ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة يرحب باعتماد الجمعية العامة قرار سيادة الفلسطينيين على مواردهم الطبيعية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    هيئتا "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يدعو الدول الأعضاء إلى نشر مفهوم الحلال الأخضر    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    «خدعة» العملاء!    الخرائط الذهنية    جرائم بلا دماء !    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الحكم سلب فرحتنا    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    «السوق المالية»: تمكين مؤسسات السوق من فتح «الحسابات المجمعة» لعملائها    لماذا فاز ترمب؟    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    علاقات حسن الجوار    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    عاد هيرفي رينارد    الصين تتغلب على البحرين بهدف في الوقت القاتل    فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    القبض على (7) مخالفين في جازان لتهريبهم (126) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    هاتفياً.. ولي العهد ورئيس فرنسا يستعرضان تطورات الأوضاع الإقليمية وجهود تحقيق الأمن    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    انعقاد المؤتمر الصحفي للجمعية العمومية للاتحاد الدولي للخماسي الحديث    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    198 موقعاً أثرياً جديداً في السجل الوطني للآثار    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    أجواء شتوية    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أرنستو تشي غيفارا الذي لا يزال ... "آخر خبر في الراديوهات"
نشر في الحياة يوم 22 - 04 - 1999

في السنوات القليلة الماضية عاد ارنستو تشي غيفارا الى الواجهة عودة مظفرة. البعض قالوا ان المثالات التي قدمتها الرأسمالية "القائمة على النهب" هي التي تستحضر هذا المثال النقي، وتحمّله لشبيبة تبحث عن النقاء. أليس هو الذي قرف من المال وصكّه حين تولى ادارة البنك المركزي الكوبي؟ الرأسمالية بدورها ردت قائلةً: بل نحن المساعدون في استحضاره، فهو اليوم سلعة للبيع على القمصان والملصقات وفي الموسيقى. شركة اوليفيتي صاغت هذا الموقف في ملصق دعائي كُتب عليه: "كنا مستعدين لاستخدامه". لكن احدى الكنائس البريطانية حاولت بدورها استخدامه، فعممت صورة للمسيح تشبه صور الثائر الارجنتيني في محاولة لاستقطاب الشبيبة، وثارت ثائرة محافظي الكنيسة الذين قالوا ان يسوع هو المعيار الذي يقاس به جمال الآخرين وكمالهم! الحكومة الكوبية تدخلت قانونيا لمنع تسمية صنف جديد من البيرة الاوروبية "تشي". في اميركا اللاتينية رموز وايقونات لغيفارا، وفي السينما لعبه انطونيو بنديراس في فيلم "ايفيتا" الغنائي. صورته الشهيرة التي صوّره اياها البرتو كوردا، وعلى وجهه تعبير من التحدي الذي لا يهاود، غدا الملصق الذي يصاحب الشبيبة الستينية. الا انه مذّاك لم يفارق الشبيبة تماماً.
جون لي اندرسون، صاحب "حياة ثوري" غروف برس، يقرّبنا من حياة غيفارا اكثر، لكنه يقرّبنا خصوصاً من اسباب الاسطورة الغيفارية التي لا تزال تجعل صاحبها "آخر خبر في الراديوهات"، على ما كتب احمد فؤاد نجم بعيد مصرعه.
لكن لنعد الى المحطات الاساسية في سيرة ثقلت عليها الاسطورة حتى كادت تبتلعها: لقد انتمى "تشي"، الذي بدأ تمرده على طريقة جيمس دين، الى اسرة ايرلندية - اسبانية الاصول من الاريستوقراطية المفقرة في الارجنتين. وكان دائما موهوبا وذكيا و"ساحراً"، كما كان مشاغبا ومثيرا لاحزان آخرين وآخرات. واذا كان في وسع التحلل الاريستوقراطي ان يفاقم الميول التصعيدية، فان المرحلة التي ترافقت مع القمع الجنسي لدى غيفارا الشاب لم تطل. وهو، وعلى عكس ابناء العائلات المفقرة بعد عز، عبّر عن صراحة لافتة فيما خص الجسماني والليبيدي. لكنه، في هذا، كان ايضاً على عكس معظم الثوريين المعروفين. ذاك أن عائلته، ولو اصابها التفسخ، احتفظت بمناهضتها للنازية وللبيرونية في حقبة بدت فيها هذه المواقف مُكلفة لاصحابها الارجنتينيين. هنا نقع على خلفية تُحل غيفارا في خانة مغايرة للخانة التي يندرج فيها قادة التحرر الوطني في "العالم الثالث": فمعظم هؤلاء صدروا عن تعاطف مع الفاشية، كأحمد سوكارنو الاندونيسي الذي كان يقاوم الهولنديين، او، على الاقل، مع اشكال دولتية صارمة كجمال عبدالناصر المهجوس بطرد البريطانيين.
