تمثل الأعمال الكلاسيكية، أي تلك التي يلتقي الناس على اعتبارها أساسية في قراءاتهم ومؤثرة في تكوينهم الثقافي على امتداد الزمن، محل سجال لا ينقطع في الثقافة الغربية في الوقت الراهن" وتظهر كل يوم كتب وأبحاث ودراسات تعيد تعريف "العمل الكلاسيكي" وتضيف أعمالاً جديدة الى مكتبة الكلاسيكيات الغربية لتأخذ هذه الأعمال طريقها الى "السلاسل الخالدة" في دور النشر الكبيرة وتصبح جزءاً لا يتجزأ من المقرر الدراسي، أو ما يطلق عليه اسم الCanon، في المدارس الثانوية والجامعات. ان تغير المناخات التعليمية في الغرب، وتركيز النظرية الأدبية المعاصرة على عدد هائل من النصوص الأدبية وغير الأدبية، التي يصعب النظر اليها بوصفها أعمالاً كلاسيكية، لدواعٍ تتصل بطبيعة ما يسمى "النظرية الأدبية"، التي لا تهتم بالأدب بوصفه أدباً فقط بل تمد حقل عملها الى عوالم أخرى تفيض عن سياق الأدب واهتماماته، وكذلك لأسباب تتعلق بتمثيل الجماعات المختلفة ممن لا صوت لها، أو لأسباب تتعلق بدمقرطة التعليم الجامعي وتغيير تعريف الCanon" كل ذلك أدى الى اختلال مفهوم "العمل الكلاسيكي" واضطراب التقسيم الذي قامت عليه نظرية الأنواع الغربية منذ أرسطو وحتى منتصف القرن العشرين، حيث ظلت نظرية الأنواع تحتفل بعدد محدود من الأعمال الأدبية التي انتجها العقل الغربي، لا تتجاوزها الى غيرها من الأعمال التي تنتجها أمم أخرى أو التي يكتبها مؤلفون معاصرون من دول الغرب نفسه. لكن دخول الثقافة الغربية في طور جديد من اعادة النظر بالقيم والمعايير وأشكال التمثيل، التي قامت عليها هذه الثقافة، أدى، من ضمن ما أدى، الى تغير معنى الأدب، ومن ثمّ الى النظر بعيون جديدة الى "الكلاسيكيات" والمعايير التي تستند اليها نظرية الأنواع الغربية عندما يقوم النقاد والمؤسسة التعليمية ودور النشر بإضافة عمل جديد الى ما يسمى "الأعمال الكلاسيكية". ولتبيان التحول في النظرة الى الأعمال الكلاسيكية نلقي الضوء على كتابين ظهرا أخيراً، يعيدان موضعة الأعمال الكلاسيكية الغربية بعامة في اطار يضيف الكثير من المنجز الأدبي الذي تحقق خلال القرن الماضي، وهما: "لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟" للروائي الإيطالي الراحل إيتالو كالفينو 1923 - 1985، و"كيف نقرأ ولماذا؟" للناقد الأميركي هارولد بلوم. والكتابان، كما يظهر في عنوانيهما، ينشغلان بتبيان الأسباب التي تجعلنا نعد عملاً بعينه كلاسيكياً من دون غيره من الأعمال، كما انهما يلقيان الضوء على الأعمال التي يصنفها هارولد بلوم في كتاب سابق له بوصفها زبدة الإبداع الغربي ونتاج مدرسة العصور. يقوم إيتالو كالفينو بتقديم أربعة عشر تعريفاً ل"العمل الكلاسيكي" في مقالة له بعنوان "لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟"، نشرها عام 1981، وهو يشرح في مقالته الأسباب التي تدعو المرء الى الاحتفال بعمل أدبي معين واعتباره كلاسيكياً لا يمكن الاستغناء عنه بحيث