وزارة الداخلية تحتفي باليوم الوطني ال (94) للمملكة بفعاليات وعروض عسكرية في مناطق المملكة    قبل ساعات من «وزن الملاكمين»... نفاذ تذاكر نزال «Riyadh Season Card Wembley Edition»    «الكلاسيكو».. مواجهة مثيرة    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    هاريس: أسعى لخوض مناظرة ثانية مع ترامب    السعودية تشارك في اجتماع لجنة الأمم المتحدة للنطاق العريض والتنمية المستدامة    الأهلي يتغلّب على ضمك برباعية في دوري روشن للمحترفين    النصر ينفجر غضباً بثلاثية نظيفة في شباك الاتفاق    غابري فيغا: عانينا كثيراً في المباراة واليوم افضل اداء لي مع الاهلي    هزة أرضية جنوب مدينة الشقيق قدرها 2.5 درجة على مقياس ريختر    رئيس جمهورية غامبيا يزور المسجد النبوي    أمانة القصيم توقع عقداً لمشروع نظافة مدينة بريدة    التعادل السلبي يخيم على مواجهة الخليج والفيحاء    ضبط مواطن بمحافظة طريف لترويجه أقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    أمين الشرقية يدشن مجسم ميدان ذاكرة الخبر في الواجهة البحرية    برعاية وزير النقل انطلاق المؤتمر السعودي البحري اللوجستي 2024    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    بايدن: «نعمل» على إعادة السكان إلى بيوتهم في جنوب لبنان وشمال إسرائيل    جمعية إسناد تنفذ مبادرة نسمعهم لمستفيديها ذوي الاعاقة السمعية    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تحتفي باليوم الوطني 94 بفعاليات تشكيلية وسينمائية وتراثية وثقافية    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية ينظم مؤتمره الدولي الثالث    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    نائب الشرقية يتفقد مركز القيادة الميداني للاحتفالات اليوم الوطني    جيش إسرائيل يؤكد مقتل الرجل الثاني في حزب الله اللبناني إبراهيم عقيل    المركز الوطني للأرصاد يحذر من المعلومات الفردية غير الرسمية عن مناخ المملكة    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    حروب بلا ضربة قاضية!    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    التزامات المقاولين    قصيدة بعصيدة    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعاظم "مظالم" التركمان في المدينة الشمالية . الشيطان ينتظر العراقيين في كركوك ... والفيدرالية الكردية قد تصبح فيدراليتين
نشر في الحياة يوم 29 - 03 - 2004

الرحلة من بغداد الى كركوك تستغرق نحو ثلاث ساعات، ولكنها ساعات محفوفة ببعض المخاطر. في بعقوبة المقاومة مزدهرة والخلط بين المدنيين والعراقيين قائم على قدم وساق، وبعد بعقوبة بمسافة نحو خمسين كيلومتراً تزدهر عصابات السلب.
لكن زيارة كركوك ملحة للأحاطة بالوضع العراقي، فهناك في هذه المدينة الشديدة الأختلاط، تتصارع القوميات في العراق وتتنافس على هوية المدينة وعلى مسقبلها. اشتباكات وعمليات تصفية متبادلة واطراف منتصرة واخرى تنشد انتصارات جديدة.