وعلى اية حال، كان لارنستو دور نشط، "بل مسرحي"، في العمل الشبابي والطلابي، فساعد اللاجئين الجمهوريين من اسبانيا، وتجرأ بوقاحة ملحوظة على الاساتذة الممالئين النازية. والراهن ان وطنيته جعلته يقف خطوةً وراء أهله. فهو، مثلاً، لم يكره بيرون كما كرهته عائلته لأن الزعيم الارجنتيني بدا له وطنياً ومعادياً لليانكي الاميركي. وكمعذّب بداء الربو، رفض الاقرار بتمكّن المرض منه، فغالبه بمزيد من الاهتمام برياضات الكمال الجسماني ورفع الاثقال، مبدياً حماسته لانواع الرياضات التي توحي السيطرة على الربو، بل اكتساب القوة او مظهرها. واغلب الظن ان هذا مما اسهم في تركيزه اللاحق على "الارادة"، على ما عهدناه سلوكياً في سياسيٍ كروزفلت، وفكرياً في فيلسوف كنيتشه. ولا يلبث غيفارا ان يقرر دراسة الطب، الامر الذي ستترتب عليه نتائج سياسية بارزة. فالخيار المذكور لم يعرّضه فقط للقاء أطباء اشتراكيين مهمين، بل منحه ايضا معرفة وتجربة مبكرتين في ما خص بؤس المنطقة اللاتينية. وجاءت رحلته حول القارة على دراجة نارية لتزيد هذه المعرفة وتعززها.
وبسهولة يمكن الانتباه الى الاثر الراديكالي الذي يخلّفه التمهين الطبي على الطلاب الشبان والمثاليين من ابناء الطبقات الوسطى في اميركا اللاتينية. فهم، بعد كل حساب، بؤرة محظوظة من السهل ان تؤرّقها مشاعر الذنب حيال محيط من الفلاحين المعدمين. وغيفارا تأثر كثيرا، خصوصا حين صادف طبيب الجذام البيروفي والماركسي الدكتور هوغو بيسكي الذي الف كتابا حول التخلف في جنوب القارة اللاتينية. فما ان انقضت عشر سنوات على اللقاء المذكور، حتى تلقى بيسكي نسخة مهداة اليه من كتاب تشي "حرب العصابات". ويُروى أن جون كينيدي كان احد القراء المبكرين لهذا الكتاب، اذ طلب من وكالة الاستخبارات المركزية سي. آي. إي ان تسارع الى ترجمته، ثم امر على ضوء ذلك بانشاء "الفرق الخاصة". وانفتح الطريق واسعاً الى أمميته تبعاً لمقدمات فعلية. فغيفارا، ذو الاصول المتداخلة، تزوج امرأة بيروفية واعطى اطفاله جنسية مكسيكية. وفي ما بعد اعطي الجنسية الكوبية التي تخلى عنها، ليموت في بلد تسمى باسم سيمون بوليفار، محرر البلدان الكثيرة في الجنوب. وكان اكثر شخصيات التاريخ الاسطوري قرباً اليه دون كيشوت، الشاعر المغامر وجوّاب الأرض الذي بلا جذور. فعاش هذا الحالم الذي اخترعه سرفنتس في عالم غير عالمه، وما كتب الا الخطأ حين كانت تأتيه الكتابة. والحال ان غيفارا قدم متأخرا الى الماركسية. وكانت حادثته المهمة والكبيرة ما حصل في غواتيمالا عام 1954 حين كان هو نفسه هناك. لقد تحول شاهدا عيانيا على قسوة السي. آي. أي وسينيكيتها لدى اطاحتها حكم جاكوبو أربنز المنتخب ديموقراطياً. والانقلاب هذا كثيراً ما حُبّرت فيه الصفحات، بما في ذلك تواطوء واشنطن والنتائج الكارثية على الغواتيماليين، ولكنْ خصوصاً على المتحدرين من سكان المايان المحليين. وهذه الآثار اعاد تسليط الضوء عليها مؤخراً كشف وثائق السي. آي. إي واعمال الحفر التي دلت الى وجود مقابر جماعية في ارياف المكسيك.