يعود اليه المرء ليقرأه، أو يعيد تمثل مقاطع معينة منه، مرة بعد مرة. وعلى رغم أن كالفينو يتوسع في تعريف الكلاسيكيات استناداً الى حصيلة قرائية امتدت من الخمسينات وحتى النصف الأول من الثمانينات، إلا ان عدداً كبيراً من الكلاسيكيات الغربية الأساسية يحتفل بها كتابه الأخير الذي ظهر مترجماً الى الانكليزية في العنوان نفسه الذي اتخذته مقالته الشهيرة "لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟". ففي الكتاب الذي جمعته زوجته بعد وفاته نصادف احتفاء بأعمال شعرية وروائية وقصصية وكتب فلسفية وعلمية، بعضها يعود الى زمان الإغريق والبعض الآخر ينتسب الى الزمان الحاضر، جلّها من نتاج العقل الغربي، لكن القليل منها هو نتاج الشرق وابن سحره ودهشته. هكذا يقرأ كالفينو أوديسة هوميروس و"مسخ الكائنات" لأوفيد و"التاريخ الطبيعي" لبليني و"الأميرات السبع" للشاعر الفارسي نظامي، و"كتاب الطبيعة" لغاليليو، و"روبنسون كروزو" لدانييل ديفو، و"كانديد" لفولتير، وروايات لستندال وبلزاك وتشارلز ديكنز وفلوبير وتولستوي ومارك توين وهنري جيمس وجوزيف كونراد وباسترناك وايرنست همنغواي وسيزار بافيسي، وقصصاً وأشعاراً لخورخي لويس بورخيس وروبرت لويس ستيفنسون وأوجينيو مونتالي وفرانسيس بونج. تدل اختيارات كالفينو، التي لا شك في انها تأثرت بتبدل اهتماماته القرائية وطبيعة المنابر التي كان يشارك في الكتابة لها على مدار ثلاثين عاماً تقريباً، على تغير معنى "العمل الكلاسيكي" والتحول الجذري في عمليات التصنيف وأشكال النظر الى ما هو أصيل وأساسي، اي الى ما يضيف الى الثقافة الغربية ويعدّل طابعها المعرفي وصيغها الجمالية. ولا شك في ان كاتباً مثل كالفينو، تحول في رواياته وقصصه من الواقعية الجديدة الى الحداثة وما بعدها، تأثر في طبيعة نظرته الى الأعمال الكلاسيكية بالهزات المعرفية، الفلسفية والأدبية والنقدية، التي اجتاحت أوروبا وأميركا في نهاية الخمسينات التي شهدت انجازه لأعماله الروائية والقصصية الأولى. وعلى رغم ان كالفينو لم يقم هو نفسه بجمع هذه المقالات وترتيبها إذ ظهر الكتاب بالإيطالية لأول مرة عام 1991، أي بعد وفاته بحوالى ست سنوات، إلا ان المقالة الأولى "لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟"، التي تعد بمثابة مقدمة للكتاب، تفسر ما يعنيه الكاتب الإيطالي ب"العمل الكلاسيكي". ويمكننا أن نفهم من التعريفات التي يصكها كالفينو ل"العمل الكلاسيكي" تغير المفهوم الذي استند اليه النقد الغربي في تمييز الأعمال الكلاسيكية من غير الكلاسيكية، واهتزاز نظرية الأنواع الغربية وتأثير التململ المعرفي الحاصل داخل الأسوار الجامعية الغربية، والتحول في طبيعة ما يدرس من أعمال أدبية في المقررات، على تعريف "العمل الكلاسيكي". وأعرض في ما يلي لعدد من التعريفات الأساسية التي يقدمها كالفينو ل"العمل الكلاسيكي" لتوضيح النقلة التي تحدثها نظرة الكاتب الإيطالي الى الأعمال