بعد ثلاث سنوات على وجوده في رئاسة الوزراء، قال ارييل شارون مطلع شباط فبراير الجاري في مقابلة مع "هآرتس" نقيض موقفه السابق من موقع مستوطنات غزة في استراتيجية "الأمن ومواجهة الارهاب". واكد انه كلف مستشاريه درس اخلاء 7500 مستوطن يعيشون في 17 مستوطنة في قطاع غزة من أصل 21. وفي لقاءات مغلقة مع قادة في حزب "ليكود" ومحللين استراتيجيين، تحدث شارون عن "فصل من جانب واحد" يقوم على اساس فصل المناطق المعرفة في اتفاقات سابقة بمنطقة "C"، عن مناطق "A+B"، وضم الأولى الى اسرائيل، وترك الباقي لعرفات، أي الاحتفاظ بأكثر من 50 في المئة من أراضي الضفة الغربية. فهل فشل شارون في تحقيق ما تعهده، أي القضاء على الارهاب الفلسطيني من دون الانفصال، وقرر الفرار من مستوطنات غزة في ذروة الحرب؟ وهل نجحت "الانتفاضة المسلحة" و"العمليات الانتحارية" ونسبة تكاثر الفلسطينيين العالية في اجبار شارون على تغيير قناعته الايديولوجية واجبرته على التنازل عن أراض سماها "مهد اليهود" و"كنوزهم التاريخية"؟ أم أن أقواله تندرج في سياق مناورة سياسية كبرى هدفها تجاوز مصاعب سياسية وشخصية؟ وإذا كان لا تراجع عن الخطة كما قال ايهود اولمرت القائم بأعمال شارون خلال زيارته الخاطفة لواشنطن وبعدها فهل هو قادر على تنفيذها، أم ان قوى اليمين ستطيحه كما أطاحت نتانياهو من رئاسة الوزراء بعد اتفاق واي ريفر؟ وهل سيتم التنفيذ عبر عملية استلام وتسليم مباشرة مع الفلسطينيين أو بواسطة طرف ثالث، أم ينسف شارون مستوطنات غزة قبل الانسحاب منها كما فعل في مستوطنة ياميت في صحراء سيناء؟ هل يخليها من المدنيين ويحولها الى معسكرات بانتظار لحظة المساومة حول تعويض اللاجئين عن أملاكهم، أم يأمر الجيش بالانسحاب من القطاع تحت جنح الظلام كما فعل باراك في جنوبلبنان؟ اسئلة كثيرة أثارها تصريح شارون المفاجئ عن اخلاء مستوطنات قطاع غزة وسحب الجيش الاسرائيلي الى داخل اسرائيل، ويبدو لي ان الحصول على اجابات شافية للأسئلة لن يتحقق في وقت قريب. فمشروع شارون لا يزال في طور البلورة والتمحيص. وان طرح الفكرة في سياق مقابلة صحافية قبل مناقشتها داخل مؤسسات ليكود ومع قوى الائتلاف الحكومي، يشير الى ان صاحبها لا يفكر في بتّها والشروع في تنفيذها في وقت قريب. وحديث شارون عن استفتاء الاسرائيليين، وتكليف نائبه الوزير ايهود اولمرت ببحث الفكرة مع أركان الادارة الاميركية، يؤكد الاستنتاج بأن المشروع غير نهائي ويمر بمرحلة فحص أمني وسياسي وحزبي ومالي، وفي سياق عملية الفحص يمكن تعديله وتبديله وحتى الحاقه بجملة المشاريع الاسرائيلية والدولية الكثيرة التي طرحت لتسوية النزاع ولم تكتب لها الحياة، وكان آخرها وليس أولها ما طرح في مفاوضات كامب ديفيد وطابا في عهدي كلينتون وباراك، وفي وثيقة جنيف التي بلورها عبدربه وبيلين. وإذا كان تصريح شارون أحدث هزة أرضية قوية لا تزال تفاعلاتها جارية داخل المجتمع الاسرائيلي وفي ميدان السياسة الدولية وأرسلت ادارة بوش مبعوثين لفحصها والتدقيق فيها، فإن الفلسطينيين في الضفة والقطاع شعباً وسلطة ومعارضة، يشكّون في نيات شارون مثلهم مثل قوى حركة السلام الاسرائيلية وزعماء المعارضة بيريز وبيلين ويوسي سريد ويوري افنيري وعدد من اعضاء الكنيست وزعماء المنطقة المعنيين بحل نزاعاتها. وتجربة الفلسطينيين التاريخية مع هذا الرجل