تلك كانت مرحلة الذروة في استخدام الانقلابات العسكرية ابان الحرب الباردة. قبل اشهر كان الجنرال الايراني زاهدي قد اطاح حكومة محمد مصدّق بدعم صريح من الوكالة نفسها. وفي هذه الاثناء، في كانون الاول ديسمبر 1953، وصل غيفارا الى غواتيمالا في نهاية رحلته الطويلة حول القارة. فحين حصل ما حصل قرر البقاء والتعامل بأقصى الجد مع تطور رآه ينطوي على ثورة حقيقية، وعلى ثورة مضادة لا تقل حقيقية.
وحدس غيفارا لم يخطىء. فانتخاب الاصلاحي والوطني اربنز اطلق وجهتين كان الاصلاحيون اكثر ما يخشون: رفع معنويات الفقراء والثوريين ورفع توقعاتهم، والشر الذي قد ترد به واشنطن. وقرر غيفارا ان يتقدم بشهاداته طالبا لنفسه عملا في غواتيمالا العسكرية كطبيب بين الفلاحين. لكنه وقد احبطه الجواب البيروقراطي، شرع، بقليل من الود وكثير من التردد في البداية، يُكثر مخالطته المتمردين الذين بلا دول والثوار الذين كانوا متجمّعين في غواتيمالا. وما هؤلاء غير عدد من المهزومين في معاركهم ضد سوموزا بنيكاراغوا، وضد تروهيللو بهايتي، وضد باتيستا بكوبا. يومها كتب غيفارا واصفا طريقه الى غواتيمالا: "على امتداد الطريق، سنحت لي فرصة المرور على ممتلكات شركة الفواكه المتحدة، ما اقنعني، مرةً اخرى، بكم هي مرعبةٌ تلك الاخطبوطات الرأسمالية. لقد اقسمت امام صورة للرفيق الكبير السن والمأسوف عليه ستالين، بانني لن ارتاح قبل ان اشهد استئصالها. في غواتيمالا سأستكمل ]بناء[ نفسي...".
حينذاك كان فيديل كاسترو يصارع الفشل، الا ان هجماته الاسطورية على ثكنات مونكادا في كوبا كانت قد جرت للتوّ. وكان يسود لقاءات الطبيب الشاب بالرفاق المنفيين، توقع محتّم للمواجهة المقبلة مع الشر الشمالي، اي الولايات المتحدة، والعوبتها ممثلة بديكتاتورية باتيستا. وبالفعل تبدي النصوص المتروكة اننا امام لينينية ابتدائية، لا يزيدها عنف التحدي الاميركي الا ابتدائية. فالاخوان، جون فوستر وآلان دالاس ومن لف لفهما في الخارجية والمخابرات، حينما اعتمدوا سياسة ضعضعة واسقاط نظام اربنز عن طريق الاعمال العسكرية، استدرجوا مساعدات من الجوار لم تتعفف عن تقديمها اوليغارشيات كالتي تربع في سدتها الجنرال سوموزا النيكاراغوي. وقد عثروا على دمية عسكرية تسمى كاستيللو ارماس وموّلوها، ليغزوا بهذه المرتزقة جميعاً غواتيمالا.
