الكتاب: التفكير والهجرة المؤلف: ناصيف نصّار الناشر: دار النهار للنشر - بيروت 1997 منذ كتابه عن ابن خلدون "الفكر الواقعي عند ابن خلدون" في الستينات، الى كتابه "طريق الاستقلال الفلسفي" في السبعينات، الى كتابه "الفلسفة في معركة الايديولوجيا" في الثمانينات، فكتابه عن "منطق السلطة" في التسعينات، اضافة الى كتب اخرى حاول المفكر اللبناني ناصيف نصّار ان ينزل بالفلسفة من القلعة التي يحتلها الفلاسفة عبر التاريخ الى مجالات السوق الثقافية حيث يختلط حابل الفلسفة بنابل التاريخ والهوية، والدولة والحقيقة، حيث تنسج الفلسفة علاقات شديدة التعقيد مع مجمل البنية الثقافية ومع الكل الاجتماعي التاريخي الذي يكتنف تلك البنية الثقافية، ويحددها كبنية متميّزة في اطار الثقافة العالمية. وإنزال نصّار الفلسفة الى السوق الثقافية يصدر عن تصور فكر فلسفي عربي جديد مستقل، يكمن في مقولة الفعل، او في مقولة الوجود التاريخي، ويرتكز الى ما يسمى بالواقعية الجدلية التي لا تربط فعل التفلسف ربطاً حتمياً بأي قطاع او نظام من قطاعات او انظمة البنية المجتمعية، وإنما تتركه حراً في استلهام هذا القطاع او ذاك بحثاً عن تبيان المبادئ والأنساق والنتائج التي تتخبّط فيها مشكلات المعرفة والوجود والعمل. ان اخراج نصّار الفلسفة من القلعة التي تسكنها الى السوق حيث تعجن الحياة وتخبز يومياً حمله على استكشاف اوضاع الحرية والعقل والإبداع في تاريخ الفكر العربي الوسيط والحديث: "ان نصوص هذا الكتاب تشترك في ثلاثة امور على الأقل: اولاً، لقد وضعتها بروح الحرية، وتحديداً حرية العقل التي هي درّة الحريات. ثانياً لقد ظهرت تباعاً في اجواء محليّة وإقليمية يزداد ضغطها على الحرية. ثالثاً انها جميعاً تطرح، بكيفيّة او بأخرى، موضوع الحرية". ان حرية العقل التي يأخذ بها المفكر اللبناني تشكل في ابحاثه اداة معرفية بامتياز، فهي التي تلهمه وهي التي تخطّ طريقه وهي التي تهديه الى سواء السبيل. وحرية العقل عنده لا يقف امامها المحرّم، او المسكوت عنه، او اللامفكر فيه، ولا يحجبهها المعقول التراثي او الحداثي. فكل القضايا عندها سيّان سواء تعلقت بالهوية، او بالدولة، او بالتاريخ. في بحثه عن حرية العقل تستباح القضايا الصغير منها والكبير، وتتراصف مشكلات المعرفة والوجود والفعل باحثة عن مخرج لمعقوليّتها وشرعيّتها في نطاق فلسفة الواقعية الجدلية. في مراجعته لخصائص العقلانية الفلسفية العربية في العصور الوسطى يتوقف نصّار عند ابن رشد فيلسوف قرطبة، ويناقش نظريته الشهيرة في التأويل، معيباً عليه عدم اخضاعه الحقائق الدينية للفلسفة واكتفاءه بعقلانية توفّق بين الشريعة والفلسفة. وتحصر السيادة في العمل من دون اعطاء العقل الفلسفي الذي هو ذروة العقل البشري اي سيادة فيه. يكتب المؤلف في هذا السياق: "لأننا لا نناقش الان ابن رشد وإنما نبيّن محدودية عقلانيته، فهو رغم اعجابه الشديد بأرسطو، لم يعترف للعقل الفلسفي بجميع حقوقه، وبخاصة في ميدان الافعال الانسانية، ولذلك عندما نتحدث عن عقلانيته، يجب ان نشدد على المفارقة العجيبة التي تتسم بها، وقوامها مطالبة بسيادة العقل في ميادين المعرفة وتبرير لاستتباعه وإلجامه، بل وقمعه، في ميادين العمل، وبخاصة ميدان التشريع". وفي الجملة لا تنطوي عقلانية ابن رشد