يصدر في باريس، مطلع شهر أيار مايو المقبل، كتاب "درس بودلير" للناقد التونسي جلال الغربي. وسبق للغربي الأستاذ في جامعة المنوبة، تونس أن أصدر كتاباً نقدياً عن تجربة الشاعر الفرنسي المعاصر ميشال دوغي. ولكن هل تفتقر مكتبة النقد الأدبي إلى كتاب آخر عن شاعر مؤسس في مستوى شارل بودلير؟ أولم يُغرق الفرنسيون قبل غيرهم شعر بودلير، أحد رموز الحداثة الغربية، بحثاً وتحليلاً؟ وحتى العرب الذين عرفوا بودلير متأخرين مع أول ترجمة لمختارات من ديوانه "أزهار الشر" أنجزها وقدمها صاحب "الأطلال" الشاعر إبراهيم ناجي قد لا يتأتى لمعظمهم أن يقرأوه من خلال كتاب جلال الغربي لأنه مكتوب بلغة بودلير نفسها وليس بلغة المتنبي. فما جدوى وما ضرورة هذا الدرس الآن؟ جلال الغربي يستبق السؤال في تقديمه للكتاب ويبرّر، إذا كان الكتاب يحتاج إلى تبرير ضرورة تأليفه "بسبب القلق الذي قد تبعثه في النفس بيبليوغرافيا لا متناهية. إنها صفحات ترصد مسار بودلير الإبداعي. مسار يتأرجح بين نهائية النص ولا نهائية العالم الشعري. وأعمال بودلير ما زالت تحتمل أكثر من قراءة ترى فيها تطبيقاً للعلاقة المعقدة بين النهائي واللانهائي". هكذا يبدو أن "الدرس" لم يكتمل بعد. وهو ما حرّض الناقد على تقاسم ما يعتبره مجاورة طويلة لأدب الشاعر. مجاورة تتم في بلد آخر ليس بلد بودلير. ونظرة تأتي من المغرب العربي يبررها الناقد بكونها موجهة إلى قارئ قد لا يكون بالضرورة قارئ بودلير. بل قارئ الناقد نفسه ربما... "قارئ أخ أو شبيه". ثم إن بودلير لما دخل إلينا، يضيف الغربي، "لم ينتظر أحد ليُخطرني بذلك.. هنا في هذا الوطن. وطن القصيدة حيث يتحاذى ويصطخب كل من الشمال والجنوب والشرق والغرب". في الواقع لم يكن بودلير، الذي نصّبه رامبو ملكاً للشعراء ونعته إليوت بأعظم شاعر للحداثة في كل اللغات، شاعراً فرنسياً خالصاً. لذا فهو مفتوح على كل القراءات أياً كان مصدرها. أولم يؤكد هذا الذي حلم بتأليف كتاب كبير يضمنه كل أحقاده بأنه يشعر دائماً بالغربة متوعداً فرنسا بأنه سيوجه إليها طاقته الحقيقية في الوقاحة؟ لذا فمن حق أي ناقد عربي أن يقرأ صاحب "سأم باريس" باللغة التي يرتضيها. "درس بودلير" درس أيضاً لمن يعتقد بأن المغاربيين مستهلكون فقط لكتب النقد الفرنسية. وعوض التفاني في شرح أطروحات سوزان برنار وغيرها من أعلام النقد الفرنسي الحديث يمكن أن نقرأ هذا الشاعر الرجيم بلغته بحثاً عن إضافة حساسيتنا المختلفة وذائقتنا الأدبية الخاصة. ومن حيث تبتدئ القراءة ينطلق الدرس... "درس بودلير"، هذا التحريض السافر على البحث عن لا نهائية الشعر.