وشاهد غيفارا واصدقاؤه "الأمميون" هذا كله ينتابهم خليط من العار والميل الى الشك وعدم التصديق. وفي النهاية تأكدت لهم، في تجربة ملموسة وعيانية، تكهناتهم في صدد لا جدوى التغيير السلمي والتدرجي وهي التكهنات نفسها التي عادت، بعد عقدين، لتعززها تجربة مماثلة تعرضت لها تشيلي. الا انهم يومذاك بدوا عاجزين. اما الانقلابيون الذين بحثوا عن غيفارا فحملوه على اللجوء الى السفارة الارجنتينية، حيث قضى الكثير من وقته يائسا ومحبطا مع بعض رفاقه الذين صاروا، في العقود التالية، قادة لحركات مقاومة في السلفادور ونيكاراغوا وغواتيمالا نفسها. لقد راجعوا معاً دروس الهزيمة، وكان اهمها، كما اجمعوا، ان اربنز لم يوزع السلاح على السكان. يلي ذلك، في جدول الخطأ، رفضه التصدي لنشاطات السي. آي. إي عن طريق "تغلغلها" في الاعلام المحلي.
هكذا تُستبعد الحجة التي روّجها البعض من ان اميركا دفعت الثورة الكوبية دفعاً الى احضان موسكو. ذاك ان الثورة هذه، ومن غير اية تبرئة لواشنطن، كانت مسكونة بزخم معادٍ للأميركان أكبر كثيراً من التدرجية التي عبّر فيها عن نفسه. لقد كانت تجربة غواتيمالا اساسية في تشكيل تشي، لكنها كانت مباشرة وملموسة الى حد يستحيل معه التشكيك بصدق دروسها. والحال ان التجربة المذكورة هي ما نقل الطبيب الشاب من "اللعب بالثورة" الى "عدم قبول المزاح" في موضوع ستالين. انه سيعسكر نفسه مذّاك بكل العناد والاصرار المطلوبين في خانة "المعسكر الاشتراكي"، بادئاً بدراسة تعاليم الامين العام الذي كان توفي في 1953 وشرع يسقط من عليائه في بلده نفسه.
ويقرر غيفارا انه عثر على مهمة لحياته: ينبغي الثأر لغواتيمالا، ينبغي تدفيع الامبريالية مقابل ما فعلته بصلف وعنجهية. ويكتب الى صديق له رسالة معذّبة، يقول فيها ان حكومة اربنز سقطت تماما كما سقطت الجمهورية الاسبانية، مع فارق في درجة الشجاعة والشرف والكرامة. وهو ينفي الانتهاكات التي قامت بها القوات المغدورة الموالية لاربنز، مضيفاً: "كان ينبغي ان توجد فرق اعدام قليلة من نوع مختلف. فاعمال اطلاق النار تلك لو انها حصلت فعلا لاعطت الحكومة القدرة على معاودة الرد بالقوة". ومطروداً من غواتيمالا الى المكسيك يلتقي فيديل الذي سيصير، مذاك، قائده وزعيمه. وغيفارا لم يكن بحاجة الى اقناع بان اللقاء هذا كان مقدّراً حكماً. فهو كان يتابع دراسة مكثّفة للادبيات الشيوعية، ورأى في الحرب ضد باتيستا كما هندسها كاسترو، حالة نموذجية عن "كسب العقول والقلوب" وتحريك العواطف الشعبية. اما في واقع العنف ووقائعه، فبعض المخبرين والمنشقين والمنحرفين عن الثورة كان حكم الاعدام يُنفذ بهم للتوّ. وغيفارا لم يكن، في البداية، يُظهر اي استمتاع بهذا العمل. لقد سرّح احد مساعديه، وهو اميركي من المرتزقة الثوريين، يدعى هيرمان ماركس، بسبب رغبته السادية في القتل والانتقام وتنفيذ الاعدامات المباشرة. مع هذا فما ان وصل الى السلطة في هافانا وكلّفه كاسترو بمعاقبة وتطهير اجهزة سلطة باتيستا، حتى اقام سلطة ترتجل قراراتها بسرعة. لقد اقيمت تلك المحكمة في حصن لاكابانا البحري، واستعيد للعمل فيها ماركس نفسه كمنفّذ لأحكام الموت الفوري. وثمة اشارات عدة الى ان كاسترو كان، على