أواخر الثمانينات سرى، في أوصال أميركا الجامعية والطلابية، تيار كهربائي. فحيال مستجدّات تقنية واقتصادية، فكرية وثقافية، تلاحقت بإيقاع غير مسبوق، إنكفأ على قديمه مثقف مهتمٌ باليونان القديمة، لا بوصفها كذلك، بل باعتبارها مدخلاً إلى المستقبل. فقد أصدر ألن بلوم، صديق ليو ستراوس، كتابه "إغلاق العقل الأميركي" الذي اعتُبر فاتحةً للسجال من موقع يميني ورجعي، معادٍ للتعدد كارهٍ للحداثة. إلا أنه كان فاتحة تتركّز على التربية والتعليم أساساً. فمنذ الصفحات الأولى، قدم الكاتب نفسه صاحب إيمان عميق، ناعياً انحدار الدين في نظام القيم وتدهورَ سلطة الكتاب المقدس على المجتمع. والحال أن نوستالجيا بلوم إلى ماضٍ، فعلي قليلاً مُتوهَّم كثيراً، ساقته إلى السوداوية حيال كل ما حوله والإنذار بالقيامة والرؤيا. هكذا انطلق بلوم مدافعاً عن الدور المركزي للفلسفة في التعليم العالي، مشرّحاً الثقافة الأميركية المعاصرة التي على الفلسفة وحدها معالجة أمراضها المستفحلة. وعنده أن مشكلة المشاكل "مرض" النسبية وما يلازمها من انفتاح على كل ما يعرض لنا بحجة أن سائر ما يعرض متساوٍ في الأهمية. فهذا الانفتاح المطلق خطير يؤدي، برأيه، إلى إغلاق العقل، ولا يتماشى مع الإنفتاح السقراطي الحقيقي على الحجج السليمة. أما الطلاب فبدورهم تخلّوا عن الفكرة التي نجد مصدرها عند سقراط، والتي عليها تأسست الجامعة نفسها: البحث العقلاني عن الأفضل. ومتأثراً بالمناخ الريغاني، لا سيما ردّه على الستينات، هجا بلوم الطلبة بوصفهم نتاج قطيعة مع التقاليد، دينيةً كانت أم علمانية. فللسبب هذا تضاءلت نفوسهم كيما تتكيّف مع اعتبار كل شيء معادلاً في الجدارة لكل شيء آخر. وهذا إنما انعكس على سلوكهم الشخصي، فتراهم عاجزين عن الوفاء بالتزامات جدية، مأخوذين بالنسوية وضحايا لها، علماً أن النسوية لا تنهض، عند الأستاذ، إلا على استخدام "القوة" ضد "الطبيعة". ولأنهم لا يرتقون إلى العواطف الناضجة وليسوا أهلاً لالتزامها، يعيش أولئك الطلبة على "نشوة غير ناضجة" تتسبب بها موسيقى الروك. فهم فارغون أنانيون، "يمكنهم أن يكونوا أي شيء يريدون، لكنهم لا يملكون أي سبب كي يكونوا شيئاً محدداً بعينه". ومضى الجامعي الأميركي المعكّر المزاج مفسّراً كيف غزت النسبيةُ الثقافةَ الأميركية، فعثر على الجواب في تأثيرات التقليد الأوروبي للقرن التاسع عشر. فالجامعة لم يُفسدها إلا المطالبة الديموقراطية بالمساواة على حساب المستوى. ولم تكن الستينات، حيث بات للطلبة حق المشاركة في القرار التعليمي واقتراح المناهج، غير تتويج للكارثة التي تُحصد آثارها اليوم. فقد نجت العلوم الطبيعية وحدها وتُركت الانسانيات تتخبط بدمها الملوّث. غير أن المناهج التعليمية لن تؤدي مهمتها الإصلاحية المتوخّاة ما لم تنهل من الفلسفة الغربية، لا سيما اليونانية القديمة. فالأمم الغربية "المتأثّرة بفلسفة اليونان" هي وحدها، في آخر المطاف، من يملك الرغبة في الشك بتماهي "الصالح" و"الذاتي" تماهياً مزعوماً. "أثينا السوداء" لم تكن حملة ألن بلوم جديدة كلياً، ولا كانت الحملات التي تهب