الحراس على مدخل مبنى مكاتب الجبهة التركمانية العراقية في مدينة كركوك شمال العراق متيقظون، كغيرهم من حراس المباني في مختلف مناطق العراق. لكن الرجل التركماني الذي خرج من المبنى متوجهاً الى سيارته، طلب من الحارس اعادة سلاحه الذي اودعه عند الحارس اثناء دخوله المبنى. السلاح ليس رشاشاً ولا مسدساً، بل خنجر حربي اغمده الرجل بعدما اعاده الحارس اليه في المكان الذي يوضع فيه المسدس عادة، ثم اخفاه بالسترة. الخنجر ليس سلاحاً تقليدياً في العراق، كما انه لا يلبي صاحبه في حال مواجهته ما يواجهه الناس هناك، لكن صاحب الخنجر هذا وخلال استلاله خنجره من يد الحارس اوحى بأن الخنجر طقس تحدٍ تمليه اوضاع التركمان في مدينة كركوك. فحين يكون الاحتقان اهلياً يختلط مشهد مسلحي الأحزاب بأنواع من التسلح الأهلي الذي يستعاض فيه عن قوة السلاح بعراضات جسمانية غير فاعلة، لكنها نابضة بالمعاني. فالجماعات المتنازعة على هوية كركوك وعلى مستقبلها، تعيش متجاورة ومتداخلة الى حد يصبح فيه الخنجر فاعلاً، وهذا الأمر ليس ترميزاً لنوع الاحتقان، ولكنه حقيقي وفعلي، اذ لطالما حدث في السنة التي انقضت على سقوط النظام في العراق ان طعن مجهولون رجلاً في اسواق كركوك، اضافة طبعاً الى حوادث الاغتيال بالرصاص والمتفجرات.
ما فعله النظام العراقي السابق بالمدينة الشمالية جعل من الصعب ان تُفرز الحقائق. فالقوميات المتجاورة في المدينة تعرضت وعلى مدى حكم البعث للعراق لحملات من التهجير والاستبدال خلخلت الملكيات وأضاعت الحقوق. الأكراد يؤكدون ان كركوك جزء من كردستان التاريخية، وإن كانوا قبلوا تأجيل البحث بمصيرها الى ما بعد تسلم العراقيين سيادتهم. والتركمان يؤكدون انهم اكثرية في المدينة ويصرحون بأن الأكراد اجتاحوها بمساعدة الأميركيين بعد سقوط النظام. اما العرب فيها فهم انواع: بعضهم سكان اصليون وكثيرون منهم استقدمهم النظام السابق خلال حملات تعريب المدينة فأقاموا في منازل المرحلين من الأكراد والتركمان وفي مزارعهم وأرضهم. والمجموعة القومية الرابعة في المدينة هم الكلدوآشور. وهذا التقسيم يتقاطع مع تقسيم آخر قد لا يكون حاداً، لكنه يعزز من استقلال الجماعات بنفسها وبحثها عن عمق آخر لها خارج المدينة. انه التقسيم الطائفي للسكان. فالتركمان يتوزعون بالتساوي تقريباً بين الطائفتين الشيعية والسنية، واذا كان الأكراد عموماً من السنة، فإن اقلية فيلية شيعية تقيم بينهم. العرب من اهل كركوك الأصليين هم من اهل السنة. اما المُستقدمون خلال فترة التعريب، فكثيرون منهم عراقيون شيعة من اهل الجنوب. الكلدوآشور قومية وطائفة في آن وطبعاً هم مسيحيو العراق وسكانه القدماء. ولتقاطع القومي بالطائفي في كركوك وظائف تعزز من الاحتقان. ففي الأسابيع القليلة الفائتة مثلاً نظم الشيعة العرب في المدينة تظاهرة ضد الدستور الموقت، دعا اليها تيار "الحوزة الناطقة" الذي يتزعمه مقتدى الصدر، وشارك في هذه التظاهرة شيعة تركمان مآخذهم على الدستور الموقت مختلفة عن مآخذ العرب. هذه التظاهرة جرى تعزيزها بمشاركين استقدمهم تيار الصدر من بغداد بحافلات كبيرة، ما عزز من مشاعر القوة لدى هذا الجزء من الأقلية العربية، ولكنه استنفر لدى الأكراد غرائز دفاع طائفي لم يسبق ان استنفرت، فالأكراد ضائقتهم قومية ولم يسبق لهم ان اختبروا استنفاراً طائفياً.