الأدبية، بالمعنى الواسع غير المحدود للكلمة، في سياق الثقافة الغربية في نهايات القرن العشرين. يبدأ كالفينو تعريفه الأول ل"العمل الكلاسيكي" متفكهاً مرحاً محاولاً التقاط الجوهري غير التاريخي في الأعمال الكبيرة: "الكلاسيكيات هي تلك الكتب التي عادة ما تسمع الناس يقولون انهم يعيدون قراءتها... ولا تسمعهم يقولون انهم يقرأونها..." "لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟" ص:3 أما التعريف الثاني فيقول ان "الكلاسيكيات هي تلك الكتب التي تمثل خبرة أثيرة لمن قرأوها وأحبوها" المصدر نفسه، ص4. ومن الواضح ان التعريفين السابقين يستندان الى الخبرة العامة والدارج من الكلام حول مفهوم "العمل الكلاسيكي" الذي يدرس في المدارس والجامعات، ويظهر على الدوام في طبعات جديدة محققاً ومعاداً النظر فيه من قبل أساتذة متخصصين وأكاديميين سحرهم هذا العمل بحيث أنفقوا عمرهم على قراءته وتدريسه والتعليق عليه وتأليف كتب تساعد على فهمه وتقريبه الى قراء من أعمار ومشارب مختلفة. التعريف الثالث يقول ان "الكلاسيكيات هي الكتب التي تمارس تأثيراً معيناً علينا حين تنطبع في مخيلاتنا بصورة لا تُمحى. وعندما تختبئ في طبقات ذاكرتنا في صورة لا وعي فردي أو جمعي". المصدر السابق، ص:4 أما التعريف الرابع فيرى ان "العمل الكلاسيكي هو الكتاب الذي يقدم لنا في كل قراءة جديدة له احساساً بالاكتشاف كما لو أننا نقرأه لأول مرة". ص:5 التعريف الخامس يقول ان: "العمل الكلاسيكي هو الكتاب الذي يعطينا، حتى ونحن نقرأه لأول مرة، إحساساً بأننا قرأناه من قبل". المصدر السابق، ص: 5، لكن كالفينو يصوغ التعريف السابق بصورة أفضل عندما يقول: "العمل الكلاسيكي هو الكتاب الذي لا يستنفد، على الإطلاق، ما يقوله للقراء". ص:5. تختزن التعريفات الستة السابقة نظرة عامة دارجة للكلاسيكيات بوصفها منجزات كبرى لا تستنفد معانيها مهما تكررت القراءة واختلف القراء وتقلبت السنوات والعصور" وهي بالطبع نظرة غير تاريخية لا تفسح حيزاً لتاريخية الأعمال الكلاسيكية ورغبة البشر في تكريس أعمال بعينها وتجريدها من زمنيتها والتعامل معها بوصفها نصوصاً عابرة للزمان ومتخطية للمكان. لكن كالفينو، وهو الماركسي السابق في أيام الشباب، سرعان ما يخطو في تعريفاته الى أرض التأويل التاريخي ليربط ما بين الكلاسيكيات وما تحمله من تأويلات السابقين وما يَعْلَقُ بها جراء عبورها في الزمان. يقول التعريف السابع: "الكلاسيكيات هي تلك الكتب التي تصل الينا حاملة هالة من التأويلات السابقة، ساحبة خلفها ما تركته من آثار في ثقافة أو أكثر من الثقافات أو ربما في اللغات والعادات فقط التي مرت بها". المصدر السابق، ص: 5 ويطور كالفينو التعريف السابق بطريقة تبين تأثير تحولات النظرية الأدبية المعاصرة ورؤيتها للأعمال الكلاسيكية، حيث نقع على استخدامه لأول مرة في مقالته مصطلح "الخطاب" وانتباهه، لأول مرة أيضاً، الى دور النقد في صياغة مفهوم