يعمل المقاولون الاسرائيليون منذ بضعة شهور في بناء "سياج امني" بين اسرائيل والضفة الغربية، بأمل منع "المخربين" الفلسطينيين من التسلل الى اسرائيل. وأنجزوا حتى الآن اجزاء واسعة من هذا السياج في محيط مدينة "القدس الكبرى" وعلى امتداد الخط الاخضر الفاصل بين مناطق جنين وطولكرم وقلقيلية والمدن والقرى الاسرائيلية. وتجاوز السياج حدود عام 1948 المتعارف عليها، وظلت معتمدة دولياً حتى احتلال اسرائيل الضفة الغربية وسيناء والجولان عام 1967. وصادر الجيش الاسرائيلي، بناء على قرار شارون في عهد الشراكة مع حزب العمل، اكثر من 100 الف دونم من الاراضي الفلسطينية الزراعية من اجل بناء هذا السياج، وباتت مساحات اخرى واكثر من 33 بئر ماء مجهولة المصير بعد ان اصبحت خلف السياج. الى ذلك، يحتل موضوع الفصل بين الشعبين حيزاً مهماً في انتخابات الكنيست الاسرائيلية السادسة عشرة، ويعتبره معظم الاسرائيليين علاجاً شافياً لمعضلة امنهم الشخصي والجماعي، بعد ان لمسوا ان سياسة الاغتيال والقمع والتجويع وتدمير الممتلكات واعادة احتلال مدن الضفة الغربية، لم توقف "الارهاب الفلسطيني" ولم تمنع "الانتحاريين" من التسلل الى اسرائيل وتفجير انفسهم في قلب المدن الاسرائيلية الواقعة على الخط الاخضر والبعيدة عنه. وفي سياق حملته الانتخابية حول زعامة حزب العمل، اكد عميرام متسناع انه في حال فوزه برئاسة الوزراء سوف يأمر الجيش الاسرائيلي بالانسحاب فوراً من قطاع غزة واخلاء المستوطنات وفصل قطاع غزة عن اسرائيل على اساس حدود عام 1967 بصرف النظر عن الموقف الفلسطيني. وبشأن فصل الضفة عن اسرائيل طرح متسناع انه سيدخل في مفاوضات مع القيادة الفلسطينية بأمل تحقيق الفصل بين الشعبين باتفاق. ولم يشترط وقف "العنف" قبل دخول هذه المفاوضات. ورغم اعتباره عرفات عدواً الا انه لم يستبعد التفاوض معه باعتبار المفاوضات تتم بين الاعداء. وقال: "في حال عدم التوصل الى اتفاق في غضون عام، سيتم رسم حدود امنية موقتة بين اسرائيل والضفة الغربية لا يبقى شرقها اي مستوطنة ويكون جميع الكتل الاستيطانية الكبيرة غربها"، وكرر متسناع اقواله بعد فوزه بقيادة الحزب، ويبدو انه ماض في رفع راية الفصل بين الشعبين عالياً في حملته الانتخابية ضد اليمين الاسرائيلي بمختلف أطيافه السياسية والعقائدية. والاستعراض السريع لمشاريع الفصل المعروضة في "بازار" انتخابات 2003 يبين ان مشروع متسناع يختلف اختلافاً جوهرياً عن خطة شارون التي رسمها واعلنها في خطاب رسمي يوم 21 شباط فبراير 2002 ويعمل المقاولون ليل نهار على انجازها. ويتناقض موقف متسناع مع توجهات الاحزاب العنصرية امثال حزب "المفدال" والمستوطنون و"اسرائيل بيتنا" وحزب رحبعام زئيفي "تسومت" الذي اغتالته "الجبهة الشعبية"، وتسعى للفصل بين الشعبين بتهجير السكان الفلسطينيين ومصادرة ارضهم واستيطانها. والتدقيق في اطروحة متسناع يؤكد انها تستند الى افكار رابين وعناصر خطة "الانفصال باتفاق" التي طرحها حزب العمل في عهد باراك في مفاوضات كامب ديفيد في تموز يوليو عام 2000 ومحادثات طابا مطلع عام 