توجه رئيس الحكومة البريطانية توني بلير هذا الأسبوع إلى الشرق الأوسط متصوراً بأنه سيطلق استئناف مسيرة السلام الفلسطيني - الإسرائيلي الغارقة في الدماء طوال الأربع سنوات الماضية. لكن"مهمته"باءت بالفشل حتى قبل أن تبدأ. فمشروعه للدعوة إلى مؤتمر دولي في مطلع العام الجديد قوبل بدعم فاتر من جانب واشنطن وبرفض إسرائيل حضور المؤتمر. ومن هنا انخفضت رتبته فأصبح يدعى"اجتماعاً"بدلاً من مؤتمر، غايته البحث في الإصلاح والأمن والشؤون المالية في الجانب الفلسطيني. وأما المفاوضات السياسية مع إسرائيل فقد شطبت من جدول الأعمال. ويقول بلير أن هدف الاجتماع هو تزويد القيادة الفلسطينية الجديدة بتجهيزات وتقنيات حديثة تمكنها من رصد أي متفجرات قد تستخدم ضد إسرائيل... وهو يعتقد بأنه بهذا الدور البوليسي سيساعد الفلسطينيين ليصبحوا"شريكاً حقيقياً في السلام". لكنه لا يذكر شيئاً عن تحويل إسرائيل أيضاً إلى دور الشريك، وبذلك بدا بلير ضعيفا ومنحازاً في آن. وسائل الإعلام البريطانية تسمي بلير"رجل الإقناع السياسي"، فخطبه السياسية تبدو مخلصة كما هي الحال بالنسبة إلى التزامه جعل قضية السلام في الشرق الأوسط أولويته الشخصية. غير أن الوقائع البشعة على الأرض واختلال موازين القوى الذي أسهمت سياساته في صنعه - تتناقض مع نياته"الطيبة". ففي الساعات الثماني والأربعين التي أمضاها بين القدس ورام الله اكتشف بلير حقيقتين مؤسفتين. الأولى هي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون مهووس بخطته للانسحاب من غزة ومن أربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة الغربيةالمحتلة. ولن يلتزم الانسحاب شبراً واحداً فوق ذلك، فلا وضعه السياسي الداخلي ولا إيمانه الشخصي يسمحان بذلك. ويعتبر هذا الموقف صداً صريحاً لتوني بلير الذي وصف خطأ وبكل سذاجة مشروع الانسحاب من غزة كخطوة نحو تطبيق خارطة الطريق لتحقيق سلام شامل. والحقيقة الثانية هي أن يكتشف بلير بأن هدف شارون المحدود هذا هو عبارة عن أنباء سيئة جدا بالنسبة للزعيم الفلسطيني الجديد أبو مازن الذي يحاول إقناع الفصائل المناضلة بوضع حد للانتفاضة المسلحة. وسوف يتم انتخاب أبو مازن رئيسا للسلطة الفلسطينية يوم 9 كانون الثاني يناير المقبل، غير أن حكمه سيكون صعباً جداً - والأرجح أن يكون قصيراً - إذا لم تكف إسرائيل عن ممارساتها العنيفة ضد الفلسطينيين، وإذا استمر بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية كما تشير كل الدلائل إلى ذلك. هدف أبو مازن هو إقناع حماس وسواها من فصائل المقاومة بعقد هدنة مع إسرائيل كي يتاح له البدء بإعادة بناء قوى الأمن الفلسطينية وإجراء الإصلاحات الداخلية ووضع حد للفساد. وهو يعتقد بأن هذه الخطوات ستطمئن الرأي العام الإسرائيلي وتنال من الدعم الدولي ما يجبر شارون، أو خليفته، إلى العودة على مائدة المفاوضات. وأما إذا استمر شارون في قسوته وتصلبه فستصبح مهمة أبو مازن مستحيلة وسيفقد المقاتلون صبرهم ويستأنفون الهجمات ضد أهداف إسرائيلية. "زواج"شارون وبيريز والحاصل أن كلا الطرفين، شارون وأبو مازن، يواجه مشكلة ضيق مساحة المناورة. فالأول تنهال عليه الهجمات من الجناح اليميني المتطرف في حزب ليكود الذي يتزعمه ومن جانب المستوطنين الغاضبين الذين يصفونه بالخائن، وهم يهددون بالقيام بحملة عصيان مدني لإفشال الانسحاب من غزة. ويؤخذ تهديدهم هذا مأخذ الاهتمام الجدي من قبل قيادة الجيش والشرطة. ولكي يضمن الأكثرية في الكنيست للموافقة على الانسحاب من غزة عمد شارون إلى ضم حزب العمل بزعامة شمعون بيريز إلى حكومته. وليس هذا الاتفاق سوى"زواج مصلحة"لا"زواج حب". فشارون البالغ من العمر 78 سنة يريد البقاء رئيسا للحكومة في حين أن بيريز البالغ 81 سنة حريص على تذوق أخير للسلطة السياسية. وفي ما عدا هذين الاعتبارين الشخصيين فإن الرباط الوحيد الذي يجمعهما هو خطة الانسحاب من غزة. فكلاهما مقتنعان بأنه لا بد لإسرائيل من التخلص من عبء غزة وسكانها المعادين البالغ عددهم مليون وثلاثمئة ألف. ولكن ما أن يتم تحقيق ذلك ويتم سحب