حلّ آرثر رامبو على الوسط الشعري والفني في باريس القرن التاسع عشر كما لو أنه أحد الغزاة القادمين من منطقة الآردين الفرنسية البعيدة. بقامته الطويلة، وعينيه الزرقاوين البارزتين، وسلوكه العبثي الجلف الممزوج بموهبة فطرية، شكل هذا الشاعر العبقري لغزاً يستحيل الوصول إلى مكنونه رغم المحاولات التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، والتي تجسدت في الآلاف من الأعمال التي وضعت حول شخصه وأعماله مع أن مسيرته الأدبية كانت قصيرة. كتب روائعه وعمره يتراوح بين 16 و19عاماً فقط، ثم استقال فجأة من عالم القصائد بلا عودة. ببساطة، ترك كل شيء ومضى في حياة تملأها المغامرات حتى اصبح أسطورة عجيبة. وهناك نظريات مختلفة حول الأسباب التي دفعته إلى رفض كتابة الشعر من جديد: هل كانت طفولته المأسوية في ظل والدته القاسية؟ حبه للمغامرة؟ أم فشل علاقته بشاعره المفضل فيرلين؟... بمعزل عن حياته الشخصية غير التقليدية، حظيت موهبة رامبو الشعرية باهتمام دائرة متسعة من الكتاب الأميركيين الذين نظروا إليه بصفته شاعراً ثوروياً جامحاً كسر جمود الشعر وأطلق نموذج الحداثة، فوضعوا الكثير من السير الذاتية عن حياته وأعماله، ولعل أبرزها كتاب «رامبو» الصادر حديثاً عن دار نورتون وشركائه للكاتب الأميركي غراهام روب الذي أجمع النقاد الأميركيون على أنه أفضل سيرة وضعت عن الشاعر الفرنسي رغم أنها كتبت بالإنكليزية. يرى روب في مقدمته أن رامبو هو الممهد الأول لقصيدة النثر السوريالية. فهو أول من انتبه إلى أن الحداثة الشعرية التي تجلت في قصائد نثر بودلير، تحتاج إلى لغة جديدة متحررة كلياً ليس من «المتطلبات المنطقية ومن القيود النحوية والعروضية» فحسب بل كذلك من «التراكيب والصياغات التي تهبنا إياها جاهزةً عاداتنا النحوية، وهنا يكمن سر إبداعه». أسر رامبو فكر الروائي الأميركي الشهير هنري ميلر واستحوذ على اهتمامه لفترة طويلة مما دفعه إلى وضع دراسة بعنوان «رامبو و زمن القتلة» صدر في العام 1955 بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد رامبو. كتب ميللر يقول:» الآن أستطيع أن أراه بوضوح، وأن أقرأه قراءة المتبصر. الآن أفهم كم عظيمة كانت مآثره، وكم رهيبة كانت محنة هذا الرائي». واعتبر أن الإشارات والرموز التي يستخدمها الشاعر الفرنسي هي ما تميزه، فانكشاف الرموز على كل مستوى، يفقد اللغة صحتها وفاعليتها، ويضيف:» طلبك من الشاعر أن يتحدث بلغة رجل الشارع، يماثل انتظارك من النبي أن يوضح نبوءاته، والمسألة هنا ليست مسألة عادات لفظية، وإنما تتعلق بالتطور الروحي». وعن الأفكار الثورية التي تحفل بها قصائد رامبو، يذهب ميلر إلى أنها «أفكار الروح العابرة المتنقّلة من شمس إلى شمس، وهي ليست سجينة القصائد، وإنما هي حرة، متحررة، لم يتقبلها مجتمع الثقافة في باريس وقد هز كيانه هذا الشاب المقبل من الريف، وسينسحب الشاب من هذا المجتمع ومن الأدب غير آسف...