خرج الشاب من إحدى ساحات لوس أنجليس مكبّلاً، لكنه لم يبدُ مثل أي مشارك في نشاط احتجاجي في أي مكان في العالم. صورته، التي وزّعتها وكالات الأنباء قبل أيام، ليست «عادية»، لمعارض سياسات أميركية في ظل أزمة اقتصادية عالمية ووطنية، وقد اعتقلته الشرطة. يداه خلف ظهره في الأصفاد المألوفة. غير أن قناع «غاي فوكس» (الرجل الذي سعى إلى إحراق مجلس اللوردات البريطاني عام 1605 وولّفت ملامحه قناعاً لبطل رواية V for Vendetta-1982 ثم الفيلم المقتبس عنها في 2006) كان لا يزال بين كفّيه المغلولين. أُسقطت عن رأس الناشط أيقونة الوجه الأبيض، بالشاربين الأسودين والابتسامة الثأرية، ولم يفلتها. إذ لم يعتبر أنه هُزم، ليس بعد. رمز ثقافة جماهيرية من خلفه. ويحدس الناظر إلى الصورة وعدَ المعتقل لنفسه، بعد حبسه، بالعودة إلى تجيير الإبداع اليومي لقضيته... ولم يخطئ. ما زالت حركة «احتلوا وول ستريت» تصيح في وجه الشركات ورأس المال و «الاستابلشمنت» التي تكابر. ماضيةٌ الحركة في المطالبة بسياسة اقتصادية واجتماعية أكثر عدلاً ورحمة. ولا تدخّر، في نضالها هذا، كل ما قد يسعفها من «موتيفات» الثقافة السائدة، الجاهز منها وما يجب اختراعه. بل إن الثقافة تلك، سلاح، وتستمر... منذ الدعوة إلى التحرك التي أطلقتها مجلة كندية في أيلول (سبتمبر) الماضي، ولاقت صدىً مدهشاً في أرجاء الولاياتالمتحدة، قبل أن تتمدّد إلى شرق العالم وغربه. فكّكت شرطة نيويورك، قبل أسابيع، المخيّم الاحتجاجي السلمي في ساحة زوكوتي. ونُفّذ «كوماندوس» صغير مشابه في لوس أنجليس. لكن ناشطي «احتلوا وول ستريت» يلحّون. حاولوا أخيراً احتلال الموانئ (في الساحل الغربي)، ومدّدوا أجسادهم على قضبان سكك الحديد (في واشنطن) لشلّ شبكة القطارات بغية تظهير مطالبهم. الرسالة سياسية- اقتصادية توجهها «نحن ال99 في المئة» إلى «1 في المئة» تهيمن على المقدّرات. إلا أن وسيط التعبير الأكثر لفتاً للانتباه كان ولا يزال الثقافة، الشعبية السائدة، كما النخبوية المتّهمة بتمترسها في الغاليري. تبدأ لغة «احتلوا» من أقنعة السينما وخيالها، وملصقات الفن التشكيلي الحديث، تمرّ ب «مكتبة احتلوا وول ستريت» (التي صودرت منها آلاف الكتب خلال إخلاء الشرطة لساحة زوكوتي بالقوة)، حتى تتبلور في شعار «99%» يُبثُّ علامةً ضوئية على جدار مبنى «فيريزون» قرب جسر بروكلين، تيمناً بمصباح مدينة «غوثهام» في القصص المصوّرة حين يرسم وطواطاً مشعاً في صدر الليل كلما احتاج أهل المدينة إلى بطولة «باتمان» تنقذهم. ذائقة القضية النقاش قديم، قِدم أفلاطون، حول ربط الفن بالشأن العام. قلق الفيلسوف الإغريقي من قدرة الفن على استنهاض المشاعر وتحدّي السلطة، وخالفه تلميذه أرسطو حين نظّر لوظيفة اجتماعية للفن، قبل قرون من قيام حركة «الفن من أجل الفن» في أوروبا. دفع المفكّر -أفريقي الأصل- دوبوا، في عشرينات القرن المنصرم، بمقولة أن الجمال لا بد أن يخدم «الخير الأكبر»، لينقضه مثقفو ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين شهدوا على شرور البروباغندا. خلال «المرحلة التقدمية» في أميركا، استخدم كتّاب أميركيون، أمثال آبتون سينكلير وإيديث وارتون وتيودور درايزر، الإبداع