العمل الكلاسيكي وتكريس حضوره بوصفه كذلك: "العمل الكلاسيكي هو ذلك الذي يُولّد على الدوام سحابة من الخطاب النقدي، لكنه يستطيع في كل مرة أن يبدد ذلك الخطاب من حوله". ص: 6. لكن كالفينو يعود في تعريفاته التالية الى الانغماس في رؤيته عبر التاريخية لمسيرة الأعمال الكلاسيكية. ففي التعريف التاسع يقول: "الكلاسيكيات هي الكتب التي كلما ظننا اننا نعرفها، من خلال ما نسمعه عنها من الآخرين، خالفت توقعاتنا وتبدت لنا حين نقرأها أكثر أصالة وجدّة". المصدر السابق، ص: 6 أما في التعريف العاشر فإن الكاتب الإيطالي يعادل بين الكتاب ومعرفة الكون: "العمل الكلاسيكي هو التعبير الذي نطلقه على أي كتاب يمثل الكون بأكمله، الكتاب الذي يعادل في وجوده الطِلسمات السحرية القديمة". ص: 6 لكننا ننتقل في التعريف الحادي عشر الى ربط العمل الكلاسيكي بالقراء ونظراتهم الى أنفسهم: "العمل الكلاسيكي الذي تقرأه هو الكتاب الذي لا تستطيع الا ان تبدي انحيازك له، الكتاب الذي يساعدك في تعريف نفسك بالاتفاق معه أو على الضد منه". ص: 7. ينتقل كالفينو تالياً الى تعريف العمل الكلاسيكي بالقياس الى علاقة الكلاسيكيات الجديدة بالكلاسيكيات السابقة عليها، وهو ما يفسر اختياراته للنصوص التي قرأها على مدار حياته الفكرية والثقافية، ونجد بعضها منشوراً في هذا الكتاب. يقول التعريف الثاني عشر: "العمل الكلاسيكي هو ذلك الذي يأتي قبل الكلاسيكيات الأخرى لكن أولئك الذين يكونون قد قرأوا كلاسيكيات أخرى يستطيعون ان يميزوا في الحال موضعه في شجرة نسب الأعمال الكلاسيكية". المصدر السابق، ص:7. أما التعريفان الأخيران، اللذان يوسعان حدود التعريف السابق، فهما ينتسبان الى ما شاع في النقد المعاصر من بحث عن سلسلة النصوص، ونظرية التناص، وتأثير الأعمال الكلاسيكية بصورة غير منظورة فيما ينتج من نصوص جديدة، والقول إن الكاتب لا يصدر في كتابته من الواقع بل من النصوص التي تتناسل من بعضها البعض عابرة حدود الجغرافيا والزمان. يشير كالفينو في تعريفه الثالث عشر الى ان "العمل الكلاسيكي هو ذلك الذي يحول ضجة الحاضر الى مجرد همهمة غير مسموعة لا يتحقق العمل الكلاسيكي إلا بحضورها". ص: 8. أما التعريف الرابع عشر والأخير فهو توسيع لسابقه: "العمل الكلاسيكي هو ذلك الذي يبقى حاضراً بضجيجه في الخلفية حتى لو كان الراهن، الذي لا يتساوق معه على الإطلاق، قادراً على كبح أثره". ص: 8. تلخص التعريفات السابقة، التي قدمها إيتالو كالفينو ل"العمل الكلاسيكي"، السياقات التعليمية والمعرفية التي تكوّن ضمنها مفهوم الكلاسيكيات في الثقافة الغربية" ويمكن أن نغامر فنقول انها تقترب من تحديد شروط حضور الأعمال الكلاسيكية في أكثر من ثقافة، ومن ضمنها الثقافة العربية - الإسلامية، على رغم ان هذا التصور بحاجة الى بحث ودراسة معمقة تستدعيها طبيعة التحولات الثقافية وتغير معنى الأدب في الثقافات البشرية كل على حدة. إذا انتقلنا الى كتاب هارولد