الدوام، اشد رأفة من غيفارا الذي "يصفّي" و"يستأصل" بسرعة لا تُجارى. ولئن وُجد من دافع عن "محكمة الشعب" هذه بصفتها امراً عملياً لا مهرب منه، فان معظم المراسلين الاجانب الذين كانوا هناك هالتهم اعمالها فسجلوا قرفهم ودهشتهم، خصوصاً وأن الأحكام التي كانت تنفّذ في قاعة الرياضة الكبرى في هافانا، كانت تُمهر بأمر من كاسترو نفسه. وذهب شقيقه راؤول خطوة دموية ابعد من الاثنين اذ أمر برشّ سبعين سجيناً متهمين بالباتيستية وطمرهم في حفرة ما لبثت ان اتت عليها الجرّافات. ويبدو ان أصدقاءً لتشي وأقاربَ عاتبوه على هذا العنف المجرم، فكانت اجاباته ترتكز الى دفاعات ثلاثة: زعمه ان كل من أُعدم في كابانا تمكن من الدفاع عن نفسه، الشيء الذي كانت تفضحه سرعة التنفيذ. والثاني انه كان ممتلئاً قناعةً بأن اربنز لم يسقط الا لأنه لم يصفّ العناصر غير الموالية في القوات المسلحة، وهو الخطأ الذي اتاح ل سي. آي. إي ان تخترق النظام وتسقطه. والثالث، وهو عبارة قالها في لحظة سجال محتدم: "أنظر، في وضع كهذا، إما أن تقتل أولاً أو أن تُقتَل". هذه الوسائل لم يتم تقديمها كاجراءات اضطرارية، وبالطبع لم تترافق مع اي اعتذار. لقد قُدمت كوسائل ادارية في التعاطي مع المعارضة، ما يردنا الى سجال مبكر كانت اجرته الماركسية الالمانية روزا لوكسمبورغ مع اللينينية. والمثال اللوكسمبورغي هو ما استحضره غيفارا نفسه في مقابلة باهرة اجراها معه الاكاديمي الاشتراكي الاميركي موريس زيتلين في ايلول سبتمبر 1961. فقد دافع الوزير الشاب عن "الديموقراطية المركزية" في الحزب وحيّا بحماسة النموذج السوفياتي، فيما عارض بحزمٍ حق الاجنحة او المختلفين في ان تكون لهم آراؤهم، وان تعبر عن نفسها ولو داخل الاحزاب الشيوعية فقط. وحين سأله زيتلين عن تحذيرات لوكسمبورغ المبكرة، اجاب ببرودة ان الماركسية الالمانية الكبيرة ماتت "تبعاً لأخطائها السياسية"، فيما "الديموقراطية المركزية منهج في الحكم وليست فقط منهجاً في بلوغ السلطة". وكان هذا مجتمعاً ينم عن ان مواقفه الاستبدادية مواقف مبدئية، لا مجرد استجابة لاعتبارات "تكتيكية" حتى لو جازت هذه الحجة أصلاً.
بيد ان المحطة الاخيرة في حياة غيفارا كان محورها خلاصية ومسيحانية لا تكلان. انها لحظة الادراك "العظيم" ان حياته لا يمكن ان تكون في هذا العالم. فبعض اليساريين غير التقليديين الذين تعاطفوا مع الثورة الكوبية حينذاك، كانوا يحدوهم الامل بالعثور على نموذج اشتراكي غير سوفياتي. وقد رأى بعض هؤلاء في تشي بطلهم، وهم لم يكونوا، بمعنى ما، مخطئين. فغيفارا في جلسات الغرف المغلقة كان ينتقد الكتلة الشرقية من موقع اعتدالها! فهي، في طورها ما بعد الستاليني، غدت تتحدث عن "التعايش السلمي" مع الاميركان، ولا تلتزم الارثوذكسية المطلوبة في التطبيق الاشتراكي. وثمة اكثر من دليل على ان تشي كان متعاطفاً مع طروحات الماويين لا سيما في ما خص زحف الريف على المدن. فبموجب هذه النظرية التي طوّرها لين بياو، غدا المطروح على شعوب العالم الفلاحية ان تحاصر مدنه بقوة القوة والعدد. ولولا الصداقة، الوثيقة والملتبسة في آن، بين موسكو والأخوين كاسترو، لذهب غيفارا أبعد في التعبير عن هواه الصيني.