العملية على ما يرى نصّار اي مشروع فلسفي لتغيير الواقع الاجتماعي التاريخي، انها عقلانية محافظة اشد المحافظة. في قراءاته الاخرى لبدايات الفلسفة في العصر الحديث ولصانعي حريتها العقلية يتوقف نصّار عند كاتبين لبنانيين هما نعمة يافث وفرنسيس مرّاش. يتوقف عند يافث الذي أسس بكتاباته الأصول التاريخية الاجتماعية للإيديولوجيات التي نشأت في مشرق العالم العربي بعد زوال الامبراطورية العثمانية، وينظر في مجموعته "مجموعة نعمة يافث" التي تحتوي على مقالات وخطب أذاعها في مناسبات دينية وسياسية واجتماعية. ويستطرد ملخّصاً آراء نعمة يافث، بأن محورها الفرد الذي هو مستقل استقلالاً ذاتياً. ويتوقف ايضاً عند المرّاش في كتابه "غابة الحق" ومدلول هذا الكتاب الاخلاقي والسياسي. ان تفكير المرّاش الاخلاقي على ما يرى نصّار مرتبط بالصراع بين العبودية والحرية، وبالصراع بين الظلم والعدل. والارتباط كما يتبيّن يحيل على واقع اجتماعي تاريخي يختصره المرّاش تحت مقولتي التمدّن والتوحش. وهذا يعني ان المرّاش يؤسس تفكيره في الأخلاق على تفكيره في الحرية، ويؤسس تفكيره في الحرية على تفكيره في التمدّن. الاخلاق الفاضلة هي، وفقاً لذلك، الاخلاق النابعة من الحرية، على اساس العدل "تحت سماء التمدّن". والاخلاق الشريرة هي الاخلاق النابعة من العبودية على اساس الظلم، في "دولة التوحّش". اما تفكير المرّاش السياسي، على ما يضيف نصّار، فيقوم على فكرة المساواة امام القانون "ان اعظم المقوّمات لصحة السياسة وإقامة الحق هو مجرى شرائعها متساوية على كل ابنائها فلا يجب الأخذ بيد الكبير ودفع الصغير، ولا الإلتفات الى الغني والإعراض عن الفقير، ولا مؤازرة القوي ومواراة الضعيف. بل يجب معاملة الجميع على حدّ سواء كيلا يقع خلل في نظام الحق". وبالقوة نفسها والحسم نفسه، على ما يقول نصّار، عبّر المرّاش عن مكانة الاهتمام بالمصلحة العامة في تهذيب السياسة: "ان اهمّ دواعي السياسة وأعظم بواعثها هو النظر الدائم الى الصالح العام وتواصل السهر عليه". ان البحث عن حرية العقل عند ابن رشد ونعمة يافث وفرنسيس مرّاش حمل المفكر اللبناني في القسم الآخر من كتابه على تشريح مقولات الذين يسدّون منافذ هذه الحرية عند القائلين بالنظام الكلّي، والتعصّب، والداعين الى الأصولية الدينية، والتراثية. يعتبر نصّار ان النظام السياسي الكلّي الذي كان مطبّقاً في الاتحاد السوفياتي السابق، وفي بعض الدول العربية، هو نظام يقتل حرية العقل ويقضي على مبادئها من حيث انه يدمج الأفراد كلياً في الدولة، ومن حيث انه يطابق بين الوجود الخاص والوجود العام في وجود الناس الاجتماعي. انه كما يقول نصّار: "سيطرة السياسي كلياً على كل الوجود الاجتماعي، وتسييس كل شيء في المجتمع بصورة مباشرة من وجهة النظر المؤيّدة للدولة، وتحويل القوى الانسانية الناشطة في المجتمع الى قوى متماهية مبدئياً مع سلطة الدولة، وعملياً مع سلطة الحاكمين". في المقابل يعتبر نصّار ان النظام السياسي المنفتح لا يخنق حرية العقل وإنما ينمّيها وينشر قيمها في الوجود الانساني بمختلف وجوهه. والنظام السياسي المنفتح الذي يدعو اليه نصّار يخلق على ما يرى جدلية بين الكل والأجزاء. فالاهتمام بالكلّ لا يقتضي ان يكون الحاكم وحده حراً والمحكومون في الأغلال، ولا