ننتظرها ثلاثين عاماً اخرى. فحتى اللحظة لم تستجب سوى صالة واحدة في حلب الى هذا القانون، ما يجعل كثراً يتساءلون بنوع من البراءة او ربما السذاجة لماذا لم يقم اصحاب الصالات بتحديث صالاتهم؟ وهو ما سنحاول هنا الإجابة عنه. دعونا ننظر اولاً الى فحوى القانون المشجع الرقم 4. لقد اعفى هذا القانون صالات السينما التي ستعمل على تحديث خدماتها من الرسوم الجمركية على التجهيزات المستوردة على ان يتم ادخالها الى البلاد خلال ثلاث سنوات، وكذلك من ضريبة الدخل ورسوم الإدارة المحلية والملاهي لمدة خمس سنوات تم تمديد هذه الفترات لاحقاً، كما هدد في مادته الثانية باستيفاء "جميع الرسوم والضرائب المترتبة على التجهيزات المستوردة مع غرامة تعادل خمسة امثال قيمتها" فيما إذا "لم يتم استخدام التجهيزات المعفاة من الرسوم خلال ثمانية عشر شهراً من تاريخ استلامها"، ولم ينس في مادته الثالثة تخصيص "مبلغ عن كل فيلم سينمائي يستورد ويجاز للعرض السينمائي" لمصلحة المؤسسة العامة للسينما. هل يبدو هذا القانون مشجعاً فعلاً لصالات تعاني خراباً تاماً عمره عقود من الزمن اختفى خلالها مشاهدو السينما في البلاد. ولنلاحظ كيف تم ربط الإعفاء من الرسوم الجمركية بفترة زمنية محددة من ظهور القانون، وكأنه يفترض مسبقاً وجود سيولة مالية مناسبة وجاهزة لدى اصحاب الصالات تؤهلهم لتحديثها بعد الخسائر الهائلة التي تكبدوها طويلاً جراء قانون الحصر، من دون الإشارة حتى الى إمكان تقديم قروض طويلة الأمد وبفوائد مخفوضة لهم بغية تحقيق هذا الهدف، وعندما شارفت السنوات الثلاث على الانتهاء من دون ان يحرك احد ساكناً، كان كل ما قامت به الدولة هو تمديد الفترة من دون ان تجهد نفسها وتتساءل لماذا لم يتغير شيء. ثم ما معنى الغاية من المادة الثانية، ما الذي سيدفع اي مستثمر الى عدم استخدام تجهيزات استوردها ودفع ثمنها وهو ثمن باهظ جداً ما لم يكن لديه ما يوجب ذلك من الأسباب القاهرة، كأن تصل التجهيزات وتتأخر جاهزية الصالة لأسباب تتعلق بالتمويل والقوانين والروتين والبيروقراطية، او لأسباب تجارية بحتة كأن يحصل المستثمر على صفقة جيدة قبل ان يباشر عمليات التحديث في الصالة التي قد تستمر اكثر من ثمانية عشر شهراً ولنا في صالة الكندي خير مثال. اما المادة الثالثة فهي تتجاهل وبصورة سافرة مطالب السينمائيين - كما تجلت في ورقة العمل الشهيرة التي وقعها معظم السينمائيين السوريين قبل سنوات - بضرورة تأسيس صندوق لدعم السينما يمول من نسبة تقتطع من بطاقات الدخول الى الصالات، وفصل النفقات الإدارية داخل المؤسسة العامة للسينما عن نفقات الإنتاج وتغطية الأخيرة من وزارة الثقافة. وهو ما يعني تهرب الدولة مجدداً من التمويل المباشر للمؤسسة "بأن يكون للإنتاج السينمائي حصته الكافية في توزيع الدخل الوطني، وأن يصبح بنداً في دراسة موازنة الدولة" كما جاء في ورقة العمل. بل ويعني العودة الى العمل بروح قانون الحصر نفسه، إذ ان مقدار المبالغ التي ستستوفيها المؤسسة عن كل فيلم سينمائي مستورد سيحدد قدرتها على تغطية اجور العاملين لديها ونفقاتها الإدارية والتقنية وإنتاجها من الأفلام، ومن جهة اخرى ستحدد هذه المبالغ قيمة الأرباح الصافية التي سيحققها الموزعون وأصحاب الصالات السينمائية جراء استيرادهم الأفلام وعرضها، اي ان هذه المادة وضعت المؤسسة والقطاع الخاص مرة اخرى في مجابهة علنية، وجعلت ازدهار احدها متناسباً مع انحدار الآخر. وقد وصل هذا المبلغ بعيد ظهور القانون الى نحو 5 آلاف دولار وخفض لاحقاً الى ألف دولار، وإذا ما توقفنا عند العدد المتواضع من الأفلام التي تدخل الى سورية في الوقت الراهن، والتي لا يوجد اي مؤشر الى تزايدها في الأفق المنظور، يمكننا ان ندرك ان هذه المبالغ المحصلة لن تلعب دوراً فاعلاً في انتاجية المؤسسة، لكنها ذات تأثير كبير في الموزعين والعارضين بسبب التراجع المريع في اعداد المشاهدين. في الواقع ان هذه النقطة هي الأكثر حساسية لدى اصحاب الصالات. فالضرائب والرسوم التي يدفعها هؤلاء عن الصالات