2001، و"افكار الرئيس كلينتون" التي عرضها على الجانبين في واشنطن يوم 23/12/2000، التي اعتمدت من حيث المبدأ حدود الخامس من حزيران يونيو 1967، ومبدأ دولتين للشعبين "اسرائيل وفلسطين" قاعدة اساسية للفصل بين الشعبين. واقرت مبدئياً قيام "فلسطين" فوق 96 - 97 في المئة من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، ويتم تبادل النسبة الباقية 4 في المئة باتفاق بين الطرفين وحسب القيمة والمثل. اعتقد ان اطروحة متسناع ترسي اساساً واقعياً لانفصال الطرفين بالتراضي. ويسجل له انه طرح موقفاً جريئاً لم يطرحه زعيم اسرائيلي، خصوصاً حديثه عن الانسحاب الفوري من قطاع غزة من جانب واحد. واذا كان متسناع لا يملك قوة لتنفيذ خطته، وفوزه برئاسة الوزراء اواخر كانون الثاني يناير 2003 مستبعداً، فان خطة شارون الجاري تنفيذها تعقد الحل السياسي. خصوصاً ان الفلسطينيين عارضوها، وادانها مجلس الامن الدولي والجمعية العامة للامم المتحدة وتقوم على انقاض مفاوضات كامب ديفيد ومبادرة كلينتون ومحادثات طابا. ودراسات "لجان الفصل والعزل" التي شكلتها الحكومات الاسرائيلية السابقة، خصوصاً التي شكلت في عهد رابين وترأسها وزير الشرطة "شاحال" وضمت وزير المال "شوحاط" ومندوب عن هيئة الاركان العامة للجيش، قالت ان الفصل من جانب واحد عملية معقدة مع الضفة الغربية وكلفتها المالية باهظة وانجازها يتطلب وقتاً طويلاً. تقلص عمليات التسلل الى داخل اسرائيل لكنها لا تنهيها. ترفع نسبة الامن لكنها لا تحققه كاملاً ولا تقضي على العمليات الارهابية. واذا كان اركان المؤسسة السياسية الامنية المنتمون لليمين يرفضون استخلاص دروس التجربة، خصوصاً التي تتعارض مع قناعاتهم الايديولوجية المتطرفة، فان وقائع الحياة في عهد حكومة الاتحاد الوطني اكدت صحة استخلاص لجان الفصل الاسرائيلية السابقة. واثبتت فشل خطة شارون بن اليعيزر في توفير الامن للاسرائيليين، وانها اقرب الى مخرج وهمي يزيد في تدهور الوضع الامني عند الجانبين. واضطر الجيش الاسرائيلي اكثر من مرة الى اقتحام مناطق فلسطينية مأهولة في رفح وغزة وخان يونس ودير البلح رداً على عمليات خاصة نفذها فلسطينيون اخترقوا في بعضها سياجاً اقيم حول قطاع غزة منذ سنوات عدة، يشبه السياج الذي يعمل المقاولون على بنائه في الضفة. وفي بعضها الآخر استخدموا "صواريخ القسام" ومدافع هاون عيار 81 و82 ملم قصيرة المدى. الى ذلك، نجح "الانتحاريون" الفلسطينيون في 20 شهراً من حكم شارون في اختراق الجدار الامني المضروب حول مدينة القدس ومحافظات الضفة الغربيةمرات عدة وتجاوزوا اجراءات الجيش والشرطة وحرس الحدود. وتخطوا الحواجز والخنادق والاسلاك الشائكة، ووصلوا الى قلب المدن الاسرائيلية. وبدلاً من الاعتماد على السياج الامني الذي بناه، لجأ شارون الى احتلال جميع مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، ولا يزال الجيش الاسرائيلي منذ آذار مارس الماضي يحتل معظمها ويفرض طوقاً امنياً شاملاً عليها. وبديهي القول ان تداخل المستوطنات مع الاحياء العربية في مدينتي القدس والخليل