يتحدث التركمان في كركوك عن مصادرة الأكراد مرافق المدينة وسيطرتهم على مجلس بلديتها وشرطتها، ولهم رواية تنفي الرواية الكردية لحكاية التعريب والتهجير، لكن الأهم من ذلك هو روايتهم عما حصل في المدينة بعد سقوط النظام، وتأكيداتهم ان الأكراد الذين عادوا الى المدينة هم غير اهلها. ويقول مسؤول في حزب تركماني شيعي ان المدينة وبعد تعرضها الى عملية التعريب خلال حكم النظام السابق تتعرض اليوم الى عملية تكريد كبرى. اما الرواية الكردية المقابلة فتتمثل في رد التهمة الى التركمان من خلال الاشارة الى دور تركي في اثارة الحزازات القومية، والى دخول الأتراك على خط التحريض على الأكراد عبر وجودهم الأمني المباشر في كركوك. روايتان منفصلتان تماماً لأسماء الأحياء ولهوية السكان وللتواريخ الصغيرة ولعمليات التهجير والاقتلاع وكذلك لحكاية العودة، ولكل من هاتين الروايتين اسناداتها التي تجد في ما اقدم عليه البعث بحق سكان المدينة ما يعززها.
قد يكون من الصعب على المتجول في شوارع كركوك وفي اسواقها ان يحدد هوية الأحياء من خلال الاشارات والرموز وازياء السكان، او من اللغات التي كتبت فيها لافتات المتاجر، حتى وان كان يجيد التمييز. فاختلاط اللغات على المحال التجارية واضح ولم يعد فقط مقتصراً على العربية والتركمانية والكردية، انما استخدمت لغة جديدة بعد دخول الأميركيين هي الانكليزية، وكذلك يظهر واضحاً اختلاط الأزياء القومية في الحي الواحد، وهذا الاختلاط لا يظهر على انه تجاور هادئ للثقافات بقدر ما هو ثمرة اضطراب وقصر، وهو يرشح الأوضاع الى مزيد من التفاقم والفرز. وهكذا يصبح الخنجر الذي حمله الرجل التركماني سلاحاً محلياً له وظائفه في عمليات "تنظيف" الأحياء من الأخلاط والأقليات الصغيرة.
ويظهر ان الجماعات القومية المختلفة شارعة في تعزيز حضورها في انحاء المدينة على نحو تظهر الهويات فيه وكأنها من نوع الخناجر التي حمل منها الرجل عند مدخل مركز الجبهة التركمانية، فقد يصادفك مثلاً منزل وضعت عند مدخله لافتة كبيرة تظهر اسم صاحبه مشاراً اليه بلغة القومية التي يتحدر منها.
عادت آلاف العائلات الكردية الى كركوك. الكثير من هؤلاء استعاد منازله بعدما غادرها المستوطنون العرب، ولكن كثيرين منهم ايضاً لم يتسلموا منازلهم بعد. فاقتلاع الأكراد والتركمان من كركوك بدأ منذ ستينات القرن الفائت، والكثير من السكان العرب في المدينة هم الآن جيل ثان، والمسألة ليست على قدر من البساطة بحيث يعود اصحاب الحقوق ويتسلمون حقوقهم. مئات العائلات الكردية العائدة الى كركوك تقيم اليوم في مخيمات خاصة في ملعب المدينة وفي المنشآت الحكومية. لكن الرواية التركمانية تنكر على الكثير من العائدين كركوكيتهم، اذ يقول علي جعفر وهو مسؤول قضاء داقوق في الجبهة التركمانية ان "معظم الأكراد المرحلين من كركوك هم في الأصل من اربيل والسليمانية وكانوا نزحوا الى كركوك في سبعينات القرن الفائت خلال الاضطرابات في المحافظات الكردية الحدودية، وهؤلاء عاد النظام ورحلهم، ثم اعادتهم القوى الكردية أخيراً، ولكن وثائق جنسياتهم تؤكد انهم من خارج كركوك". وللأكراد روايتهم الأخرى التي لا شفاء منها ايضاً وتقول ان الجبهة التركمانية تضم الى ابناء القومية التركمانية آلافاً من العائلات الكردية التي حولت هوياتها ابان تلقي التركمان مساعدات من تركيا، ما اضطر الكثير من الأكراد المحتاجين الى تبديل هوياتهم والقبول ببطاقة تموين تركية اعتمدت لاحقاً كدليل على تركمانيتهم.