من الطرف المقابل. فأميركا عرفت دوماً مواجهات ثقافية دارت حول التعدد، أو استبطنته. ولئن انفك الالتحام الواسع والمباشر الذي عرفته الستينات، سجّلت أواسط السبعينات وأواخرها مناوشات لم تخلُ من كر وفر وقضم مواقع. فمع صدور "الاستشراق" لإدوارد سعيد، ونجاح أعمال ما بعد البنيويين وما بعد الحداثيين الفرنسيين في اختراق الجامعات الأميركية، شرعت المعرفة تتعسكر على خطوط دينية أو إثنية. وفي مقابل العنصرية الكلاسيكية البيضاء، نشأ تأويل فضفاض للعنصرية ينفر من كل تناول لتاريخ ثقافي بعينه، ومن كل مفاضلة معرفية بين ثقافة وأخرى. إلا أن أحد أكبر الهجومات المضادة تأخر حتى أواسط التسعينات. آنذاك صدر كتاب من جزئين حمل عنواناً مثيراً: "أثينا السوداء"، فكأن كاتبه يستحوذ على أحد مقدّسات بلوم وصحبه ثم يُعمل فيه "التدنيس". وما أبقاه العنوان غامضاً أفصح عنه العنوان الفرعي: "الجذور الأفرو-آسيوية للحضارة الكلاسيكية". المؤلّف، وهو صيني درس في بريطانيا، لم يكن معروفاً. إسمه مارتن بيرنَل، يعمل في الأكاديميا مثله مثل أعداد لا حصر لها من المشتغلين في التعليم. أما صلته بالكلاسيكيات الأوروبية فوصفها عارفوه ب"الهواية". بيد أن الهواية لم تردع الهاوي عن التجرّؤ على ما راكمه الإحتراف. وفعلاً خالف "أثينا السوداء" المعروفَ في التأريخ حتى ذاك الحين. فقد أكد أن المصريين سبق لهم أن غزوا اليونان القديمة ومدّنوها. ومع أن بيرنَل عزف عن تقديم أي برهان أركيولوجي يشهد له، ذهب في سرده إلى أن أصول ثقافة سقراط، وكل ما ظُن تقليدياً انه من متفرعات الزمن الكلاسيكي الأوروبي، إنما صدر عن أفريقيا. هكذا آل الكاتب الصيني على نفسه تعرية "أولئك البيض الأوروبيين الذكور" بوصفهم مجرد مغتصبين لمجدٍ ينتسب إلى السود وحدهم. ولم تتستّر النظرية على غرضها السياسي: فهو "بالطبع، خفض العنجهية الثقافية الأوروبية". والعنجهية المذكورة لم تتباطأ بالرد، لكن المعرفة والحس السليم غير العنجهي نزلا إلى الساحة أيضاً. وبالفعل راحت المؤتمرات والندوات تتلاحق حول الكتاب، وحوله تظهر المقالات وتُؤلّف الكتب. لكن بيرنل، وإن لم يكن صيداً ثميناً، بدا صيداً سهلاً. فقد رأى، مثلاً، أن أرسطو "سرق" أفكاره من مصر بعد وقت صرفه يتمعّن في الكتب الأفريقية بجامعة الإسكندرية. غير أن الإسكندرية لم تنشأ الا كمدينة يونانية على يد المقدوني الذي حملت إسمه. كذلك لم تقم المكتبة إلا بعد وفاة الإسكندر وأرسطو معاً. وهي لم تحتوِ على كتب أفريقية فيما لم يتوجه أرسطو الى الإسكندرية أصلاً. وكان الأهم من هذا كله أنه، حتى ذاك الحين، لم تكن قد أُنتجت كتب أفريقية أو مصرية تشبه كتب أرسطو. وأمعن النقّاد، وهم أخصائيون في العلوم الكثيرة التي اعتدى عليها بيرنل، في تشريحه. فالسواد المزعوم للمصريين القدامى، والتأثير المزعوم للغة المصرية على اليونانية، وهما من الأعمدة التي بُني عليها "أثينا السوداء"، دُحضا وجرت تسويتهما بالتراب. ولم يكن أفضل حالاً حظّ "المنهجية" التي اتبعها الكتاب للبرهنة على أن الأسماء اليونانية نبتت على جذر مصري، فتم التدليل على أنها منهجية اعتباطية، سابقة على العلم وغير علمية. لقد أعاد بيرنل كتابة التاريخ بكل الإفتئات الذي تمارسه محاولات كهذه. أما أن المحاولة المذكورة لم تصدر عن موقع سلطوي فهذا ما جعل نقمة البعض تنافس تعاطف بعض آخر لا يتفق ضرورة مع الكتاب. ذاك أن أصحاب الثقافات المقهورة في حاجة إلى الإعتراف، لكن هل يمكن الانتصار للضعيف بوضع الخرافة محل الحقيقة، وبوصم من لا يوافق على التزوير بالعنصرية؟ وهل يجوز من قبيل الرفض لسطوة الثقافة الأوروبية إعلان تفوق إحدى الثقافات غير الأوروبية استناداً إلى مزاعم غير مُحققة؟ نظرة أسخى وأعدل الكتاب بقي أشبه بنبيذ محلي عاجز عن عبور الحدود الى بلدان وأذواق أخرى. أما في الولاياتالمتحدة، فملأ الفضاء بالغبار. فمسائل "العِرق"، محكّ التعددية الأول هناك، ذات جاذبية لا تُقاوَم. كما أن الزمن زمن يقظة على الهويات وطلب للبدائل لم يهدأ منذ عقدين سابقين. وبين ردّ بلوم التاريخَ والحداثة إلى ما قبلهما، واستحواذ بيرنل على التاريخ بذرائع النسبية وما بعد الحداثة، تولى بعض النشاط الفني والأدبي الذي ساد الثمانينات استضافة الجديد وإزالة إجحافات أنزلتها أشكال من التمييز والسرد الواحد. ومن نيويورك، وفيها، وعلى يد "متحف الفن الحديث" خصوصاً، راح العالم يتبدّى على هيئة أسخى وألطف حيال شعوب وأجناس وثقافات صُوّرت موضوعاً ثابتاً للرجل الأبيض. فمنذ أواسط ذاك العقد جعلت تتتالى المعارض الفنية في تلك المدينة مهجوسةً بالهدف نفسه، وحظي بالضجة الأكبر ذاك الذي أقامه المتحف عام 1984 بعنوان "البدائية في فن القرن العشرين - القرابة بين القَبَلي والحديث". فقد اهتم منظّموه، متأثرين ببعض ما كانت توصّلت الأنثروبولوجيا إليه، بالبرهنة على أن غوغان شكّل البداية الصالحة لدراسة حجم النفوذ الذي ل"البدائية" على مُعاصرتنا. فمبدعون في قامات بيكاسو وماتيس وجياكوميتي إستوحوا، في الرسوم والمنحوتات، لا سيما الأقنعة، "بدائيي" أفريقيا وآسيا والمكسيك. بعد ذاك، وفي 1989، أقام المتحف نفسه احتفالاً بأندي وارهول الذي كان انقضى عامان على رحيله. وخلال 1990-1991، كان معرض "الرفيع والوضيع: الفن الحديث والثقافة الشعبية"، فرُكّز الضوء على كسر الحواجز والمراتب داخل العمارة الفنية. وكسرٌ كهذا يقع في نيويورك على مراجع محلية شهيرة: فوارهول نفسه كان، منذ الستينات، قد أدخل "الثقافة الشعبية" في المتن العريض. وفي1980، اعتُرف للمرة الأولى بعمل جان-ميشال باسكيا في فن الغرافّيتي عبر تزيينه بعض جدران "تايمز سكوير". أما "الجاز"، الصاعد من نيو أورلينز الجنوبية، فعاملته نيويورك بإجلال كان يقتصر على الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا. وعلى العموم، غدا التحقيب النيويوركي السائد يتعامل مع الخمسينات والستينات بوصفهما عقدي تتويج الحداثة ومباشرتها، في الغرب كله، الإنحسار. فإلى حد بعيد ظل مفهوم الفن حتى ذاك الحين محصوراً بأعمال تجريدية تنتجها باريس أو نيويورك، فيما معظم أصحابها رجال بيض. لكن الستينات بدأت تسجّل ظهور الفن الشعبي الذي تلاه سريعاً الفن المينيمالي، ثم