قبل حوالى شهر طرحت على الزميل جورج سمعان، رئيس تحرير "الحياة"، فكرة أن تنشر الصحف العربية الصادرة في لندن افتتاحية مشتركة في الصفحة الأولى لكل منها تنتقد سياسة رئيس الوزراء توني بلير إزاء القضية الفلسطينيةوالعراق، والتبعية للسياسة الأميركية بدل التأثير فيها والحد من تطرفها. وطرحت الفكرة بعد ذلك على الاخوان في "الشرق الأوسط" و"القدس"، ولم أرَ أحداً من الزميلة "العرب" في حينه، ثم سافرت وطوي الموضوع. كل الزملاء العرب كانوا في مثل استيائي من رئيس الوزراء البريطاني، وبما اننا جميعاً نحمل الجنسية البريطانية، فلم يكن حديثنا كسياح، وإنما عن "بلدنا" حيث ندفع ضرائب، ونتوقع ان يكون لنا صوت كبقية المواطنين. وعدت من رحلة شملت المغرب، ثم المملكة العربية السعودية والبحرين ودبي وسويسرا بينها، وفكرة الافتتاحية المشتركة لا تزال تراودني، الا ان الديبلوماسيين البريطانيين السابقين سبقوني، فكانت رسالة 52 منهم الى توني بلير، وهي رسالة عكست رأينا جميعاً بقولها في البداية: "تابعنا بقلق بالغ سياستكم إزاء النزاع العربي - الاسرائيلي والعراق"، وبقولها في النهاية: "نشارككم وجهة نظركم أن للحكومة البريطانية مصلحة في العمل بأوثق طريقة ممكنة مع الولاياتالمتحدة حول هاتين القضيتين المتصلتين، وفي ممارسة التأثير كحليف مخلص. ونعتقد ان الحاجة الى هذا التأثير الآن امر بالغ الأهمية. وإذا كان غير مقبول او ليس موضوع ترحيب فلا سبب لتأييد سياسة محكوم عليها بالفشل". هنا بيت القصيد، فكل صحافي عربي عامل في لندن، وكل ديبلوماسي مقيم او سياسي زائر، شكا لوزارة الخارجية، أو لرئاسة الوزارة، إذا كان له اتصال بها، من التزام السياسة الأميركية التزاماً أعمى، سمع الرد ان الهدف من العلاقة الوثيقة مع الأميركيين هو التأثير في سياستهم ودفعها نحو الاعتدال والتوازن، او الاتزان، في الشرق الأوسط. هذا لم يحدث، وإنما حدث عكسه، فالادارة الاميركية هي التي أثرت في السياسة البريطانية، وجعلتها تابعاً لها إن في فلسطين، او العراق، والنتيجة ما نرى من تشجيع همجية حكومة آرييل شارون ضد الاطفال والنساء في فلسطين، ومن تدهور الوضع باطراد في العراق. لو أرسلت رسالة الى رئيس الوزراء توني بلير لضمنتها النقاط التالية: - السياسة الأميركية إزاء النزاع العربي - الاسرائيلي منحازة بالكامل الى اسرائيل، وتشجع على التطرف والقتل الشاروني، وتبعد الحل. والسياسة الاميركية في العراق خاطئة والعناد فيها يعني زيادة الخطأ. وتأييدكم السياسة الأميركية إزاء الفلسطينيينوالعراق يعني وقوفكم موقف العداء من العرب والمسلمين في كل مكان. - الرئيس جورج بوش يجهل شؤون الشرق الأوسط، ومن الواضح انه لا يستطيع ان يتعلم، أو لا يريد، غير ان رئيس وزراء بريطانيا لا يستطيع ان يدعي الجهل، فهو مطلع وذكي، بقدر ما ان جورج بوش جاهل ومحدود، لذلك ففي حين يمكن ان يقوم عذر انه "لا يعرف" كجورج بوش، فإن هذا العذر غير قائم مع توني بلير. - يتبع ما سبق ان الرئيس بوش محاط بمستشارين من المحافظين الجدد خطفوا السياسة الخارجية، وأثاروا العداء للولايات المتحدة في العالم كله. وفي حين ان مستشاري رئيس الوزراء بلير أخف وطأة من مستشاري بوش، فإنهم أيضاً من طينة واحدة، ونصحهم في قضايا الشرق الأوسط غير معتدل أو عادل. - حلفاء توني بلير هبّوا للدفاع عنه، ونفوا ان تكون رئاسته الوزارة موضع تحدٍ، والنفي يؤكد وجود مشكلة توني بلير وحده مسؤول عنها. وأتجاوز الاستفتاء على أوروبا والهجرة الى ما يهمني فقط، وأقول ان رئيس الوزراء، في رده على 52 ديبلوماسياً بريطانياً، ارتكب خطأ اضافياً بالحديث عن عدم توازن الرسالة، فهو في "توازنه" تحدث عن معاناة الفلسطينيين وساواها بمعاناة الاسرائيليين، وهي من صنع أيديهم، وهذا كلام غير متوازن. - ايضاحاً لما سبق: الاحتلال الاسرائيلي هو المسؤول عن الهجمات الانتحارية بوحشيته واستمراره. وقبل الاحتلال لم يوجد انتحاري فلسطيني واحد. لقد عارضت شخصياً الهجمات الانتحارية ولا أزال أفعل، ولم أعارضها من أمن 10 داوننغ ستريت، بل وجهاً لوجه مع حماس والجهاد الاسلامي في مكاتبهم ومخيماتهم، ولكن كيف أقنعهم برأيي أو رأي المستر بلير وهم يقولون ان الاحتلال يقتل النساء والأطفال، ويغتال المناضلين حتى خلال هدنة معلنة. - استطراداً، فالحديث عن معاناة الطرفين انحياز أميركي الصبغة، لأن في النزاع الدائر هناك قاتلاً ومقتولاً، ومجرماً وضحيته. وأخطر ما في هذا الانحياز انه يشجع الطرف المعتدي على مواصلة العدوان، ويتحمل من يشجعه المسؤولية معه. وأختتم بشيء شخصي أضعه في تصرف المستر بلير: أنا محافظ بطبيعتي وأصوّت لحزب المحافظين، خصوصاً انني أقيم في حي تشيلسي، حيث الغالبية محافظة. غير ان هناك أربعة أصوات أخرى في أسرتي والكل ليبرالي وسطي يصوت لحزب العمال. وقد قررت ان امتنع عن التصويت المرة المقبلة، غير ان أصوات أسرتي ستذهب الى الليبراليين الديموقراطيين، بدل حزب تعادي قيادته العرب والمسلمين، وتتبع السياسة الأميركية على رغم انحيازها الظاهر ضد الفلسطينيين، وأخطائها في العراق. ولعلي اعود مع الزملاء في الصحف العربية في لندن للبحث في مشروع افتتاحية تنتقل من الاعتراض على مواقف رئيس الوزراء الى مطالبة الناخبين العرب والمسلمين في بريطانيا الى التعبير عن الاستياء بالتصويت ضد حزب العمال في أي انتخابات محلية او عامة مقبلة.