الغلبة الكردية في كركوك اليوم تبدو واضحة من خلال امساك الأكراد بعدد من مرافق المدينة، واستعادتهم الكثير من حقوقهم، في حين يبدو ان الكثير من الغبن الذي لحق بالتركمان لم يعوض بعد، اذ يتحدث ابناء هذه القومية عن عدد من القرى التركمانية المعربة التي لم يخلها السكان العرب بعد فيما اخلى هؤلاء الكثير من القرى الكردية، وهذا عائد طبعاً الى ضعف التأثير التركماني اذا ما قيس بالنصر الكردي الناجم عن سقوط النظام في العراق. لكن التركمان حين يتحدثون عن غبن خلفه ضعفهم امام العرب يشرحون ذلك بشيء من القبول وانتظار تسوية المستوطنين اوضاعهم ريثما يسلمون الأملاك والمساحات الزراعية. اما حين يتحدثون عن غبن لحق بهم من جراء الغلبة الكردية انما يفعلون ذلك بما يشبه الانذار، فيبدأون اولاً بعرض نتائج التحالف الكردي - الأميركي وما نجم عن ذلك من تسليم المدينة في شكل شبه كامل للأكراد. ويلفتون الى ان الدوائر الفرعية في البلدية تسلم الأكراد معظمها، ومنها دوائر البلديات والنواحي، والماء والمجاري والزراعة والمواد الغذائية والحبوب والمخازن والمواد الانشائية والشرطة والأوقاف والجنسية والصحة والأشغال. اما التركمان فاقتصرت الدوائر التي تسلموا ادارتها على التربية والكهرباء، والعرب المنتوجات والتعليم العالي، وأعطيت الاتصالات للأشوريين.
ويبلغ عدد عناصر الشرطة في مدينة كركوك نحو 1500 عنصر موزعين بالتساوي على القوميات والطوائف المختلفة في المدينة وبإشراف قوات التحالف الدولي، لكن الاعتراض التركماني على الأوضاع السائدة يتعدى محاولة الانصاف هذه، فيلاحظ المسؤولون التركمان ان عدد عناصر الشرطة في المدينة يفوق هذا الرقم، اذ ان آلافاً من هؤلاء هم عناصر بيشمركة كردية جاؤوا من السليمانية وأربيل ووزعهم المسؤولون الأكراد في جميع دوائر الدولة، يلبسون زي الشرطة ويحملون بطاقات صادرة عن قوات التحالف. ويتحدث علي جعفر عن اعتداءات يتعرض لها التركمان في المدينة وعن تعرض رموزهم ونصبهم القومية للتفجير، على مرأى من شرطة المدينة من دون ان تحرك هذه الشرطة ساكناً. ولكنه يؤكد ان هذه المشكلات يفتعلها الأكراد من غير اهل كركوك ويؤكد ان علاقات التركمان بالأكراد الكركوكيين جيدة.
عدنان رجل كردي من كركوك لم يسبق له ان ترك المدينة، وهو بدوره يؤكد ان علاقات السكان جيدة، لكنه يشير الى دور تركي في اثارة النعرات القومية بين السكان، ويتحدث عن مساعدات مادية وعسكرية تتلقاها احزاب تركمانية من انقرة بهدف تعكير امن المدينة. ويعزز عدنان حديثه بوقائع ضبط سيارات تابعة للأمن التركي تجوب احياء كركوك. وفي حين يؤكد التركمان ان المنطقة الكردية الوحيدة في المدينة هي منطقة رحيماوة وهي ناحية على المدخل الشمالي لكركوك وألحقت بها بعد توسع المدينة. يعدد عدنان أسماء نواح كثيرة ذات غلبة كردية، ومنها اضافة الى رحيماوة مناطق شورجا وآزادي واسكان وبلاخ وقوريا وحي المعلمين، ويشير الى ان المنطقة الوحيدة ذات الغلبة التركمانية هي منطقة الموصلة، اما المناطق التي شهدت توسعاً للسكن العربي فهي ساحة العمال وطريق بغداد ومنطقة واحد حزيران وحي النصر وحي العروبة. وفي منطقة شاترلو يعيش الكلدوآشور.