المفهومي، وأخيراً التجهيز. وفي السبعينات، حين شاع مصطلح التعدد الفني، أمسى دخول النساء إلى الحلبة خبراً يومياً. وطاغياً بدا هاجس توسيع الحدود وإزاحة الحواجز من كل نوع، فخيض النقاش الشهير بين الطليعيين القائلين إن الكاميرا فن، مثلها مثل الرسم، والمحافظين الرافضين هذا الكسر تمارسه "الآلة" للإبداع "الطبيعي". وإذ تحدّت ما بعد الحداثة فوارق الألوان والطبقات والأزمنة امتدت التعددية، في الثمانينات، لتشمل المناطقية. هكذا لم يعد "النحت البريطاني" يُغني عن "نحت ليفربول"، ولا "الرسم الألماني" بديلاً من "رسم هامبورغ". إلا أن التسعينات، وكانت العولمة قد اكتسبت لحمها وشحمها، سجّلت نقلة نوعية أخرى نحو ما بات "فن نيروبي" أو "رسم دلهي". ف"العالم الثالث" صار، في الإبداع، أولاً مثله مثل سائر الأولين. ولم تنأَ السينما بنفسها عن المواكبة. فمنذ أواخر السبعينات شرعت تنتظم سينمان واحدتهما تغالط الأخرى. فإذا ظهر فيلم ك"القيامة الآن" لفرانسيس كوبولا يُحلّ الأميركان من الذنب الفيتنامي، لأن الوحشية والجنون مشتركان بين الكل، ظهر فيلم ك"المجيء إلى الوطن" أو البيت لهال أشبي، يناهض الحرب كائنةً ما كانت، ويسلّط الضوء على تدميرها المطلق للأجسام والنفوس، وليس للماضي والحاضر فقط بل للمستقبل كذلك. على أن التغير الأبعد مدى الذي طرأ على السينما مثّله انهيار الفيلم الملحمي الديني المستند الى رواية الكتاب المقدس. فبعد أن حفلت الخمسينات بأفلام كيتشية من نوع "الثوب" و"الوصايا العشر" و"بن هور"، أرهصت أواسط الستينات بعمل بازوليني "المسيح تبعاً للقديس متى"، ثم كرّت في الثمانينات سبحة الأفلام التي أضحت وجهةً تناقض الرواية الدينية، أو تشكك بها، أو تزمّنها، أو تسخر منها. فعلى خطى الفرنسي غودار في "السلام عليك يا مريم"، عام 1984، اقتبس سكورسيزي، بعد أربع سنوات، عمل نيكوس كازانتزاكيس "الإغراء الأخير للمسيح". وقد ظهرت أفلام أخرى في الاتجاه نفسه استحقّت تشهير الكنيسة ومقاطعة المؤمنين حتى ارتقت كراهية هوليوود، بصفتها مصنع "القيم التجارية الهابطة"، الى مصاف السمة الملازمة للوعي الرجعي في أميركا. بين البوتقة والتعدد لقد كانت نيويورك غوى يفتك بالعالم، تتعدد وتحرّض على التعدد، تمتد وتتمدد، مثيرةً أحقاد ألن بلوم ومشايعيه. لكن "أثينا السوداء"، وهي شيء آخر تماماً، نجحت في أن تطلق وجهة قوية، وجهةً تردّ على العنصرية وأحادية السرد الغربي بأدلجة التعدد الثقافي والتزمّت فيه، لتستقرّ سريعاً على نزعة إثنية ضيقة. ولأن الجميع بدا مستعداً لدفع الصراعات إلى أبعد مدى ممكن، أمعنت المعركة نفسها في إنتاج "ثقافاتها" الحربية التي يتعاظم بَرم كل منها بالأخرى، كما بالمعرفة كإنجاز موضوعي. فمع أوائل التسعينات، وكان "المجتمع التعددي" يتصدّر السجال في عديد البلدان الغربية، عثر "اليمين" على الأداة التي يصفّي بها من لم تتهاوَ أحجار حائط برلين على رؤوسهم. أما "اليسار" فوضع يده على سياسة الهجرة والأعراق يستعيض بها عن الإنهيار المدوّي للمعسكر الاشتراكي، من غير أن يبادله كبير مودّة من قبل، في موازاة صعود