يجعل "الفصل الامني" بين المستوطنات والاحياء العربية امراً اشبه بالمستحيل واذا كان شارون واركانه يرفضون من حيث المبدأ اخلاء اي مستوطنة صغيرة او كبيرة، ويرفضون فكرة فصل القدسالشرقية عن الغربية ولا يستطيعون لاعتبارات كثيرة، تطبيق سياسة التهجير الجماعي للعرب، فان وجود اكثر من 300 ألف فلسطيني ضمن نطاق "القدس الكبرى" يحمل معظمهم الجنسية الاسرائيلية كفيل بنسف خطة الفصل من دون اتفاق من اساسها. وخطة "غلاف القدس الكبرى" وحشد آلاف الجنود ورجال المخابرات واغلاق الشوارع بين شقي المدينة بالموانع والحواجز الثابتة والطيارة …الخ لم يمنع قوى فلسطينية من تنفيذ عمليات قتالية كبيرة في قلب القدس الغربية قتل فيها عدد عند ابواب البؤر الاستيطانية في القدس العربية عشرات الاسرائيليين. اعتقد ان هذه النواقص والثغرات وسواها ف خطة اقامة "سياج امني ومناطق عازلة" من جانب واحد، كافية لتحويل حلم شارون بتحقيق "الامن والسلام" الى وهم خادع. يشبه وهماً قديماً دام 20 عاماً بناه اركان المؤسسة السياسية والعسكرية والامنية الاسرائيلية على السياج الامني الذي اقاموه على حدود لبنان، وعلى المنطقة الامنية العازلة التي اقاموها في جنوبه وعينوا الجنرال انطوان لحد وقبله سعد حداد، اللذين طواهما النسيان، قائدين لها. واذا كان هدف شارون واركانه الامنيين والسياسيين غير المعلن، رسم خريطة الحل النهائي تحت ستار اقامة مناطق عازلة محاطة باسلاك شائكة، فهذا المشروع يقضي على فكرة السلام نهائياً، ويؤجج الصراع في المنطقة سنوات طويلة، ويعمق الكراهية ويوسع دائرة العنف الدموي على ارض فلسطين التاريخية. لا شك في ان موقف متسناع اتسم بالجرأة السياسية والوضوح ووضع الاصبع على الجرح وترحيب قواعد وكوادر حزب العمل بأطروحته حول الانفصال باتفاق، تؤكد ان نسبة ليست بسيطة في المجتمع الاسرائيلي لم تفقد البوصلة رغم نزيف عامين من الصراع الدامي. وانها لا تزال تؤمن ان بإمكان الطرفين حل نزاعهما التاريخي من دون الاعتماد على الراعي الاميركي، واذا كانت ادارة الرئيس بوش وباقي اعضا اللجنة الرباعية روسيا والاتحاد الاوروبي والامين العام للامم المتحدة لم يحددوا مواقفهم من خطة متسناع خشية اتهامهم بالتدخل في الانتخابات الاسرائيلية لمصلحة معسكر اليسار، فان اي مهندس موضوعي محايد يقرأ "خريطة" متسناع لحل الصراع "الجيوسياسي" حول الارض والقدس والحدود والمستوطنات والمياه وقيام الدولة الفلسطينية يستخلص ببساطة انها افضل واقل تعقيداً من "خريطة الطريق" الاميركية وتختصر زمن الحل وكلفة اقل. في كل الاحوال فرض متسناع نفسه كرجل سلام وخطته للفصل بين الشعبين تفرض على اطراف اللجنة الرباعية الدولية سحب خريطتهم من التداول او اعادة رسمها من جديد اذا تعذر عليهم اعتماد مقياس الرسم والالوان الواضحة والتواريخ المحددة التي اعتمدها. وشروع عدد من الكتّاب والمحلّلين الاسرائيليين في الحديث عن فشل نظرية الامن التي يتبناها شارون يعجل في كشف الحقيقة للجمهور الاسرائيلي والزمن كفيل بدفعهم نحو تبني اطروحة متسناع الواقعية. كاتب فلسطيني.