والأفلام المستوردة تصل الى اكثر من 15 نوعاً. بعضها يقتطع نسبة من سعر التذكرة، لتصل بمجموعها الى 22 في المئة رسوم ملاه وإدارة محلية ودعم السينما، وبعضها الآخر يستوفى مبالغ مقطوعة عن نشاط الصالة مثل ضريبة الدخل او الخدمات او الإعلان، ويصل مجموع الضرائب المذكورة الى نحو 5 آلاف دولار سنوياً يزيد او ينقص وفقاً لتصنيف الصالة وعدد مقاعدها والتذاكر المباعة. اما النوع الثالث فيستوفى من قيمة التذكرة، وهو ذو طابع بيروقراطي بحت لا ينفع اولئك الذين يجبونه لمصلحتهم ويرهق الذين يدفعونه بحساباته، كالضريبة التي تقتطعها المحافظة بقيمة 25 قرشاً سورياً عن كل تذكرة، فتحصل على دولار واحد من كل 200 تذكرة، او تلك التي تحصلها محافظة ريف دمشق والمسماة ضريبة عمل شعبي وهي لا تتجاوز 5 قروش من قيمة التذكرة، اي انها تفوز بدولار واحد عن كل ألف تذكرة! هذا في ما يخص الصالات، اما عن الأفلام فيدفع المستورد اضافة الى الرسم الخاص بالمؤسسة ألف دولار عن كل فيلم ضريبة اجازة استيراد وجمرك وغير مقيم ورسوم رقابة. اضافة الى المصاريف الإدارية التي قد تصل الى نحو 12 ألف دولار سنوياً. وهكذا نلاحظ ان القانون الرقم 4 لم يعف الصالات سوى من جزء بسيط من جملة الضرائب والرسوم المترتبة عليها، بل واشترط تحديثها بداية على رغم ان المنطق يفترض اعفاءها من جميع هذه الضرائب بوضعها الراهن، كي يتسنى لمالكيها ومستثمريها تحقيق تراكم معقول من الأرباح يسمح لهم بتحديثها لاحقاً. عدا ذلك كان يفترض ان يترافق هذا القانون مع إلغاء او تعديل او تشريع او تطبيق الكثير من القوانين والمراسيم ذات الصلة، كالقانون الخاص بتصنيف الصالات وذاك الخاص بتحديد اسعار البطاقات، وكذلك قانون الرقابة الذي يعود الى عام 1960. ويشكل القرار الرقم 2850/1 لعام 1982 العائق الأكبر امام انشاء صالات جديدة، اذ ينص على انه "لا يحق لأصحاب دور العرض إغلاقها وعندما تغلق لا بد لوزارة الثقافة من ان تضع اليد عليها"، فهل يمكن أي مستثمر مجرد التفكير في الدخول الى قطاع من الأعمال لا يسمح القانون له بالخروج منه إذا لم يوفق لسبب او لآخر فيه، بالطبع لا. لقد شكّل سوق الفيديو في سورية على مدى اعوام طويلة البديل الوحيد لمشاهدة الأفلام الحديثة الغائبة عن صالات السينما، ولئن كان الجميع لهذا السبب صامتاً حتى الآن عن تجاوزات وزارة الثقافة المتمثلة بترخيصها أفلاماً مهربة غير مستوردة من مصادرها الأصلية، غير انه حان الوقت لإدراك النتائج السلبية التي تخلفها هذه الممارسة على صالات السينما. فالأفلام الأميركية يتم تداولها في سوقنا حتى قبل ان تنزل الى سوق الفيديو في الولاياتالمتحدة، ما يخلق منافسة حقيقية للصالات ويحرمها من عدد كبير من المشاهدين، ويزيد من اتساع الفجوة - الكبيرة اصلاً - بين الاثنين. لذلك لا بد من ان تعيد الوزارة النظر في آلية منح التراخيص للأفلام تشجيعاً لدور السينما وحماية لها، خصوصاً بعد ان انضمت سورية في بداية هذا العام الى معاهدة برن لحماية الحقوق الأدبية والفنية. وطالما نتحدث عن القوانين المنظمة او المؤثرة في عمل صالات العرض وتحديثها وإنشاء الجديد منها، يجب تأكيد ضرورة العمل وفق مبدأ مساواة الجميع امام القانون، وإلغاء اي نوع من انواع التمييز بينها كما هو واقع الأمر الآن. فصالات فنادق الشام استثنيت من قانون حصر استيراد الأفلام في وقته، ولا تزال مستثناة من دفع الرسوم والضرائب التي تجبى من بقية الصالات، اما لماذا فلا احد يعلم! واخيراً، إذا زدنا على ذلك كله واقع الاستثمار بصورة عامة في سورية وما يواجهه من صعوبات وعقبات على مستوى القوانين والإجراءات الإدارية والبيروقراطية، والمخلفات السلبية التي تنعكس عليه جراء انعدام الثقة في القضاء واستقلاليته والتخوف من تدخل الأجهزة المختلفة، وذكرنا بمستوى الدخل المتدني للفرد في سورية الذي يدفعه للركض جل وقته وراء لقمة عيشه، ولا يسمح له بالاستمتاع في اي انشطة ترفيهية او ثقافية، ربما عندها لن نتساءل بكثير من العجب لماذا لم يتغير واقع الصالات لدينا.