الشيء المؤكد انه جن جنونه من جراء التسوية التي عقدها خروتشوف مع كينيدي تلافياً لأزمة الصواريخ، كما عبر عن استيائه من برودة عواصم حلف وارسو حيال الثورة في العالم الثالث. وفي شباط فبراير 1965، وبينما كان يخاطب مؤتمر "التضامن الآفرو آسيوي" المنعقد في الجزائر، بلغ به الامر حد اتهام الكرملين ب"التواطوء مع الامبريالية". وهذا معطوفاً على الفوضى العارمة التي نجمت عن تسلمه وزارة الصناعة، جعله هدفا سهلا لبعض العناصر المناوئة له في الحزب الكوبي. فهؤلاء الذين "لا يجيدون الابتسام"، كانت تعابير "الرومنطيقية" و"المغامرة" في نظرهم صنواً للانحراف. وفي الاحوال كافة فما ان عاد من الجزائر حتى أُبعد عن الوزارة، وبعد فترة قصيرة شد الرحال الى افريقيا من دون اي هدف واضح او مهمة محددة. رومنطيقية غيفارا كانت عديمة النفع في وزارة الصناعة. ويتذكر ريمون ديمون، الاقتصادي والديموغرافي الفرنسي الماركسي، الذي نصح الثورة الكوبية آنذاك، قصة ذات دلالة. فقد وضع دراسة مطولة عن التعاونيات الزراعية، واخبر غيفارا بان العمال في مشاريع كهذه لا يشعرون على الاطلاق بانهم ملاكوها. وحين حاول ان يقنعه بأن يفكر بنظام من الحوافز لأولئك الذين يقومون باعمال اضافية وصعبة وذات نفع ومردود، رفض تشي الاستجابة كلياً، مطالباً في المقابل ب "نوع من الرؤية المثال للانسان الاشتراكي، الذي يبدو غريباً في النطاق المركنتيلي للأشياء، والذي يعمل للمجتمع وليس للربح". ويمضي ديمون: "كان ]غيفارا[ نقدياً جداً للنجاح الصناعي الذي احرزه الاتحاد السوفياتي، حيث ان كل شخص، كما قال، يعمل ويجهد ويحاول من اجل ان يتعدى حصته ويحرز مالا اكثر. انه لم يؤمن بان الانسان السوفياتي هو فعلا النوع الجديد من البشر اذ لم يجده مختلفاً، بحال من الاحوال، عن اليانكي. لقد رفض ان يشارك بارادته ووعيه في نشأة مجتمع اميركي ثان في كوبا". ومن الجدير بالملاحظة، هنا، ان الثائر الوزير لم يعرف المجتمع الاميركي فعلاً، فهو لم يزر الولايات المتحدة جديا الا كمتحدث في الامم المتحدة، كما انه لم يعبر عن اي فضول لمعرفتها. فلما سأله زيتلين: ما الذي تريد من الولايات المتحدة ان تفعله، جاء جوابه القاطع والخالي من كل تردد: أن تختفي!
اما في ما خص التشابه بين برنامج غيفارا الاسبارطي ومشاريع هيولية اخرى ك"القفزة الكبرى - الصينية - الى الامام"، فيبقى الملاحظ ان الرجل كان اول من يغمس يده في الوحل. كان حقاً يشتغل بيديه وبلا توقف، وكان يقدم على ممارسة النشاط اليدوي حتى لو لم تكن هناك كاميرات تنتظر وتلتقط الصور. وهو، فعلاً، لم يعبأ بالممتلكات المادية، كما رغب حقا في ان يشارك شعوب آسيا وافريقيا همومها ونضالاتها، هي التي كانت تثقل عليها ظروف الفقر مصحوبة بالحرب الباردة ومترتباتها في ادامة الاستبداد.