الثمانية آلاف مستوطن يهودي - وهذا ما ليس بالأمر السهل - حتى يختلف اتجاه أحدهما عن الآخر وينفرط عقد الائتلاف. فشارون يريد التخلص من غزة كي يحافظ على أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية، وأداته في ذلك هي ما سمي بالسياج الأمني الذي يتسلل في عمق الأراضي الفلسطينية، وتوسيع المستوطنات. وهو يحاول كسب الوقت فيرفض بتاتا أي تفاوض سياسي مع الفلسطينيين حول قضايا الوضع النهائي كالقدس واللاجئين وحدود إسرائيل النهائية. وهذا ما يفسر رفضه حضور"الاجتماع"الذي دعا إليه بلير في لندن والذي يعتبره شارون فخاً لجذبه إلى التفاوض، وإصراره على أن الانسحاب من غزة هو خطوة أحادية من جانب إسرائيل لا علاقة للفلسطينيين بها. أما بيريز فيريد الذهاب أبعد من ذلك ويرغب بمفاوضات مع الفلسطينيين تؤدي في النتيجة إلى انسحاب إسرائيلي كبير من الضفة الغربية. فالمستوطنات في رأيه لا تتلاءم مع السلام. ولكنه بوصفه براغماتياً محنكاً يعرف بأنه لا يمكن في الظرف الحاضر حمل أكثرية إسرائيلية على الموافقة على أي انسحاب آخر سوى من غزة. وهو قد صرح لصحيفة فرنسية هذا الأسبوع قائلاً"أفضل خطة هزيلة تدعمها الأكثرية على خطة رائعة من دون أكثرية تنفذها". لكن الواقع أن حزب العمل هو من الضعف بحيث لا يستطيع أن يصر على خطة سلام جدية مع الفلسطينيين. والحقائب الوزارية الثمانية التي نالها حزبه لا تتمتع بأي وزن سياسي يذكر. كل ما في الأمر أن بيريز يعزي نفسه بالقول إن الانسحاب من غزة هو خطوة تستحق بحد ذاتها التعاون مع شارون بصرف النظر عما إذا أدت إلى تحقيق أي شيء آخر. هل يتحول شارون إلى المسار السوري؟ ينتظر أن يستغرق الانسحاب من غزة فترة تمتد من تسعة أشهر إلى 12 شهرا، وما لم تقع مصادمات عنيفة مع المستوطنين الشرساء فإن الانسحاب سيتم بنهاية عام 2005. فماذا عسى شارون أن يفعل بعد ذلك إذ ليس في السياسة فترة توقف أو جمود. من الواضح أن علاقاته مع المستوطنين واليمين المتطرف سوف تكون من السوء بحيث لن تسمح له بالتفكير بأي انسحاب من الضفة الغربية مهما كان محدودا، حتى ولو خضع لضغط دولي شديد. لذلك فإن بعض المراقبين يعتقدون بأنه قد يوجه اهتمامه إلى المسار السوري. ?وهنالك نقاط عدة يمكن استخدامها لتأييد مثل هذا الاتجاه. الأولى هي أن المستوطنين في الجولان، ومعظمهم من مؤيدي حزب العمل، هم من عريكة أخرى ويختلفون تماماً عن المتعصبين من أنصار"إسرائيل الكبرى". ولذا فإن نقلهم من الجولان وإن لم يكن بالأمر السهل فإنه لن يكون بصعوبة اقتلاع المتطرفين من مستوطني الضفة الغربية. والنقطة الثانية هي أن كثيراً من الإسرائيليين يعتقدون بأن شارون قد فوت فرصة سانحة مهمة حين لم يتجاوب مع عروض السلام التي طرحها الرئيس السوري بشار الأسد. وكان اقتراحه باستئناف المفاوضات دون شروط مسبقة موضع ترحيب ودليلا على المرونة. ويعتقد الكثيرون في إسرائيل بأن شارون قد أخطأ في فرضه شروطاً تعجيزية، وقد لاقى موقفه المتصلب هذا دعما، كما هو الحال دائما، من قبل الرئيس بوش الذي وصف سورية بأنها دولة ضعيفة عليها أن تنتظر حتى يحين دورها بعد الانتهاء من معالجة القضية الفلسطينية. ولقد كان بإمكان شارون أن يقول أنه لا يمكنه البدء بالتفاوض قبل أن ينتهي من موضوع غزة، فما أن يتم الانسحاب حتى يستعد للتفاوض على الجولان. والنقطة الثالثة هي أنه قد يخطر ببال شارون أنه قد يحقق انتصاراً سياسياً بالتوصل إلى اتفاق أفضل مع السوريين من ذلك الذي كان في ذهن أسلافه المباشرين كاسحق رابين وشمعون بيريز وايهود باراك، وفشلوا جميعاً في تحقيقه. فإذا ما قضى شارون عام 2005 في الانسحاب من غزة، وعام 2006 في التفاوض مع سورية، فإن على الفلسطينيين عندئذ أن ينتظروا سنتين على الأقل قبل أن يأملوا بأي خطوة جديدة في الضفة الغربية. فهل في وسع أبو مازن أو أي زعيم آخر"معتدل"أن يصبر طوال هذا الوقت؟ أم أن رجال المقاومة يستنتجون كما هي الحال دائماً بأن إسرائيل لن تخضع إلا للقوة، فيعودون إلى إطلاق انتفاضة يائسة جديدة؟ كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.