لتنبيه الوعي العام إلى قضايا اجتماعية، وكذا فعلت «حركة السود» في الستينات. ثم انصرفت الحداثة إلى ما بعدها وصار كل شيء ممكناً. لكن، وبصرف النظر عن سجال الفن/النضال، فإن «احتلوا وول ستريت»، كما انتفاضات «الربيع العربي»، أعادت إلى الفضاء الثقافي «عاميّته» ونكهة كانت قد شارفت الاضمحلال. هي ذائقة القضية، إنما ألذ، من دون حتميّات القرن العشرين ويقينه الفاشل. وثمة أكثر... لم يكتف الناشطون بالمنتجات الثقافية وسيلةً، بل جعلوها مطلباً. فبعد أسابيع قليلة على انطلاقة «احتلوا وول ستريت»، تبدّت على هامشها حركات وضعت الثقافة في عين السياسة، أبرزها «احتلوا المتاحف» المطالبة بالمزيد من الليالي المتحفية المجانية وبدمقرطة الفن لتخليصه من براثن قوى السوق. في حديث صحافي، تقول تشانا روثمان- مؤلفة أغان شابة في فيلادلفيا: «الكثير من أصدقائي يتظاهرون بسبب تزايد المساحة الفنية الخاضعة لسلطة الشركات، ما يقطع الطريق على فنانين كثيرين يطمحون إلى أن تُرى أعمالهم». واعتبرت آنا هارا، التي خسرت وظيفتها في غاليري فني بسبب الركود، إن «الهيكلية الصارمة والمهيمنة على عالم الفن دفعت بالكثير من الفنانين إلى الهامش». أقيم في أحد غاليريات «وول ستريت»، قرب «المخيّم» الاحتجاجي المنحلّ الآن، معرض بعنوان «نوكومينت» (بلا تعليق) لأعمال فنانين من أنحاء العالم استوحوها من تحرك «الاحتلال». صارت الحركة نفسها تلهم فناً جديداً. كأنها دائرة بديعة مفرغة. هكذا، فيما استخدم البعض الفن للاحتجاج السياسي، راح الآخرون يسيّسون احتجاجات فنية المضمون. الفن حياة. والحياة صلب السياسة. الفنان التشكيلي، شيبرد فيري، نوَّعَ على إبداعه الخاص. جيّر ملصقه الشهير عن باراك أوباما بعنوان «الأمل»، إلى «احتلوا وول ستريت»، مستبدلاً وجه الرئيس الأميركي الأول من أصل أفريقي، بوجه مستلهَم من المناضلة السوداء أنجيلا ديفيس تارة، وتارة أخرى بقناع غاي فوكس مصحوباً بنداء: «السيد الرئيس، نأمل أن تكون بجانبنا. نحن ال99%». فيما تولّى ناشطون ارتجال «بياناتهم» البصرية الخاصة، بالتنويع على منحوتات سيوارد جونسون الثاني المعروف بتماثيله البرونزية في المساحات العامة وتمثّل أشخاصاً خلال يومياتهم. هكذا، حوّلوا تمثال رجل أعمال في «زوزكوتي بارك»، ناشطاً «بوهيمياً»، حين ألبسوه «طاقية» صوفية من عندهم وقميصاً أحمر ونظارات. وفي مناسبة مرور شهرين على «احتلوا وول ستريت»، قام شاب بمبادرة فردية، عاونته فيها امرأة تستأجر شقة مقابلة لمبنى «فيريزون»، وهي أم عزباء عاملة. بثّ الشاب علامات ضوئية على المبنى العملاق: «أيها ال99%، انظروا حولكم، أنتم جزء من انتفاضة عالمية، نحن صرخة، من قلب العالم، لأن عالماً آخر بات ممكناً»... وخلال البث، علت أبواق السيارات بالتحية. الأفكار لا تنتهي، وكذلك الابتكار. للفرد «سلطته»، وكذلك الجماعة المتخففة من رأس. إيديولوجيا وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» حركة «احتلوا وول ستريت» ب «الحرب الثقافية: الشباب في مواجهة الأكبر سناً، اليسار في مواجهة اليمين، والموائد المجانية في مواجهة لافتات كتب عليها: لا تَدُس عليّ». ولعل «الحروب الثقافية»، على رغم الإعلان المزعوم لاندثارها