Fred Constant. Le Multiculturalisme. التعددية الثقافية. Flammarion, Paris. 2000. 126 pages. قد يكون مفهوم التعددية الثقافية Multiculturalisme هو، مع العولمة، واحداً من أكثر المفاهيم المستجدة تداولاً. فهذا المفهوم، الذي لا يزيد عمره على ثلاثة عقود ونصف عقد، فرض نفسه بحمولة ايديولوجية وسجالية عالية لا في الأوساط الأكاديمية التي تحدّر منها فحسب، بل كذلك على صعيد الإعلام واللغة اليومية، في العالم الانكلو - ساكسوني في المقام الأول، ثم لدى جميع الأوساط الفكرية الأوروبية المعنية بجدل الحداثة وما بعد الحداثة. أول من صاغ المفهوم عام 1965 كان اللجنة الملكية الكندية في التقرير الذي كلفت بوضعه عن الازدواجية الثقافية والثنائية اللغوية في الاتحاد الكندي الذي كان بدأ يشهد، منذ ذلك الحين، تصاعداً في التوتر ما بين الناطقين بالفرنسية من سكان مقاطعة الكيبك والناطقين بالانكليزية من سكان سائر مقاطعات كندا. وقد كان المقصود الأول بالمفهوم توصيف واقع التعدد الثقافي والتنوع الاثني في دول الهجرة الكبرى، لا سيما الولاياتالمتحدة الأميركية التي اكتشفت ابتداء من الستينات أنها لم تعد - كما كانت تتصور نفسها من قبل - "واسبية" wasp خالصة، أي "بيضاء، انكلو - ساكسونية، بروتستانتية. على أن المفهوم سرعان ما تحول عن دلالته الوصفية الأولى ليكتسب حمولة ايديولوجية وسياسية من خلال تحوله إلى مذهب معلن - تنم عنه اللاحقة ism - لبعض الشرائح المثقفة الأميركية ذات المنزع الجذري. فابتداء من منتصف الستينات رفع جناح بعينه من المثقفين الأميركيين شعار "التعددية الثقافية" كبرنامج نضالي لإقرار الحق في هوية متمايزة لمختلف الأقليات السوداء والملونة والاثنية التي لم تصهرها "البوتقة الأميركية". والواقع ان مفهوم التعددية الثقافية جاء بمثابة إعلان صاخب عن فشل النموذج الانصهاري الذي كانت تمثله فكرة البوتقة Melting-pot، وهي فكرة وجدت تعبيرها للمرة الأولى في عنوان مسرحية كتبها الكاتب الانكليزي إسرائيل زانغويل الملقب ب"ديكنز اليهودي"، ومثلت في نيويورك عام 1908 حيث لاقت نجاحاً كبيراً، بقدر ما أتاحت للأميركيين أن يقرأوا تاريخهم على أنه تاريخ انصهار جميع المهاجرين، مهما اختلفت أصولهم العرقية، في بوتقة المجتمع القومي الأميركي الواحد. وبوصفها نقيضاً للواحدية الاندماجية، فإن التعددية الثقافية مفهوم ثلاثي القيم. فهو يقوم أولاً على تأكيد الغنى الذي يترتب على التنوع الثقافي بعكس النموذج الانصهاري الموصوف في هذه الحال بأنه نموذج إفقاري. والتعددية الثقافية ترادف ثانياً النسبية الثقافية: فكل شيء في العالم ثقافة، والثقافات متعادلة في ما بينها، وليس لثقافة ان تطغى على الثقافات الأخرى بحجة أنها عليا أو كونية. والتعددية الثقافية تربط نفسها ثالثاً بالمثال الديموقراطي الذي يؤكد على ضرورة التساوي في الحقوق والفرص، مما يعني عدم الاكتفاء بمبدأ التسامح وتجاوزه إلى مبدأ الاعتراف بالاختلاف في الهويات الثقافية، والانتقال من مفهوم فردي للحقوق إلى مفهوم جماعي يبيح، بل يوجب منح الأقليات المستضعفة حقوقاً وامتيازات "ايجابية" لتمكينها من الخروج بأسرع ما يمكن من الوضعية الدونية التي حُشرت فيها من جراء تاريخ طويل من الاستغلال والاستبعاد. ومن الممكن تمييز ثلاث مراحل، أو ثلاث موجات بالأحرى في اندماج مفهوم التعددية الثقافية عبر العالم بأسره. فقد انطلقت الموجة الأولى من القارة الأميركية الشمالية في الستينات من القرن العشرين على اثر الفشل - النسبي والحق يقال - لحركة الحقوق المدنية في تأمين مساواة في الحقوق والفرص للأقلية السوداء التي تمثل نحواً من 12 في المئة من المجتمع الأميركي، أي ما يعادل الآن 32 مليون مواطن. ففضلاً عن الاخفاق في إلغاء جميع مظاهر التمييز العنصري على صعيد القانون، فإن الأقلية السوداء تبقى هي الأكثر معاناة في المجتمع الأميركي من الفقر والبطالة، وعلى الأخص من الوضعية الإجرامية التي تؤدي إليها المعدلات العالية من الفقر والبطالة. فالأقلية السوداء في المجتمع المدني الأميركي هي غالبية مطلقة في "مجتمع السجون". فنسبة نزلاء السجون من السود أعلى بسبع مرات من نسبة البيض. فمن أصل كل مئة ألف أسود ثمة 1895 سجيناً مقابل 293 سجيناً لكل مئة ألف من البيض. وقنوط السود من الوصول إلى مواطنة تامة وفعلية هو ما حمل قادتهم على التحول من مطلب