وفي المعنى هذا ترك فيه مصرع الكونغولي باتريس لومومبا اثراً شخصيا يداني ما تركته اطاحة اربنز. وهو لئن تعرف الى اللومومبي لوران كابيلا، فانه احتقره كما احتقر كثيرين من "الثوار الزائفين". فبالنسبة الى غيفارا، والى قلة نادرة من البشر في النهاية، لم تكن ثمة فجوة فعلية بين القناعة والممارسة، او بحسب ما قاله هو نفسه في ما اسمي شعراً: "ما هم ان نموت ما دام غيرنا يكمل الكفاح"!؟
وانتهت حياة غيفارا بتعاظم انهماكه وتراجع عائدات عمله. فعلى جبهة "الثورة العالمية" محض دعمه لعملية فدائية كارثية في موطنه الارجنتين، طُبّقت فيها نظرية "البؤرة" الكوبية كما نظّرها ريجيس دوبريه في "الثورة في الثورة". وقد افضت العملية الارجنتينية الى مقتل جميع المشاركين فيها ومعهم بعض المدنيين، ممهّدةً لبداية التناثر الفصائلي في السياسات الراديكالية للبلد المذكور. ومثل تروتسكي في منفاه، سُجّلت له بضعة آراء صائبة، غير ان الحلم ب"الأممية" الجديدة ظل يكتنف الحكمة ويمتصها. لقد كان تشي بين اوائل الذين ثمّنوا الاهمية المركزية لحرب فييتنام كموقع غدت فيه الامبراطورية الاميركية المكروهة عرضة للعطب، عسكرياً واخلاقياً ايضاً. الا ان خطابه الشهير عن الموضوع، حيث دعا الى تكرار التجربة الفييتنامية مثنى وثلاثاً في العالم، بدا طناناً وشعاراتياً على ما لا يزال يبدو عليه اليوم. ورقصت رحلته الى افريقيا لمقارعة موبوتو ومرتزقته البيض، وفتحاً لجبهة ثانية ضد التمييز العنصري والاستيطان الكولونيالي، على ايقاع اخلاقي وادقاع في الاعداد المادي. هناك تعرّض، في المعارك، لاذلال لم يعدله الا حجم الاحباط الذي تسبب به سقوط احمد بن بله في الجزائر وتغيير التانزانيين رأيهم في خصوص الثورة الافريقية العظمى. وبينما ركن غيفارا للدفاع عن آخر مواقعه على جزيرة تنجانيقا في 1965، فانه لم يحاول خداع نفسه: "مشهدٌ موحش، رزين وعديم المجد يتشكّل. كان علي ان ارفض الرجال الذين ناشدوني الانضمام. ليست هناك اية ذرة من العظمة في هذا التراجع، وليست هناك اية اشارة على عصيان... هناك فقط بعض النشيج...".
وفي افريقيا ساءت صحته كثيراً عشية عيد ميلاده الاربعين. وبدا من الواضح له ان ثمة فرصة وحيدة متبقية لتوجيه ضربة للامبريالية: انها بوليفيا التي كثيراً ما فكر سابقاً في التوجه اليها. فسلسلة جبالها لها امتدادات في بلدان لاتينية عدة، ما يعني ان العصابات اذ تعمل انطلاقا منها تستطيع التأثير في المنطقة برمتها. ولم يردعه ارتفاع البلد وعزلته وتخلف المنطقة، كما لم ينظر الى تلك المواصفات كعنصر سلبي الا بعد وقت طويل، علماً انه كان آنذاك شرع يفكر بميتة ملحمية يتحدى بها قوى الشر. وفي المقابل اعتبر شيوعيو بوليفيا ان ما يفعله هذا الوافد الثوري تدخل ارادوي في شؤونهم الداخلية، وكانوا في هذا محاطين بعاطفة موسكو وتأييدها. اما الشائعات القائلة ان كاسترو نفسه أسعده التخلص من رفيق مشاغب، فيصعب تأكيدها. والارجح ان القائد الكوبي احس، بالعكس، ان ثورة ناجحة في اميركا اللاتينية ستقوّي قبضته وقد تنهي عزلته وتبعيته. ولهذا حافظت هافانا، بالقدر الذي تمكنت فيه، على صلتها بحملة غيفارا النقّالة. في الاحوال كافة فان الفشل هو ما رسم صاحبه شهيداً ثورياً، وهو ما كانت كوبا دائماً في حاجة الى مثله. فمنذ 1968 واطفال البلد المذكور يلقَنون ان تشي موديلهم، تماما كما يلقن الكشافة أن بادن باول موديلهم. ورفع غيفارا الى هذا المصاف، على عكس انتقائه اختيارياً في سائر العالم، رسم لشبيبة كوبا معياراً زهدياً وصارماً بل موتياً يجعل تحمل اعباء الحياة الاشتراكية امراً بالغ البساطة والعادية. مع هذا فالتقديس ظل ثقيل الوطأة على اكتاف شبيبة بدأت تستهويها الحياة متعاً واستهلاكاً ورقصاً وحباً وموسيقى.