يستلزم ان يكون الفرد مواطناً صالحاً، ولا شيء غير ذلك. الفرد مواطن من جهة انتمائه الى الدولة، ولكن هذه الجهة ليست الجهة الوحيدة في وجوده. ولذلك لا يحب النظام المنفتح طغيان المواطنية، اي اختصار وجود الفرد بعضويته في الدولة، وإنما يحب المواطنية الكاملة، والصحيحة التي لا يشوبها طغيان. اذا كان النظام السياسي الكلي يقتل حرية العقل ويقضي على مبادئها، فإن التعصّب للدين او التراث يقضي على ملكة النقد العقلي ويغلق كل حوار حول جدواه. ويرى نصّار ان عودة ظاهرة التعصّب الى مسرح الأحداث مرتبطة بالتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي شهدها العالمان العربي والإسلامي في العقدين الأخيرين. ويعود المؤلف الى الأفغاني لاستطلاع مضامين هذا المفهوم وشرح أبعاده، والتعليق عليه. ان التعصّب، كما ينقل نصّار عن الأفغاني، يقضي التركيز على ناحيتين: ناحية الاتحاد بين افراد الجماعة، وناحية الدفاع عن حق هؤلاء الأفراد. وعندما تتحدّد طبيعة التعصّب بهذا الشكل يصبح من الممكن رسم أطر تفكير الداعين الى الأصولية التراثية والدينية. فالأصوليون الدينيون لا يتعصّبون في الاتجاه نحو الأصول الماضية وحدها، الأصول المقررة في العقيدة، وانما يعرضون عن كل ما طرأ وما وفد الى جماعة العقيدة. والأصوليون على ما يقول نصّار حركات تاريخية نكوصية تنشأ في اطار عقيدة معيّنة وترمي الى تحقيق المشروع الاجتماعي لهذه العقيدة بالعودة الى اصولها حلاً لأزمة معينة. اما الأصوليون التراثيون فيركّزون على محاربة الأمبريالية تحت غطاء الاختلاط والتخلّف، ويرفعون شعار التغريب متخذينه اطاراً لشتى الاتهامات والحملات والتفسيرات، ويتوسلون الكلام عن الهجمات الصليبية لقمع اية محاولة في التجديد والتحديث. والواقع ان محاربة الاصوليين التراثيين لفكرة الامبريالية وقضية التغريب ودعاوى الهجمات الصليبية تفترض تحديد هذه الأمور تحديداً علمياً على ما يرى نصّار، وتوفر المنطق الصالح لمعالجة اسئلة كهذه: هل الامبريالية المرادف التام للغرب بكل انجازاته؟ وهل محاربة الامبريالية تعني محاربة الحضارة الغربية برمّتها؟ وما هي بالضبط "شرور الامبريالية"؟ وإلى اي حد يصح استعمال مقولة الغزو لوصف حقيقة العلاقات القائمة بين العالم الغربي والعالمين العربي والإسلامي؟ وهل كل تعامل منفتح مع الثقافة الغربية هو استغراب وتغريب؟ أدّت الأصولية، ماضياً وحاضراً، بدعوتها الى بناء النظام السياسي الكلي القائم على التعصب لمفهوم آحادي للعقيدة، الى نشوء حركات اسلامية تدعو الى التكفير والهجرة: تكفير كل من لا يؤمن بدعواتها، والهجرة باتجاه النموذج الاسلامي الأول في الحكم. اما المفكر اللبناني ناصيف نصّار فيشكل النقيض لهذه الحركات في دعوته الى حرية العقل، درّة الحريات بامتياز. لذا نراه يستبدل الدعوة الى "التكفير" بالدعوة الى "التفكير" النقدي الحرّ، ويستبدل "الهجرة" باتجاه النموذج الاسلامي الأول، ب "الهجرة" باتجاه النهضة الثانية التي يتمنّاها ان تكون حركة شاملة، قوامها استئناف النهضة العربية الاولى وإعادة بنائها ودفعها بروح الثورة، انطلاقاً من اعادة طرح قضية العقلانية والحرية والهوية بشكل متحرّر من سيطرة الايديولوجية وعقدة التراث، سواء كان تراث العصور الوسطى ام تراث الحداثة الأوروبية.