سجلت المفوضية العليا للانتخابات في العراق نحو مئتي "كيان سياسي"، يعتزم كل واحد منها خوض اول معركة انتخابية منذ نصف قرن. فآخر انتخابات تعددية شهدها العراق جرت عام 1954، في عز الحرب الباردة، اما بعدها فقد صامت الأمة عن القول طويلاً. وبين 1954 و2005 اكثر من مفارقة تاريخية. انتخابات 1954 شهدت انفراجاً نسبياً حمل الى البرلمان 13 معارضاً من اصل 134 نائباً. توالت الضغوط من الغرب، وبخاصة الولاياتالمتحدة، لحل البرلمان الذي انطوى على 10 في المئة من تحالف معارض قوامه ائتلاف اليسار الشعبي وقوى الطبقة الوسطى الصاعدة، على ضعفها. واليوم ثمة ضغوط قاعدية لاجراء الانتخابات في الموعد المقرر، بلا إرجاء ولا ابطاء. وتأتي الضغوط من مؤسسات اجتماعية نافذة المرجعية وسواها، كما تأتي من الولاياتالمتحدة، القوة الرئيسة في احتلال العراق. هاتان اللحظتان متنافرتان بكل المعاني. في الماضي بدت الديموقراطية، في حمأة الحرب الباردة، ترفاً. واليوم تقدم وكأنها الترياق الشافي. لا هذا ولا ذاك. ليست الديموقراطية، منذ ابتكارها الاغريقي، ترفاً بازاء النظم الاوليغاركية حكم القلة، او النظم الاوتوقراطية حكم الواحد. فهي، بهذه المقارنة، واجبة الوجود. انها ترياق للفكاك من احتكار حق الحكم، وتجاوز الواحدية الفارغة الا من نفسها. غير ان الديموقراطية الحديثة ليست البلسم السحري للعلل الاجتماعية. بل ان احتدام هذه الاخيرة من شأنه ان يوقع امماً بأسرها في فخاخ "المستبد العادل" او "الديكتاتور المنقذ"، خصوصاً اذا وصل الاحتدام حد الحرب الاهلية. ان الترتيب الديموقراطي في ذاته نظام اجرائي، قواعد لاختيار الحكم، والمساءلة، والتمحيص، وهو بهذا اداة لا غاية، وان تكن المطالبة به غاية بذاتها ان كان هذا النظام مغيّباً. ويمكن للقواعد الديموقراطية ان تنفتح، في عراق الساعة، على خيار اسلامي - شعبوي، على الغرار الايراني، او تقود، في تطرف آخر مفترض، الى خيار ليبرالي، او تؤدي الى تسويات وسطية وخيارات معتدلة اسلامية - ليبرالية، تجمع مثلاً اقتصاد السوق بدولة الرفاه، وترسي احتراماً للشريعة الاسلامية مقرونة بانفتاح حداثي محدود. هذا المزيج يقدمه لنا تاريخ أوروبا التي جرّبت موديلات سياسية - اقتصادية متنافرة، قامت في حدها الاقصى على دولة رفاه بلا ديموقراطية، او دولة ديموقراطية بلا رفاه، فانتهى التجريب الى المزج بين الاثنين تحت يافطة الوسطية، التي طورتها الاشتراكية الديموقراطية. الخيارات المذكورة آنفاً ما تزال كامنة في الحالة العراقية، وقد يتعسر خروجها. مرد ذلك ان الانتخابات المقبلة تقف في تضاد صارخ مع سلفها الخمسيني. فهي دستورية وليست برلمانية كالانتخابات الخمسينية، اي انها تشكل عودة الى 1925، تاريخ وضع أول دستور عراقي. ويمكن لنا ان نرى بعين الخيال الافتراضي ان مرحلة ما بعد الانتخابات، ستدور حول اربعة معالم اساسية، تكشف البعض منها خلال اشهر صياغة "نظام الادارة الانتقالي" مطلع هذا العام. المعلم الاول هو الخلاف الدائر حول قوام الدولة وبناها. هل تقوم هذه الدولة على مبدأ الاغلبية البسيط الذي ارساه منظر الثورة الدستورية الانكليزية - المكناة ب"الثورة المجيدة" جون لوك في اواخر القرن السابع عشر ام تقوم على مبدأ التوافق، وهو صيغة تطورت في القرن العشرين في دول متعددة الاثنيات والاديان؟ ولا نغالي اذا قلنا ان حل هذه المسألة الآن او في المستقبل، هو احد مفاتيح تطور او انكفاء النظام السياسي. اما المعلم الثاني في السجال الدستوري فهو الاختلاف على البنية الادارية للدولة، أتكون مركزية ام فيدرالية. وإن رسا القرار على الخيار الفيدرالي، فإن تحديد معنى الفيدرالية سيطل برأسه. ذلك ان للفيدرالية صيغتين، ومنشأين، المنشأ الأول سياسي، مفاده الموازنة بين صلاحيات المركز الحكومة المركزية او الفيدرالية وصلاحيات الاطراف الولايات، او الحكومات المحلية، ابتغاء درء التمركز الشديد للسلطة، ووضع قيود لاجمة لانفلاتها. هذا الشكل نما في المانيا على عهد بسمارك موحد الامة الالمانية، كما نما في الولاياتالمتحدة ابرز منظريه جيمس ماديسون، أحد أبرز مؤلفي "أوراق فيدرالية"، على اساس تقسيم اداري صرف. والمنشأ الثاني للفيدرالية إثني قومي يقوم على الموازنة بين القوميات المؤلفة للكيان الفيدرالي الاتحادي، ويتخذ حدود الكيانات الاثنية اساساً. وهنا تمتزج الاثنية بالأرض الاقليم، الرقعة الجغرافية امتزاجاً متفجراً يربأ بأي مساس بالطابع الديموغرافي للرقعة قيد النزاع. وقد تبلور هذا النمط في سويسرا والاتحاد السوفياتي على عهد لينين. وثمة في عراق اليوم هذان الأسلوبان في فهم الفيدرالية، الفهم الاثني، وهو الاسبق عهداً، والفهم السياسي - الاداري، وهو حديث العهد نسبياً. ولعل الاندفاعة نحو الفيدرالية الادارية تبرز على اشدها في الجنوب، وبالذات في البصرة، معبرة عن احتجاج عميق الجذور على اهمال مستديم لرفاه الجنوب برمته. المعلم الثالث للسجال الدستوري فقهي الطابع: هل يكون الاسلام، او بتحديد ادق الشريعة، المصدرالوحيد للتشريع، ام تكون مصدراً بين مصادر اخرى حسب منطوق الدستور الموافق. الخلاف حول هذه النقطة ايديولوجي - ثقافي، يرجع في اصوله الى نزعة "الاصالة" الثقافية المزعومة، التي تجاهر بها قوى اسلامية شتى، تنقسم اصلاً حول تحديد مدى الشريعة، كما تختلف حول مصادر الشريعة وتخومها، بين مناطق ثبات ومناطق فراغ. هناك خيارات عديدة في هذا الشأن، فإما قاعدة دستورية على الغرار الايراني او الغرار السلفي، تقسم العراق مذهبياً، او قاعدة علمانية خالصة، يصعب تحققها في التوازنات الراهنة، او، ولعل هذا هو الارجح، نوع من اسلمة معتدلة هي والعلمانية المعتدلة سواء. ثمة مشكلة في الخطاب الاسلامي ترى ان العلمانية نفي للدين واقصاء، بل تدمير والغاء. وهذه فكرة تخيلية عن العلمانية، مبنية على تأويل ايديولوجي مغلق. ولعل خير رد عليها دعوة رجل الدين التنويري اللبناني، حسن الأمين، داعية العلمانية المؤمنة. فالعلمانية عنده، كما عند مناشئها الاصلية، مستقاة من العالم ومن العلم. وهي ترى الى امور العالم مقسمة على الاختصاص، طباً، وهندسة، واقتصاداً، وملاحة، وتقنيات، وهلمجرا. فآجر الجوامع من هذا العالم، شأنه شأن ورق الكتابة والحبر مما تدوّن به النصوص المقدسة. ولا يعالج اقتصاد الأمم في المراقد المقدسة، بل في مكاتب التكنوقراط، شأنه شأن امور التكنولوجيا، حرباً أم سلماً. اخيراً ثمة دائرة رابعة للخلاف على الأسس الاقتصادية للدولة والمجتمع، بين نزعة اقتصاد السوق المنفلتة، ونزعة الاقتصاد الأوامري. وهذه وغيرها من دوائر الخلاف والاختلاف مبدأ الاغلبية مقابل التوافقية، ومبدأ المركزية مقابل اللامركزية، ومبدأ الشريعة المطلقة مقابل العلمانية، واقتصاد السوق مقابل اقتصاد الدولة تدور اليوم في ظل تحول كامل في الحقل السياسي انتقل فيه جل الحركات من العمل والتنظيم على اساس ايديولوجيا الى اعتماد الهويات المحلية. وهذه الاخيرة شديدة التنوع، هويات تقوم على الدين، او الاثنية، او المذهب، او عصبية المدينة، او القبيلة، او حتى الأسرة، في تشظٍ لا سابق له. كانت خطوط الانقسام المحلية هذه كامنة تحت السطح، مخفية بدثار سميك من التزييف الجمعي المنظم، غير انها تعمّقت بفعل الاحتكار الآحادي لسلطة دولة مشرهة تجمع الهيمنة الاقتصادية بالهيمنة السياسية والثقافية. ولعل وجود مئتي كيان يشي، بذاته، برغبة جامحة في الفكاك من أسر الدولة الاحتكارية، حتى لو كان ذلك على مستوى التخيّل المحض.