رئيس الجبهة التركمانية فاروق عبدالرحمن الذي التقته "الحياة" في كركوك التي وصلها من بغداد، وكان لتوه ناجياً من محاولة اغتيال تعرض لها في الطريق بين المدينتين قرب مدينة بعقوبة، اعتبر ان التركمان همشوا في الدستور الموقت وكرر اعتراضه على تمثيلهم بمجلس الحكم بسيدة لا تجمع عليها الأحزاب التركمانية. وقال: "نحن اكدنا ان كركوك مدينة ذات غالبية تركمانية من آلاف السنين، والقانون الجديد اعطى كركوك حالة خاصة في الوقت الحاضر، ونحن نريد من الجميع ان يعلموا انه تجب المحافظة على هذه المنطقة من دون تغيير ديموغرافية السكان بالقوة". ويضيف: "نعم هناك سعي لتغيير ديموغرافي يهدف الى تهيئة ظروف الفيدرالية الكردية. هناك احصاء سابق لعدد السكان، يثبت غلبتنا لكنه احرق بعد ان دخل الأميركيون، وعلمنا ان ثمة نسخة عنه في بغداد سنحاول الاستفادة منها". ويشير عبدالرحمن الى العلم العراقي المثبت فوق علم الجبهة الأزرق ويقول: "عراقيتنا تفوق عراقية غيرنا الذين احرقوا العلم العراقي وثبتوا اعلامهم الخاصة".
في منزل فاروق عبدالرحمن في كركوك يتجمع عدد من الفعاليات التركمانية. شيوخ عشائر وأئمة مساجد ورؤساء احزاب منضوية في الجبهة. نساء منقبات وأخريات غير منقبات، والجميع يتهامس. وجوه التركمان في كركوك وصلوا الى منزل عبدالرحمن حال وصوله من بغداد للاطمئنان اليه بعد محاولة الاغتيال، وللتنفيس عن ضائقتهم. شيخ شيعي تركماني تحدث عن تعرض احد المساجد لعملية تفجير في قرية تركمانية في قضاء كركوك. مسؤول في حزب محلي قال: "في ايام النظام البائد تعرضنا للحرمان ومنعنا من التحدث بلغتنا. نحن اليوم متخوفون من الاستمرار بمعاملتنا على هذا النحو". لكن يبدو ان احدى اهم مشكلات التركمان في كركوك تكمن في ان الأكراد الذين عادوا الى المدينة وسيطروا عليها، تمكنوا من استعادة الكثير من الحقوق والأملاك التي انتزعت منهم خلال سنوات البعث، اما التركمان فحقوقهم في ذمة الدولة العراقية المنهارة بقي الجزء الأساس منها غير مستعاد، وذلك لسببين، الأول ضآلة قوتهم قياساً بالأكراد، وثانياً رغبتهم في عدم اثارة السكان العرب في وقت يعتبرون ان مشكلتهم الرئيسة هي مع الأكراد.