في مناسبات عدة (أحداث 11 أيلول/سبتمبر وانتخاب باراك أوباما رئيساً على سبيل المثال لا الحصر)، لا تزال إطاراً تنظيرياً للسجال السياسي الأميركي. فإذا كانت درجة التديّن، في أميركا الخمسينات، قليلة التأثير في اختيار تأييد الحزب الجمهوري أو الديموقراطي، فإن الالتزام الديني معيار لم يعد في الإمكان إغفاله راهناً. يصوّت الأميركيون الأكثر تديناً للجمهوريين، ويؤمّ المحافظون غير المتديّنين دورَ العبادة أملاً في تعزيز قواعدهم الشعبية. الليبراليون يتخلّون عن الدِّين، ويتزايد عدد الملحدين الذين يديرون ظهورهم للحزب الجمهوري... وهذا ليس سوى نموذج من ديالكتيك «حرب ثقافية» من الوضح أنها لم تخبُ. ولعل الملاحظة أعلاه تستدعي أيضاً «حزب الشاي» الذي ولد عام 2009، واكتسب زخماً من أجواء عامة عبّر عنها المراسل الاقتصادي لقناة «سي إن بي سي» عندما قال على الهواء مباشرة إن «خطة الحكومة لإنقاذ مالكي المنازل المتوقفين عن تسديد أقساط الرهون تعادل دفع كفالة لإطلاق سراح الفاشلين». منذ ذلك الحين و «الحزب» يحافظ على حيوية سياسية معتبرة، بل يراه البعض وجهاً جديداً للفكر الجمهوري التقليدي، إذ يطالب بخفض الإنفاق الحكومي، ويعارض زيادة الضرائب على المواطنين المقتدرين لمصلحة الفئات المهمّشة، كما يعانق تفسيراً «أصولياً» للدستور الأميركي. قد تختلف «احتلوا وول ستريت» عن «حزب الشاي» في أن شباب الأولى يبدون مؤمنين بأن الافتقار إلى العدالة الاقتصادية مردّه هيكلية تاريخية واجتماعية، فيما يحمّل مناصرو الثانية الفرد وحده مسؤولية النجاح والفشل. لكن الأرجح أن أوجه الشبه بين الحركتين أعمق من الاختلاف: فالاثنتان ما بعد حداثيتين، بمعنى أنهما تنشطان من دون قيادة مركزية معروفة، بل في إطار تجمّعات لقوى محلية تتعاون (وقد تتباين) في منصّاتها وأجندات عملها. والأهم أن الحركتين تتخذان مواقف أقرب إلى أن تكون إيديولوجية، إذ تنبع من افتراضات متجذّرة منذ خيضت «الحروب الثقافية» في الثمانينات والتسعينات، كالجدليات حول حضور الدين في الحياة العامة، وإشكاليات التعليم والفن، والنقاش الذي بدأ حول تاريخ الأمّة ولم ينته عند الحق في الإجهاض. وهي العناوين التي تُدين بصعودها إلى مرحلة الستينات، عندما كانت الولاياتالمتحدة، كدولة-أمّة، كمجتمع وسلطة معاً، تسعى إلى تركيب مفهومها الخاص عما يعنيه أن يكون المرء أميركياً. «احتلوا وول ستريت» تسعى أيضاً إلى الفهم، حتى وهي في خضم انشغالها بذاتها ومطالبها. بالأحرى، هي تختبر الحقوق المدنية الأميركية - التجمع السلمي والمحاسبة والمعارضة- التي لم تنضو في الدستور إلا بعد «ثورة» أشرس من ثورة «شارع المال». كأن «احتلوا» تمتحن نفسها أيضاً، تقيس قوتها في الإصرار وليس في المقاومة فحسب. في نهاية فيلم «V for Vendetta»، يسير آلاف اللندنيين المقنّعين بوجه غاي فوكس، إلى مبنى البرلمان، لمشاهدته يحترق كما وعد الثائر «V» قبل مقتله، فيما يقف الجيش على الحياد أمام تلك الثورة المدنية. وعلى خلفية مشهد الحريق، تُسأل فتاة الطبقة العاملة «إيفي»، التي آمنت ب«V» وساندته، عن الهوية الحقيقية للبطل المقنّع، فتجيب: «لقد كان نحن جميعاً». و«نحن ال99%» ما زالت تجترح خيالها.