Alberto Granado. Travelling with Che Guevara. السفر مع تشي غيفارا. Pimlico, London. 2003. 215 pages. كان من الممكن أن ينتهي تشي غيفارا مثل صديقه مؤلف هذا الكتاب، البرتو غرانادو، عالماً وباحثاً صحياً، وعلى الأقل، حياً حتى اليوم. وهو كاد يفعل لولا الإرتجالية التي وسمت سلوكه وشكّلت حياته. فبعد تخرجه من كلية الطب، في آذار مارس 1953، توجه الى كاراكاس في فنزويلا لكي يلتحق بصديقه غرانادو الذي كان يعمل في مستشفى لمعالجة المصابين بالجذام. غير أنه، وفي منتصف الطريق، غيّر رأيه ووجهته مؤثراً الذهاب الى غواتيمالا حيث، على ما نصحه صديق منفيّ، ثمة ثورة إشتراكية تغلي هناك. ومن هناك شرع في الرحلة التي ستعيد إنتاجه على صورة أسطورة الثائر الكوني. غير أن هذه الرحلة سبقتها رحلة مبكرة أرهصت بذلك السلوك المفاجىء لرجل يتوق الى الرحيل دون الوصول، او يفضل الانتقال على الاستقرار. وقرار التحاقه بصديقه غرانادو لهو أصلاً حصيلة السلوك الإرتجالي الذي أدى الى أن يغيّر وجهته وهو في منتصف الرحلة الى فنزويلا. وكان غيفارا قرر قبل عام على ذلك الإنقطاع عن دراسة الطب، وهو على أهبة التخرّج، والقيام برحلة حول أميركا الجنوبية بصحبة غرانادو. وقد استغرقت الرحلة ستة أشهر، وامتدت ما بين قرطبة، في الأرجنتين، وكاراكاس في فنزويلا، وشملت الى جانب البلدين المذكورين تشيلي وبيرو وكولومبيا. وكما هو متوقع في مثل هذه الرحلات غير المضمونة للمغامرين، فإن الصدفة تلعب دوراً كبيراً، وفي أحيان عديدة، حاسماً، ما يجعلها تنطوي على قدر من الطرافة تشجع على تسجيلها فوراً، وروايتها لاحقاً. مثلاً، كان من المفترض أن تتم هذه الرحلة على دراجة نارية، غير أن دراجة غرانادو المنهكة لم تستطع إستيفاء طموحات الرحالين، فاضطرا الى تركها في وسط الطريق والإستعاضة عنها بأية واسطة للتحرك مستعدة لنقلهما على متنها. وكتاب البرتو غرانادو هو تسجيل لهذه الرحلة على شكل يوميات. وهي إذ تصدر اليوم، بالإنكليزية، فإنها تأتي كتتمة ليومات تشي غيفارا عن الرحلة نفسها. وكانت صدرت عام 1993، بالإسبانية، وأعيد اصدارها بالانكليزية بعد عامين على ذلك. وأيضاً، والأهم من ذلك ربما، أن صدور يوميات غرانادو يأتي عشية إنجاز فيلم "يوميات الدراجة النارية" المأخوذ عن كل من يوميات الرحّالين الشابين. وهذا من دون شك تدبير تجاري ناجح حيث يُصار إلى إصدار او إعادة اصدار الكتاب بعدما يُحوّل الى فيلم سينمائي، وفي سياق عملية تسويق مشتركة. غير أن تجاريّة التدبير ينبغي ألاّ تقلل من شأن زعم الكاتب بأن يومياته ليست محض تسجيل لرحلة فقط، وإنما أيضاً ل"منعطف حاسم" في حياة الشابين المغامرين، خاصة تشي غيفارا. وحقيقة أن غيفارا، أو بالأحرى "أسطورة تشي غيفارا"، تحولت الى موضوع صناعة معقولة، وإن صغيرة، ومن ثم إلى مشروع تجاري مستمر، لا تُبطل مصداق الزعم المذكور، وإن أغنته على صورة تبعث على السخرية، فقيل إن "الرأسمالية تسوّق تشي غيفارا!". على أن المنعطف الحاسم، وخلافاً لما يحسب المؤلف ويزعم، لا يتمثل في التعبير عن وعي بحقيقة الواقع السياسي في القارة الأميركية الجنوبية. فمثل هذا التعبير، سواء صدر عن المؤلف او عُزي مصدره الى غيفارا، يبدو مُقحماً على وقائع الرحلة، وعلى تسجيلها أيضاً. فما من أثر كبير في يوميات غيفارا نفسها، للأحكام السياسية التي يوردها غرانادو في يومياته، بما يشي بأنه قد أضافها لاحقاً. الى ذلك فإن هذه الأحكام من العشوائية والتبعثر ما يجعلها أشبه بأحكام طائشة وكليشيهات لا علاقة لها لا بالرحلة ولا بالنصّ. مثلاً، يصرّ الكاتب على ان ينبّهنا بأنه وغيفارا