تستعمل القوميات المختلفة في كركوك مختلف انواع الأسلحة خلال تبادلها الاتهامات. التركمان يشيرون الى علاقة الأكراد باسرائيل في مقابل اتهام الأكراد للأحزاب التركمانية بأنها دمى في ايدي انقرة. ووسط ضياع الحدود والحقوق، تتنافس الرموز الكردية مع الرموز التركمانية في محاولة الاستحواذ على هوية المدينة. تماثيل وأنصبة جديدة توزعت في ساحات كركوك وحلت محل تماثيل صدام والبعث. الساحة التي كان مرتفعاً فيها تمثال خال صدام حسين خيرالله طلفاح في كركوك، حل فيها تمثال لرجل آخر قال عابر عربي عند سؤاله عن هذا الرجل انه لا يعرفه، وأومأ بيده محتجاً انه لشخص كردي او تركماني. انه الوجه الهادئ لمأزق كركوك، لكن الوجوه الصاخبة والعنيفة تطل كل يوم ايضاً في الأسواق كما في الأحياء والقرى البعيدة، وهي تختلط مع اعمال عنف اخرى تشهدها ساحات كركوك، ففي جوار المدينة ما زال شبح الرجل المريض عزت الدوري يتجول رافعاً شعار حرب اهلية من نوع آخر، فتارة ينجح في قتل عدد من رجال الشرطة وتارة اخرى يصيب مدنيين، وحصة الأميركيين من مقاومة الدوري تبدو الأقل. ومن بين تصدعات المدينة ايضاً يطل بين حين وآخر عناصر "انصار الاسلام" الذين فرقهم القصف الأميركي على مواقعهم في جبال حلبجة فانتشروا في المنطقة وألقي القبض على بعضهم في مساجد كركوك.
المسافة بين كركوك وأربيل تبلغ نحو مئة كيلومتر تتبدل خلالها الطبيعة العراقية. انها جبال الشمال تلوح بعيدة، وهذه التلال الصغيرة هي عينها التي كانت تفصل بين قوات البشمركة والجيش العراقي قبل انهياره. قوشتوبا، اسم المعبر الذي كان يفصل بين المنطقتين، واجتيازه اليوم ما زال يبعث على الشعور بأنك انتقلت الى خارج العراق. الاختلاف الطبيعي والجغرافي اولاً، ثم ان هناك امراً آخر ستلاحظه لاحقاً، وهو انه لا اثر للأميركيين في المناطق التي كانت جزءاً من الحكم الذاتي الكردي. اجراءات الدخول الى اربيل تعزز لديك الشعور بأنك تعبر الحدود العراقية الى خارجها، فالسيارات التي استوردها العراق بعد سقوط النظام اعطيت لوحات موقتة ريثما تنتظم عمليات تسجيل السيارات، وهذه الفئة من السيارات ممنوع دخولها الى المناطق الكردية. لكن ثمة اشارات اخرى في اتجاه مختلف، فحواجز البشمركة استبدلت بأخرى تابعة للشرطة العراقية، هذه الشرطة وعلى رغم خضوعها لقيادة الأحزاب الكردية حرص عناصرها على استبدال ثيابهم الكردية التقليدية بثياب الشرطة العراقية.
على رغم المأساة التي حلت بأربيل أخيراً والتي نتجت من تفجيرات عيد الأضحى، فإن الدخول الى المدينة يشعرك انك خرجت من تلك البقعة الجغرافية الهائلة وغير الآمنة التي تدعى العراق. الحضور الأمني والعسكري للشرطة المحلية كثيف الى حد كبير. عمليات التفتيش الدقيق يقوم بها العناصر الأكراد مترافقة مع اعتذارات وتأكيدات ان هذه الأجراءات تهدف الى حماية الجميع. لكن هذه الأجراءات لم تحل دون ازدهار واضح في اوضاع المدينة، وإن كان شكل الازدهار الكردي مختلف عن الازدهار الشيعي في مدن الجنوب، وهو امر يمكن ان يفسر تفاوت المشروعين. فالفندق الجديد في اربيل الذي افتتح قبل اشهر قليلة هو من ذلك النوع الذي كان الأكراد يطمحون الى وجوده في مدنهم. انه الشيراتون او ما يعادله، وكذلك المطعم الذي افتتحه كردي عراقي عائد من اوروبا وحاول ان يضفي على مطعمه طابعاً غربياً. فندق "شوار جرا" تسلمت ادارته شركة غير عراقية وباشرت بتغييرات فيه. الاشارات كلها في اتجاه مختلف. فالصور التي يمكن تسجيلها من عابر غريب يمكن ان تسجل ايضاً تراجعاً في عدد المحجبات في شوارع اربيل، وانتظاماً اكثر للحياة.