جارف للنيو-ليبرالية. وبدورها، جعلت بقايا الحركات القومية الراديكالية، وقد ضُربت في السياسة، تقتات على تمحور ثقافي ذاتي استدخله الموقف اليساري العريض. وبدل الدعوات الخمسينية والستينية إلى إنشاء الدول والمجتمعات، وصياغة حد من الإجماعات، إذا برأس المال المعولم يحلّق فوق الأرض غير معنيّ بصيرورتها السياسية، فيما الإثنيات "اليسارية" تستعجل وراثة تلك الدول والمجتمعات المترنّحة، ناسبةً لنفسها "أصالةً" ترسّبت عن وعي أريستوقراطي متفسّخ. وربما زاد في الانبعاث الإثني التطور الحزبي لأميركا. فمنذ أوائل السبعينات، شرع الائتلاف الذي عبّر عنه الحزب الديموقراطي يتفكك. فالسود غدوا أكثر راديكالية وميلاً إلى التماهي مع حركات "العالم الثالث"، فيما اليهود ممن تكرّس انخراطهم، أو انخراط بعضهم، في الصدارة الإجتماعية، جنحوا إلى محافظة سياسية يواكبها التعاطف مع إسرائيل. وفي الثمانينات، لا سيما في التسعينات، غدا من الصعب صوغ موقف واحد حيال العولمة يجمع بين النقابيين الحمائيين وأبناء المدن الأكثر كوزموبوليتية أو تعرّضاً للخارج. وإلى هذا التشقق دلّت، جزئياً، تلك الظاهرة التي عُرفت ب"ديموقراطيي ريغان" لتمسي من ثوابت الحياة الانتخابية الأميركية. ولكثيرين بدا "الصواب السياسي" الهراوة التي بها يُضرب الهراطقة، فيما فتح الأدب عينيه على السُعار الشامل هذا، فكيف وقد غدا لليمين، هو الآخر، صوابه المضاد المستند إلى الأخلاقيات القديمة. ففي موازاة معركة مونيكا لوينسكي، أصدر فيليب روث روايته "اللطخة الانسانية" التي، وإن كانت أبعد من أن تقتصر على موضوعة الصواب، بنت تتابُع أحداثها عليها. ذاك أن البطل كولمان سيلك، أستاذ الكلاسيكيات الذي اتُهم بالعنصرية وخسر عمله في إحدى كليات ماساتشوستس، كما توفيت زوجته وساقته الأقدار في اتجاهات شتى، حل به ما حل تبعاً ل"خطأ لغوي". فقد استخدم في وصف طالبين دائمي الغياب عن الصف، لا يعرفهما ولم يرهما من قبل، كلمة "أشباح" التي صدف أن البعض يستخدمها وصفاً تحقيرياً للسود. وكان ما زاد في تعقيد العلاقة التي انكبّ روث على رسمها أن كولمان سيلك أسود، انتفع بضعف حدّة سواده ليتكتّم على أصله ويتظاهر باليهودية. والواقع ان أحداً لم يعد يفهم على أحد. فقد التهب العالم كله، خلال التسعينات، بعدد متفرّق من الأثينات السوداء والعقول المغلقة يجتمع فيها الصواب السياسي بأدلجة التاريخ. ففي 1992، كانت صرخةُ الحرب انقضاءَ خمسة قرون على اكتشاف كولومبوس أميركا. وفي 1998 غدت الصرخةُ المئويةَ الثانية للفتح الفرنسي لمصر. وفي المرتين، بدت هناك أممية فكرية تريد التاريخ غير ممسوس بيد الغرب الملطخة. وكان "اليمين" كلما أحرز انتصاراً في السياسة، وكانت انتصاراته كثيرة عهد ذاك، تشدد "اليسار" في طهرانيته الثقافية أكثر فأكثر. فأميركا، أو الأمة التي دُعيت كذلك، موجودة وقائمة لا حاجة لها بأن "يكتشفها" بحّار أوروبي. أما مصر فلم يبدأ تنويرها بحملة جنرال فرنسي صار إمبراطوراً بعد ذاك. بل بدأ بتلك الحملة إذعان مصر، بما فيه الإذعان لرواية أوروبا "المسيحية" و"البيضاء" للتاريخ.