ومعها تجارب العرب، بدءاً من مجازر قبية عام 1948، مروراً بحرب اكتوبر 1973، والحرب على لبنان عام 1982 ومسؤوليته المباشرة عن مجازر صبرا وشاتيلا في تلك الحرب. وانتهاء بالجرائم التي يرتكبها الجيش الاسرائيلي يومياً بتعليمات منه ضد الفلسطينيين ارضاً وشعباً وممتلكات... الخ تدفعهم الى عدم تصديق أقواله المعلنة والتدقيق دائماً في نياته ومخططاته المضمرة ومحاولة التعرف سلفاً الى مكان وزمان جريمته الجديدة اللاحقة. الفلسطينيون مقتنعون بأن غريزة التوسع والاستيطان في الضفة وقطاع غزة والجولان قوية جداً عند شارون وتظل أقوى من غريزة حب السلام مع العرب شبه المفقودة عنده وعند حزبه وجمهوره. ويؤمنون بأن شارون لن يكرس سابقة في عهده تلحق ضرراً فاحشاً باستراتيجية اسرائيل التفاوضية مع سورية حول الانسحاب من الجولان ومن مزارع شبعا في جنوبلبنان. ولن يدخل في صدام مع حزبه ويقامر بمستقبله السياسي ويستعين بحزب العمل وميرتس في مواجهة حلفائه في اليمين، ولا يصدقون ان نبي الاستيطان يمكن ان يأمر بتدمير مستوطنات غزة التي رعى وجودها وشجع المستوطنين على التوسع في الاستيطان في كل مكان ودعاهم الى احتلال مزيد من التلال ومرتفعات الجبال. ومقتنعون بأن توافر قاعدة منطقية وتفسير سياسي ومبرر ديموغرافي محسوس للانسحاب من قطاع واخلاء مستوطناته لا يعني ان شارون سينفذ انسحاباً شاملاً من القطاع من جانب واحد مجاناً ومن دون ثمن أمني ومالي. وترى غالبية الفلسطينيين في تحرك شارون ورسله ومبعوثيه الى واشنطن وشتى أرجاء الأرض لتسويق المشروع، مناورة هدفها: القفز عن "خريطة الطريق" وتجاوز الحديث عن تنفيذ اسرائيل التزاماتها الواردة في الخريطة، خصوصاً اخلاء البؤر الاستيطانية غير القانونية عددها تجاوز المئة التي أقيمت بعد 28 ايلول سبتمبر 2000. وتشويش عمل محكمة العدل الدولية التي ستبحث أمر الجدار أواخر الشهر الجاري. وتدارك التآكل الحاصل في شعبيته على خلفية الفشل الأمني والفساد واشغال الرأي العام الاسرائيلي بقضايا جديدة غير قضايا تشجيع أولاده على استغلال موقعه وتلقي الرشوة. وايضاً محاولة جريئة لانتزاع موافقة اميركية على استكمال بناء الجدار وتوسيع مستوطنات الضفة وتمويل هذين المشروعين مالياً تحت شعار تغطية نفقات الانسحاب والتحضير لاستيعاب المستوطنين الذين سيتم ترحيلهم من قطاع غزة. الى ذلك، أظن ان شارون وأركانه خبراء الأمن ليسوا سذجاً، ويعرفون انه في عمليات الانسحاب العسكري والاخلاء من جانب واحد لا وجود لتنسيق وترتيبات أمنية مشتركة توفر النجاح المطلوب للعمليات. لقد جرب ايهود باراك وانسحب من جنوبلبنان من جانب واحد من دون تنسيق مع احد، وكانت النتيجة تعزيز مكانة حزب الله واستمرار النزاع حتى اللحظة. ويعرفون ان الانسحاب من قطاع غزة من جانب واحد ومن دون ترتيبات أمنية مسبقة يعني هزيمة صارخة لفكرة مواصلة استعمار الشعب الفلسطيني، وانتصاراً ساحقاً لأنصار العمل العسكري والعمليات الانتحارية في الجانب الفلسطيني، ويرسي أرضية خصبة لتحويل قطاع غزة الى قاعدة لعمليات عسكرية متطورة ضد القوات الاسرائيلية في مواقعها الجديدة واطلاق الصواريخ وقذائف الهاون على المدن الاسرائيلية المجاورة، وقد تجد اسرائيل نفسها مضطرة الى اعادة احتلال القطاع بسرعة. وإذا كان شارون عارض بقوة أي دور ميداني لطرف ثالث، ولا يزال يعارض