في منزل عدنان المفتي في المدينة تجمع عدد من اصدقاء الرجل ومن محازبيه يشاهدون الفيلم الذي صور لعملية تفجير مقر الاتحاد الوطني الكردستاني في المدينة والتي اصيب فيها عدنان وقتل عشرات من رفاقه واصدقائه. التلفزيون يعرض صور المهنئين بحلول عيد الفطر الذين قتل معظمهم، ويؤشر الحاضرون في المنزل الى وجوه من فقدوهم في هذا التفجير. البعض كان يبكي، فيما آخرون يدخلون الى غرفة عدنان للاطمئنان عليه والعودة بسرعة الى غرفة التلفزيون لمتابعة وقائع المأساة. ومن بين مهنئي عدنان كان العضو الكردي في مجلس الحكم محمود عثمان الآتي لتوّه من بغداد الى اربيل للمشاركة في مؤتمر للحوار العربي - الكردي يعقد في المدينة، وهو واحد من فعاليات عدة تتهيأ أربيل لإحيائها، اذ يبدو ان الوصول الى المدينة يشعر الوفود العراقية بأنها صارت في منأى عن الأوضاع الأمنية المتردية في مناطق العراق المختلفة.
المشاركون في المؤتمر من العرب معظمهم من تيارات عروبية وناصرية، مع غياب لافت للأحزاب والشخصيات الشيعية. هذا الأمر تكرر في مؤتمر المصالحة بين القوميات الذي عقد في اربيل اول من امس ايضاً. مؤشرات يمكن التقاطها ووضعها في سياق ما يحكى عن تحالفات جديدة بين الطوائف والقوميات العراقية المختلفة، وايضاً في سياق الافتراق الكبير الذي بدأ يتبلور بين المشروعين الكردي والشيعي في العراق.
محمود عثمان الشخصية الكردية المعتدلة يشير الى اقتناع الأكراد بأن الديموقراطية هي حكم الأكثرية من دون شك ولكنها كما يضيف يجب ان توفر ضمانات وحمايات للأقليات، خصوصاً اذا كانت هذه الأقليات غير صغيرة. وأشار الى ان الفقرة ج التي دار الخلاف حولها في الدستور الموقت لا تعطي ضمانات للأكراد فقط وإنما ايضاً للسنة العرب، الذين، بحسب عثمان، حصل خطأ كبير في عملية تمثيلهم في مجلس الحكم. وفي موضوع كركوك يكرر عثمان انها جزء من كردستان وان الأكراد قبلوا تأجيل البحث فيها في انتظار جلاء امور كثيرة، او ان يجرى استفتاء حولها يشترك فيه اهلها الموجودون فيها والمقتلعون على حدٍ سواء.
وفي اربيل ايضاً سيجد المراقب نفسه امام سؤال آخر يتعلق بالوحدة الكردية في ظل الفيدرالية التي اقرها الدستور الموقت. ففي كردستان حكومتان كرديتان لم تتحدا حتى الآن، والأخبار المتسربة الى الآن عن مستقبل العلاقة بين الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني ليست ايجابية كلها، لا بل ان مصادر قريبة من غرف التفاوض بين الزعيمين تلمح الى امكان اقامة فيدرالية بحكومتين، واحدة في اربيل واخرى في السليمانية. ويبدو ان الخلافات الكردية - الكردية كما الشيعية - الشيعية، محجوبة عن التداول العام في ظل شعور الجماعات في العراق بأن الآخرين يترصدون هذه الخلافات لتوظيفها في عملية اقتطاع الحصص.
العراقيون لم يقتلوا الشيطان في قضية وحدة بلدهم وفي مستقبله، اما في التفاصيل فهناك اكثر من شيطان ينتظرهم حتى يحين موعد البحث فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.