بلوم "كيف نقرأ ولماذا؟". وهو يقع ضمن سلسلة من كتب الناقد الأميركي الشهير تعيد قراءة المنجز الأدبي الغربي بدأها بكتابه The Westen Canon وكتابه قبل الأخير "شكسبير: ابتداع ما هو انساني، سنجد ان غاية الكتاب هي ارشاد قراء الانكليزية الى الكلاسيكيات الغربية الكبرى في القصة القصيرة والشعر والرواية والمسرح معللاً، على مدار صفحات الكتاب، أسباب اختياره من لخص اعمالهم من كُتّاب الغرب. ومع ان كتاب بلوم يبدو تعليمياً في ظاهره، وهو في المناسبة حقق أرقاماً عالية في التوزيع منذ الأيام الأولى لتوزيعه في الأسواق، الا انه يهدف في الحقيقة الى استعادة القارئ الغربي من قبضة النظرية الأدبية المعاصرة وتأويلاتها لمعنى النص وعلاقة المؤلف بنصه الذي يكتبه وتعريف تيارات معينة، التفكيكية والنصية وتيارات ما بعد الحداثة، للواقع والوجود، الى حد انه يجرد كل كتابة من غاياتها الاجتماعية والسياسية معيداً فعل القراءة الى الممارسة الشخصية والمتعة الجمالية الفريدة "كيف نقرأ ولماذا؟"، ص:"21. هو بهذا المعنى يجرد العمل الكلاسيكي من شروط تكونه التاريخية وينسبه الى عبقرية المؤلف وقدرته الفريدة على الابتكار. على رغم كون بلوم واحداً ممن كانوا يسمون في السبعينات "عصابة جامعة ييل" أو "نقاد جامعة ييل"، إذ انه حرر عام 1979 كتاب "التفكيك والنقد" الذي شارك فيه جاك دريدا وهيليس ميلر وجيفري هارتمان، الا انه يتحصن في السنوات الأخيرة في قلعة النقاد التقليديين الذين يعيدون القراءة النقدية الى التأمل الانطباعي الذي يستند الى الخبرة القرائية واتساع دائرة المعرفة والثقافة الرفيعة التي لا شك في ان بلوم يتمتع بها جميعاً، اضافة الى نفاذ النظرة والحدس المعرفي القادر على الغور في ثنايا النصوص. ولعل هذا التغيير في موقفه النقدي، وانزلاق تحليله للنصوص الى نوع من تفضيل الحدس على القراءة: هو ما يجعله يعد عمل شكسبير الشعري والمسرحي مركز اشعاع جمالي ومعرفي على الثقافة الغربية برمتها. انه يصرح بذلك قائلاً ان شكسبير يحررنا من عدد من الأشباح التي هيئ للقارئ انها حاضرة بقوة بفعل النظرية الأدبية المعاصرة، ومن ضمن هذه الأشباح، كما يقول هارولد بلوم: موت المؤلف، والتشديد على كون الذات الإنسانية موضوعاً مُتَوهَماً، والقول بأن الشخصيات الأدبية والدرامية هي مجرد علامات على الصفحة البيضاء، والإيمان القاطع بأن اللغة هي التي تفكر لنا. المصدر السابق، ص: 28. يشن بلوم هجوماً ضمنياً على تيارات النظرية الأدبية الغربية، التي شكل عمله النقدي جزءاً لا يتجزأ من انجازاتها خلال عقدي السبعينات والثمانينات في القرن السابق. وهو يشدد على ان وظيفة النقد الأدبي "تجريبية، عملية، أكثر من كونها نظرية" ص:19. ثم انه يطور حجته قائلاً انه "إذا كانت للنقد وظيفة في الوقت الحاضر فعليه ان يتوجه للقارئ المتوحد، الذي يقرأ لنفسه". ص:23، ويواصل حديثه معلناً: "لا أخلاقيات للقراءة" ص:24. تنعكس هذه التطورات، التي تتصل بعملية القراءة نفسها ومن ثم بوظيفة النقد وعمل الناقد، على طبيعة اختيارات هارولد بلوم، وعلى الأعمال التي يرشحها للقراءة: ففي القصة القصيرة يختار ايفان تورغنييف وأنطون تشيخوف وغي.