المساواة الاندماجي إلى مطلب "الإحياء الأسود" التمايزي. فرداً على المركزية الاثنية البيضاء، رفعوا شعار المركزية الاثنية الافريقية السوداء: "فكّرْ أسود، إعمل أسود، اشترِ أسود، صلّ أسود، أحبب أسود وعش أسود". وعلى هذا النحو كفّ اللون الأسود عن أن يكون رمزاً للوضعية الدونية ليغدو حاملاً لما سمي بالكبرياء العرقية Rice Pride. وقد انعكست هذه الكبرياء العرقية في الهوية المزدوجة التي اكتشفها السود لأنفسهم: فلأن أميركا البيضاء لم تقر لهم بالحق في أن يكونوا مجرد أميركيين، صاروا يميزون أنفسهم باسم الأفرو - الأميركيين Afro-American. ومن الولاياتالمتحدة الأميركية انداحت الموجة الثانية للتعددية الثقافية إلى العالم الصناعي الغربي بأسره. ففي عقد الثمانينات شهدت المجتمعات الغربية، وهي تتهيأ للدخول في المرحلة ما بعد الصناعية، أزمة بطالة مزمنة، إذ ارتفعت معدلات العاطلين عن العمل إلى نحو 20 في المئة من اجمالي القوة العاملة. الأمر الذي أدى إلى تفاقم حدة التفاوتات الاجتماعية التي تلبّست في الوقت نفسه مظهراً إثنياً. فالبطالة المزمنة اختارت ضحاياها في أوساط الهجرة في المقام الأول. وغدا الاستبعاد، لا الاستغلال كما في الرأسمالية الكلاسيكية، هو مصدر البؤس الذي ضرب بوجه خاص ضواحي المدن الأوروبية الآهلة بالمهاجرين. وبمعنى آخر، فإن أزمة الثمانينات، المصطبغة بلون عرقي، لم تكن محض أزمة اقتصادية، بل كانت أيضاً أزمة اندماج اجتماعي وقومي. ففي فرنسا برزت إشكالية مغاربية، وفي المانيا إشكالية تركية، وفي انكلترا إشكالية هندية - باكستانية. وبما ان الاستبعاد من العمالة تلبس مظهراً عنصرياً، فقد جاء رد فعل المهاجرين، لا من موقع اقتصادي اضرابات عمالية، تظاهرات نقابية، بل من موقع ثقافي اثني. فحالة "فك الارتباط" التي زجتهم فيها الأزمة الاقتصادية اضطرتهم إلى البحث عن روابط بديلة في انتماءاتهم الجماعية الخاصة. وهكذا حدث انزياح من مستوى المطلب الاقتصادي المحكوم بمبدأ العقل الاندماجي للحداثة إلى مستوى الهوية المسكون بهاجس التمايز والتجذر في التقاليد وعبادة الخصوصية والاختلاف. وهذا أصلاً ما يفسر، جزئياً على الأقل، قوة الانتشار التي عرفتها الاصولية في أوساط الهجرة. فههنا أيضاً لم يكن العامل دينياً خالصاً بقدر ما كان شكلاً من التعبير الاحتجاجي عن كرامة الهوية. أما الموجة الثالثة من التعددية الثقافية فقد انداحت في التسعينات، وعلى صعيد العالم بأسره. وهذه الموجة الثالثة لم تكن في حقيقتها سوى رد فعل استثارته موجة العولمة، فحيال ما بدا وكأنه تعميم عالمي لثقافة واحدة وطراز حياة واحد ونمط تفكير واحد، تكاثر في كل مكان من العالم المتغنون بالتنوع الثقافي، وانتشرت ممارسات ثقافية واجتماعية وحياتية تغالي في تثمين الاشكال الانتروبولوجية من التعبير عن الاختلاف في الهوية في الميادين الأكثر تنوعاً، مثل الموسيقى والأغنية والملبس والمطبخ والرياضة والسياحة والعبادة الدينية "الغرائبية". وفي مقابل السلع الصناعية والتكنولوجية والالكترونية المنمّطة، انفتحت سوق حقيقية للهويات والممارسات الثقافية النوعية، وللبرقشة في أساليب الاستهلاك والحياة اليومية. وهكذا، وفي الوقت الذي بدا فيه العالم موحداً أكثر من أي وقت سبق، بفضل تكنولوجيات الاتصال الحديثة، مال أيضاً إلى أن يُظهر تنوعه أكثر من أي وقت مضى. فكأن النزوع في عصر العولمة إلى العيش بالمفرد قد ولّد نقيضه: العيش بالجمع. لكن السؤال، كل السؤال، هل سيكون هذا التنوع نقيضاً نافياً للوحدة، أم على العكس الشكل الجدلي لاشتغالها؟ إن المسألة، في محصلة الحساب، مسألة مقادير ونسب. فتماماً كما في العبارة الانجيلية عن الخمر، فإن قليلاً من الاختلاف يحيي الوحدة، لكن الكثير منه يقتلها. والتعددية الثقافية مشروعة ومطلوبة ما دامت نسبية، لأنها تكون عندئذ عامل بناء لهوية غنية ومنفتحة. أما التعددية الثقافية المطلقة، فإنها تلغي جدل الوحدة والتنوع، وتؤسس الاختلاف في هوية فقيرة ومنغلقة. وبدلاً من سوق الهويات، فإن التعددية الثقافية المطلقة تقيم غيتو الهويات. ومن منظورها، فإن الهوية أشبه ما تكون بشرنقة. وهي لا تريدها شرنقة محكمة الاغلاق على نفسها فحسب، بل تصر أيضاً على ألا ترى الفراشة التي في الشرنقة، وتؤثر أن تبقيها حبيسة فيها إلى حد الاختناق على أن تطلق لها حرية الانفتاح على الهويات المغايرة.