لقد كان ذئباً وحيداً». وتقديراً منه لأهمية شعر رامبو وعبقريته، يقول ميللر:» علينا في اللغة الإنكليزية أن ننتج شاعراً قادراً على أن يقدم لرامبو ما قدمه بودلير لإدغار ألان بو، أو ما قدمه نرفال لفاوست، أو ما قدمه موريل ولاربو ليوليسيس». وفي كتابه «الكارثة كانت قدري» ( دار «دوبل داي») الذي يسرد فيه سيرة حياة رامبو، يقول الكاتب الأميركي بروس دافي انه «حاول الكتابة في شكل يليق بأسطورة»، وتكمن عبقرية رامبو بنظره في انه كان من «أوائل من دعوا إلى «إطلاق الحداثة في الشعر، وتحطيم الثرثرة في حضارتنا المتبجحة المتوحشة». رامبو بعين أميركية وإلى قافلة الأدباء والنقاد الأميركيين الذين شغفوا برامبو، ينضم الشاعر جون آشبيري الحائز جائزة البوليتزر، الذي ترجم مجموعة «إشراقات» لرامبو إلى الإنكليزية وهي ليست بمهمة سهلة على الإطلاق. ويرى «أن قصائد رامبو النثرية هي في جوهرها حديثة وإن حداثتنا هي بسبب رامبو الذي قادنا إليها بمثابة تشكيلة رائعة من الشظايا لمناظر المدينة وومضات حالمة، كلها جمعت وصهرت بالنشوة المندهشة للغة التي يكتنزها رامبو. عليك أن تكون عصرياً في شكل تام لتفهمه». ويضيف آشبيري:» إن رامبو لو عاش في مرحلة السوريالية، لتفوق على رموزها وتحدى أفكارها وقوانينها، فهو اليوم، بعد مرور قرن ونصف قرن على رحيله لا يزال مشرقاً، وأبيات الشعر التي كتبها، تعبر بامتياز عن الشخصية المستقلة». كان رامبو بحسب الناقد الأميركي، شغوفاً للغاية بالعاصمة باريس وهرب إليها للمرة الأولى عام 1870 قبل أن يُقبض عليه لأنه لم يدفع أجرة القطار، ويجبر على العودة. لكنه كرر محاولته فنجح، وعايش مرحلة سقوط الإمبراطورية الفرنسية الأخيرة. كان يبحث في صناديق القمامة في باريس ليؤمن قوته اليومي بعدما ضاقت به سبل الحياة خلال الحرب الفرنسية-البروسية. بلا مال ولا أصدقاء يركن إليهم، لم تكن أمام رامبو فرص كثيرة للبقاء في باريس، لذا عاد هذه المرة طواعية إلى قريته حيث مزرعة والدته. في خريف 1871 تغيرت حياته جذرياً. بعث برسالة إلى شاعره المفضل بول فيرلين مرفقة بمجموعة قصائد تحمل توقيعه. لم يتأخر الجواب المصيري من باريس، رد فيرلين: «تعال، أيتها الروح العظيمة، نحن نفتقدك ونتنظرك»، مرفقاً رسالته بتذكرة القطار. كان فيرلين شاعراً حساساً ولطيفاً للغاية، لكنه لم يكن جميلاً على الإطلاق، بل إن إحدى السيدات قالت عندما تعرفت إليه إنها شعرت بأنها قابلت إنسان الغاب للتو. اقتحم رامبو حياة فيرلين حاملاً معه مسودة قصيدته الشهيرة «المركب السكران»، وعاش في منزله لفترة قبل أن تطرده ماتيلد، زوجة فيرلين. في الواقع، الجميع تضايق من سلوكه البدائي ما عدا فيرلين. كان يكسر الخزف الصيني، يأخذ حماماً شمسياً على الشرفة وهو عار، ينام بحذائه الموحل على ملاءات السرير النظيفة، يتحدث بينما يمضغ طعامه. ببساطة كان مثل «حصان