حكما بأن كل علاقة ما بين عامل وصاحب عمل، أو مزارع وصاحب حقل، لهي علاقة إستغلال آثمة، أو أنهما إكتشفا أن الفقراء والمعدمين هم أسخى من الأغنياء والميسورين، أو الى ما هنالك من أحكام وتصورات رومنطيقية وساذجة. ولا شك بأن الغاية من إيراد مثل هذه الآراء والتصورات فرض صلة ملموسة ما بين غيفارا خلال تلك الرحلة وسيرة غيفارا اللاحقة. فالتشديد على ملاحظة غيفارا الإستغلال الذي يقع الفلاحون التشيليون ضحيته، أو الظلم الذي يلحق بهنود البيرو، أو غيرهم من الجماعات الفقيرة والمهمشة إنما مصدره الصورة الرومنطيقية لغيفارا الثائر ضد قوى الإستغلال والإستعمار. وفي النهاية، فإن اليوميات لا تجد مبرراً لذاتها إلا من حيث سعيها لأن تكون شهادة مصادقة على الأسطورة الشائعة. ومع ذلك فإنها تبيّن، ومن حيث لا يدري المؤلف، بأن الرحلة كانت حاسمة لجهة تعيين أثر السلوك الارتجالي الذي تنم عنه عموماً، وفي ما يتصل ببعض ما يحدث خلالها. فهذه الرحلة لهي بمثابة إعراب عن السياسة التي آمن تشي غيفارا بها واتبعها. وشأن العديد من أصحاب وأتباع الحركات السياسية الجديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة اليسارية والطلابية منها، اتخذ تشي غيفارا الاحتجاج وسيلة سياسية ضد ما هو قائم. ولكن بما أن ما كان قائماً، وما يزال، من الرسوخ والشمولية، أمسى الاحتجاج سياسة بحد ذاته، ومن هنا الجاذبية المتصلة للأسطورة الغيفارية. والإحتجاج يكون أشد صدقية حينما يحصل على صورة ارتجالية، أي يكون أداءً مباشراً ضد ما يثير غضب المحتج وما لا يرضيه، وإنه بهذا المعنى أيضاً يمكن أن تكتسب الآراء والأحكام السياسية المتناثرة خلال الرحلة، والنص، أهميتها. فهي ليست وصفاً أو تحليلاً لواقع أميركا الجنوبية أثناء قيام غيفارا وغرانادو بتلك الرحلة، وإنما محض تعبير، هش وجاهز أحياناً، لكنه بمثابة تعبير إحتجاجي عما رأيا ولم يرضهما. وإنه لمن خلال هذا التعبير يتبيّن لنا بأن الاحتجاج الذي شاء غيفارا الانضواء فيه هو المسلح والعنفي. وفي غير مناسبة واحدة يسخر من أولئك الذين يشاركون في مسيرات سلمية: إنك لا يمكن أن تقوم بثورة في سبيل الحرية من دون أن تطلق رصاصة واحدة! يقول تشي لصديقه الديموقراطي الطموح. وإن في هذا التصريح ظل المستقبل الذي سيمضي تشي إليه فيؤدي الى مصرعه بعد ما لا يزيد على عقد ونصف العقد من رحلته المبكرة حول أميركا الجنوبية. ولكن يجب ألاّ نبالغ في قراءة الدلالات السياسية لهذه اليوميات، لا على الوجه الذي يعنيه المؤلف ولا على أي وجه آخر. فالسرد هنا لا ينجو من الإملال الناجم عن غياب مبرر الإقبال على قراءة يوميات كهذه. وهذه في النهاية ليست سجلاً لحركة غيفارا وإنما سرد لرحلة شابين شبه مفلسين، يحاولان الهرب من وتيرة السأم التي يحسان أن حياتهما سترسو عليه، أسوة بما جرى للعديد من الشبان ممن ينتمون الى بيئتهما وثقافتهما. لكن حيث أنها رحلة في بلاد شاسعة متعددة الثقافات والمناخات ويكتنفها من الصعوبات والمفاجآت ما يقلص حضور بطلينا ويعدم مواهبهما، لا يغير في هذا كونهما من المرونة ما قد يجعلهما قابلين لأن يكونا طبيبين مرة ومدرّبي فريق كرة قدم مرة أخرى ومرة ثالثة متطوعّين في فرقة الإطفائية. فهما كثيراً ما يتضاءلان في غمرة الحوادث، أو المشهد الطبيعي، موضوع الوصف، الى حد أننا نغفل عن حقيقة أننا نقرأ كتاباً عن تشي غيفارا، وهو السبب الوحيد الذي جعلنا نقرأ هذا الكتاب أصلاً. ومن يدري، فربما لو واصل تشي غيفارا تلك الرحلة الى كاراكاس في ذلك اليوم من عام 1953 والتحق بصديقه غرانادو، لكنا غفلنا عنهما في أي مقام آخر! سمير اليوسف