الاستعانة بقوات اميركية أو دولية أو متعددة الجنسية للفصل بين الشعبين و"الدولتين"، ورفض زيادة عدد المراقبين المساعدين للمبعوث الاميركي جون وولف من اثني عشر مراقباً الى بضع عشرات، فليس عاقلاً من يصدق انه سيرحل من قطاع غزة في ليلة ظلماء ويترك الحدود المصرية - الفلسطينية من دون رقابة مشددة ويسلم المعابر للفلسطينيين. وهو الذي يؤمن بأن الرقابة الأمنية الاسرائيلية وحدها القادرة على منع الفلسطينيين من تهريب الأسلحة والمتفجرات. وبديهي القول بأن بقاء معبر رفح تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي ينسف جوهر فكرة الانسحاب من القطاع. وأظن ان شارون ليس في عجلة من أمره ولا يتعرض لأي ضغط جدي داخلي أو اقليمي أو دولي للانسحاب من قطاع غزة وتسليم المعابر والحدود مع مصر للفلسطينيين. ومن رفض تعزيز موقع أبو مازن في الحكم ولم يستجب لطلبه رفع الحصار عن عرفات واطلاق سراح معتقلين قياديين فلسطينيين ولم يخل بؤرة استيطانية واحدة "غير قانونية"، ولم يجد من يحاسبه، ليس مجبراً على مكافئة من يعتبرهم "ارهابيين" و"انتحاريين". الى ذلك كله، يواجه شارون الى جانب المعارضة الداخلية القوية صعوبات خارجية سياسية وعملية كبيرة: ليس عاقلاً من يتصور ان قيادة المنظمة والسلطة والمجلسين الوطني والتشريعي يمكنها قبول دولة فلسطينية في قطاع غزة ونصف الضفة الغربية والقدس ليست عاصمتها. لن يجد طرفا اقليمياً أو دولياً يوافق على صفقة تديم الصراع وتؤجج النزاع ولا تحله. لن يكون بمقدوره اقناع كل أطراف اللجنة الرباعية الدولية بأن مشروعه لا يتعارض مع "خريطة الطريق" ويسهل قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة والقطاع الى جانب دولة اسرائيل. ثم ان تنفيذ هكذا مشروع ضخم يحتاج مبالغ مالية كبيرة لبناء معسكرات جديدة للجيش المنسحب وتعويض المستوطنين عن أملاكهم ومزارعهم ومصانعهم "الثمينة"، لا يستطيع شارون توفيرها من خزينة حكومة دولة تعاني أزمة مالية خانقة. وعلى رغم الدعم غير المحدود الذي قدمته ادارة بوش لشارون وحكومته في السنوات الثلاث الماضية، إلا أنني أشك بأنها مستعدة للتجاوب مع طلبات شارون خصوصاً المالية قبل ظهور نتائج انتخابات الرئاسة المقررة في مطلع تشرين الثاني نوفمبر المقبل. خصوصاً اذا قرر شارون تنفيذ المشروع من جانب واحد وأصر على تطبيق الخريطة التي رسمها لمستقبل الضفة الغربية وحدود الدولة الفلسطينية. وبصرف النظر عن مصير مشروع اخلاء المستوطنات والانسحاب العسكري الكامل من قطاع غزة فإن طرح الفكرة من شارون يؤكد فشل رمز القوة والردع والعظمة الاسرائيلية في تركيع الشعب الفلسطيني، وتتضمن اعترافاً بفشل طائرات "اف 16" ودبابات الميركافا والسفن البحرية والاغتيالات والحواجز والاغلاقات ونسف المنازل وقطع الأشجار ومنع العمل وقطع الأرزاق في كسر شوكة الشعب الفلسطيني واجباره على رفع الراية البيضاء. واذا كان مشروع شارون لا يمثل أرضية صالحة للاتفاق مع الفلسطينيين، فالسؤال الجوهري المطروح على القيادة الفلسطينية: هل بإمكانها التعاطي مع أطروحة شارون وتحويلها من مناورة تكتيكية الى قيد وحركة سياسية باتجاه خلق سابقة في مجال إزالة الاستيطان وتحرير مزيد من الأراضي، أم ان التعاطي مع هكذا مسألة رجس من عمل الشيطان يرقى لمستوى ارتكاب الخيانة الوطنية؟ * كاتب فلسطيني، رام الله.