بري جميل لا يمكن ترويضه»، بحسب فيرلين الذي أحبه بجنون وهجر زوجته مراراً ليعيش معه في قاع المدينة مشرداً من غرفة إلى أخرى. المتسكع تسكع رامبو برفقة أدباء ورسامين مخمورين، عاش حياة المقاهي، وجرب بعض أنواع المخدرات والحشيش، لكنه لم يضاه فيرلين المدمن على الكحول. لاحقاً سافرا معاً إلى لندن بعدما لفظهما محيطهما بسبب علاقتهما، وانفصلا هناك. عاد فيرلين إلى باريس بمفرده وسرعان ما افتقد رامبو فأرسل يدعوه لملاقاته في بروكسل، وحصل اللقاء بينهما لكنهما تشاجرا، وبعد أن تعتعه السكر أطلق فيرلين النار على رامبو في رسغه لمحاولة هجره. فدخل السجن وتحول فيه إلى الكاثوليكية. أما رامبو فعاد إلى مزرعة والدته، وداوى جروحه النفسية والجسدية بكتابة إحدى روائعه الشعرية النثرية «فصل في الجحيم» التي كسر فيها القوالب الشعرية خارجاً على الطابع الإيقاعي المألوف للشعر الفرنسي. أثناء الكتابة، كان في حالة هذيانية صارخة، اختلى بنفسه على سقيفة المنزل حيث كان يصرخ بجنون ويضرب الأرض ليفجر غضبه وحزنه على الورق من دون أن يتجرأ أحد على إزعاجه. وفي العام 1874 توجه إلى لندن حيث أنجز عمله الأهم والأخير «الإشراقات». آفاق بعيدة في قرار مفاجئ، اعتزل رامبو كتابة الشعر وأخذ يجوب أوروبا، فزار فيينا وهولندا قبل أن ينطلق باتجاه قارات غريبة عنه تماماً. اتجه أولاً إلى مصر، ومن ثم إلى قبرص، ليستقر في حرار، شرق أديس أبابا، حيث كان يتاجر بالبن والجلود والمسك ويستورد البنادق. واللافت أنه أجاد اللغة العربية، وبهر بالقرآن. رغم انه لم يعد يكتب الشعر، إلا أنه ترك وراءه رسائل كثيرة، منها رسالة كتبها إلى والدته كشفت مشاعره الحقيقية:»الوحدة شيء بائس، وبدأت أشعر بالأسف لحقيقة أنني لم يسبق لي الزواج أو تكوين أسرة. أجد نفسي مضطراً للتجول في أصقاع الأرض... قد أموت بمفردي من دون أن يعلم بي أحد». في فترة من الفترات وعبر تبادل المراسلات، حاول بعض أصدقاء رامبو ثنيه عن قراره باعتزال الشعر، وكتب أحدهم له يقول :»ربما انك لا تعرف ذلك لحقيقة أنك تعيش بعيداً جداً، لكنك أصبحت أسطورة بالنسبة لدائرة متسعة هنا في باريس، كثر يظنون أنك في عداد الموتى، ولكن لا تزال هناك مجموعة تؤمن بك وتنتظر عودتك بصبر». كان قرار العودة إلى أوروبا أمراً لا مفر منه. في عام 1891 عانى رامبو من آلام حادة في إحدى قدميه أفقدته الحركة. وبعدما خشي من أن أيامه باتت معدودة قرر بطبيعة الحال العودة إلى منزل والدته ولكن من غير أن يتواصل مع زملائه القدامى. وقضى أيامه الأخيرة مع شقيقته بعد أن بترت ساقه يشتكي باستمرار من حقيقة انه لم يتزوج، ومما قاله:» كنت أخطط للعودة إلى فرنسا في خريف هذا العام والزواج. لكن وداعاً للزواج! وداعاً للأسرة! وداعاً للمستقبل! انتهت حياتي! حياتي عبارة عن لا شيء إنها سجل متعفن». توفي رامبو عام 1891 في سن ال 37، ودفن في بلدته الصغيرة شارلفيل.