لقد القي القبض على غيفارا في الايام الاولى من تشرين الاول اكتوبر 1967، فقُتل بدم بارد كالدم الذي كان يقتل به. اما تلامذته الذين بقوا على قيد الحياة فنجحوا في الهرب، في حالة بائسة، عبر الحدود التشيلية حيث التقاهم طبيب مجهول منهم اسمه سلفادور اليندي فرتّب اقاماتهم. حقاً كانت ايام غيفارا الاخيرة مليئة ب"المجد والشجاعة"، مؤكدة بكل ملموسٍ ممكنٍ ان الرجل لم يكن مخادعاً. اخبار قتله كان لها اسهامها في تسخين الستينات، الا ان التسخين اتخذ الوان الستينات الكثيرة لا لون تشي وحده. فالمتعويون الطوباويون هم الذين احتضنوا ذكراه اكثر مما فعل الثوريون الانقياء، وفي هذا كمن المفتاح الاول لفهم سحره - السحر الذي عاش طويلا بعد رحيله ولا يزال: انه جمع المتعوية والفروسية وزمن الثورة في رزمة واحدة. ثم جاءت ميتته رومنسية، اذ قضى قبل انتصار مُثله، لكنه ايضا قضى قبل قضاء هذه المُثُل نفسها في زمن التراجع الايديولوجي. والفراغ الكبير الذي خلّفه الشاب الوسيم، والطبيب الانساني، وحبيب الفقراء، والجوّال، والصادق في ما آمن به، يفاقمه الديني والرؤيوي المقيم عميقاً في البشر، والذي يمثل تشي وجهه العلماني الماركسي في انصع اشكاله. لهذا آمن بعض فلاحي بوليفيا، ممن يحبون ايضاً دون كيشوتهم، بانه لم يمت. ولاكمال العناصر الدرامية المطلوبة قيل ان اصدقاءه في الثورة الكوبية خانوه. وفي النهاية مفهومٌ أن يظهر غيفارا في زمن تعمل فيه السي. اي. إي على اسقاط اربنز او مصدق. لكن مذاك تغيرت اميركا اللاتينية كثيراً، وانسحبت البرتغال من افريقيا، وسقط التمييز العنصري في جنوبها، وانتهت حرب فييتنام، وسقط شاه ايران وها هو بينوشيه ينتظر اللحظة الاسوأ. والمفارق ان بعض مشاكل عالمنا الراهن سببها، الى "اليانكي"، لوران كابيلا الذي ورث لومومبا، وميلوشيفيتش الذي ورث تيتو، والخمينية التي اسقطت الشاه، وصدام الذي حارب الرجعية، و... كاسترو. فغيفارا - ردة الفعل يقبله العقل تماماً، بيد ان تغير الازمنة يجعل غيفارا - المثال غير مقبول الا في الخرافة. لكن الزمن يتغير دائماً بأسرع مما يتغير الطلب على القديسين، وما المسافة بين الاخيرين والمحاربين المسكونين باليقين الا انملة.
* كاتب ومعلق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.