دي.موباسان وارنست همنغواي وفالنري أوكونور وفلاديمير نابوكوف، وخورخي لويس بورخيس وتوماسو لاندولفي وايتالو كالفينو. أما في الشعر فيختار: هاوسمان ووليام بليك وتنيسون ووالت ويتمان واميلي ديكنسون وروبرت براوننغ واميلي برونتي وشكسبير وجون ميلتون ووليام ووردسوورث وكولردج وشيللي وكيتس. فيما يختار من بين الروائيين: سيرفانتيس وستندال وجين أوستن وتشارلز ديكنز وفيودور دوستويفسكي وهنري جيمس وهيرمان ملفيل ووليام فوكنر وتوماس مان وناثانييل ويست بينشون وكورماك ماكارثي ورالف اليسون وتوني موريسون،. لكنه يحصر اختياراته في المسرح ب"هاملت" لشكسبير و"هيدا غابلر" لهنريك إبسن و"أهمية ان تكون جاداً" لأوسكار وايلد. من الواضح من اختيارات بلوم انه يحاول تكوين مجموعاته الخاصة من الكلاسيكيات الغربية الحديثة والمعاصرة مشيحاً البصر عن الزمان الإغريقي لأنه أحد الداعين في كتب سابقة له الى التخلص من الإرث الإغريقي في الثقافة الغربية والنظر الى الثقافة الغربية الحديثة بوصفها نتاج العهدين القديم والجديد ولنضع في الحسبان ان بلوم من أصل يهودي الماني، وهو ذو نزعة سياسية محافظة تلتقي، كما يقول في حوار معه جرى منذ سنوات، مع حزب حيروت الإسرائيلي. وتؤثر هذه النزعة السياسية، وكذلك دعوته الى الانفكاك من أسر المرجعية الإغريقية، على طبيعة نظرته الى الكلاسيكيات الغربية التي لا تتضمن في حالة بلوم أي أثر اغريقي عتيق. وعلى رغم ان بلوم غير معني في كتابه "كيف نقرأ ولماذا؟"، بتعريف العمل الكلاسيكي إلا ان تأملاته حول كيفية القراءة وغاياتها، وسياحته في أرض النصوص التي شرح لنا جمالياتها وعلاقتها بشخصيات شكسبير وعبقريته العابرة لحدود الأنواع والعصور والجغرافيا، تعيدنا الى النظرة المتغيرة لمعنى العمل الكلاسيكي في الثقافة الغربية في نهايات القرن الماضي. إن بلوم، مثله مثل كالفينو، ينتخب "كلاسيكياته" متأثراً بالتحولات التي جرت ضمن أسوار المؤسسة الأكاديمية الغربية وفي السياقات التعليمية المختلفة، ومن هنا اختياره لتوني موريسون بوصفها كاتبة سوداء من الولاياتالمتحدة، وكذلك حديثه عن بينشون الذي يعد واحداً من روائيي ما بعد الحداثة في أميركا. تغيرت النظرة الى الأعمال، التي تدرج في اطار الكلاسيكيات، بتأثير النظرية الأدبية المعاصرة على رغم الغضب الذي يصبه هارولد بلوم على النظرية ومنطلقاتها والأفكار التي تروج لها. ولعل هذا التغيير يعيدنا الى الفهم التاريخي لاندراج الكلاسيكيات في المقررات التعليمية، حيث تزيح بعض الأعمال الأدبية الجديدة أعمالاً سابقة لها من مكانها الأثير وتحل محلها بتأثير الفضاءات السياسية والاجتماعية وعلاقات الأعراق بعضها ببعض في الزمان المعاصر. * كاتب أردني.