رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    وزير الموارد البشرية: 5% مستهدف البطالة بحلول 2030    السواحه: 15% مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي    وزير الرياضة : 80 فعالية عالمية زارها أكثر من 2.5 مليون سائح    البنيان: رصدنا أكثر من 166 مشروعا تعليميا في 2025    "أنا المدينة".. تجربة واقع افتراضي تنقل الزوار إلى العهد النبوي    نائب أمير الشرقية يستقبل جمعية"ترابط" ويرأس اجتماع مجلس إدارة هيئة تطوير الأحساء    الكهموس: المملكة جعلت مكافحة الفساد ركيزة أساسية لتحقيق رؤية 2030    وزير الطاقة يعقد اجتماعًا ثلاثيًا مع نائب رئيس الوزراء الروسي ووزير الطاقة الكازاخستاني    المملكة ضيف شرف لمنطقة الشرق الأوسط في معرض «أرتيجانو إن فييرا» بإيطاليا    نائب وزير الصحة يستعرض إنجازات "مستشفى صحة الافتراضي" ضمن ملتقى ميزانية 2025    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    "سلمان للإغاثة" يوقع اتفاقية لتشغيل مركز الأطراف الصناعية في مأرب    شراكة تعاونية بين جمعية البر بأبها والجمعية السعودية للفصام (احتواء)    توقيع مذكرة لجامعة الملك خالد ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    السفير الجميع يقدم أوراق اعتماده لرئيس إيرلندا    محفظة التصدير تتجاوز 30 مليار ريال وتقديرات الثروات التعدينية ترتفع إلى 2.5 تريليون ريال    المملكة تشارك في اجتماعات الدورة ال29 لمؤتمر الدول الأطراف لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي    هدنة لبنان.. انسحابات وإعادة انتشار    انتقادات من جيسوس للتحكيم بعد مواجهة السد    الأونروا تحذّر من وصول الجوع إلى مستويات حرجة في غزة    بدء تشغيل الخطوط الجوية الفرنسية Transavia France برحلات منتظمة بين السعودية وفرنسا    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    استقرار الدولار الأمريكي قبيل صدور بيانات التضخم    الأمم المتحدة تدعو إلى تحرك دولي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني    عامان للتجربة.. 8 شروط للتعيين في وظائف «معلم ممارس» و«مساعد معلم»    الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    وصول الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    هؤلاء هم المرجفون    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين يبتعد رجال الدين عن السياسة توضع الحكومات موضع النقد لا التنزيه (1 من 2)
نشر في الحياة يوم 20 - 07 - 2010

خلال السنوات الأولى من عهد ما بعد صدّام، كان الأمر الوحيد الأسوأ من سياسات الاحتلال السيّئة، هو التعجّل في تنفيذها. مثل تسرّع سلطة الاحتلال في إقامة «ديموقراطية».
كانت تعتور هذه الخطة نواقص خطيرة منها أن دافعها الرئيسي لم يكن ترسيخ الدولة العراقية وتوسيع المشاركة السياسية، بل كان الدافع استرضاء الرأي العام العالمي، والغربي بخاصة، وتبرير الغزو على أساس أن الشعب العراقي صار بوسعه الآن أن يدلي بصوته في صناديق الاقتراع، ويتولّى قيادته مسؤولون منتخبون. هذه الديموقراطية الزائفة التي رُكّبت في شكل مصطنع وقامت على فوارق طائفية وعلى دستور تشوبه النواقص، وعلى انتخابات سابقة لأوانها، جعلت من المستحيل على العراق بلوغ هدفه في إقامة نظام سياسي عادل ومستقر. وباختصار، فإن النظام العاجز الحالي الذي أقيم على مبادئ مشكوك في صحتها، وعلى أساس مهزوز، سيؤدي في النهاية إلى عدم وجود ديموقراطية.
إن المهمة الأصلية لتحويل دولة ما بعد شمولية إلى دولة حرة، قد أصبحت الآن مهمة لا سابق لها، فكيف يتم اليوم تحويل دولة فاشلة مزّقتها حرب أهلية إلى ديموقراطية حقيقية، في مواجهة عداء شديد من جماعات مسلحة ذات ميول انفصالية وغيرها من الأشقياء الذين يعملون على تفكيك الدولة - الأمة؟ إن سلطات الاحتلال باستعجالها بناء ما أرادته من ديموقراطية واثقة، أتاحت المجال للتلاعب بقانون الانتخابات وبالدستور من جانب متطرفين طائفيين ظهروا بصفتهم زعماء جدداً، لا كفاءة لهم، في حكومة المنطقة الخضراء. هذه التمثيلية السياسية أدّت إلى نظام يشلّه الفساد وعاجز عن مدّ سلطته خارج أرض القلعة التي تؤوي مجمعه من الدوائر وغيرها.
هذا كله أمر يؤسف له كل الأسف، لكن الماضي لا يمكن تغييره. لذا سأقوم بطرح آمالي عن وضع العراق في إزالة هذا الخراب الشنيع الحاصل، وفي بناء ديموقراطية حقيقية لعراق الغد القويّ الموحّد.
النظام السياسي في العراق الجديد ينبغي أن يقوم على مبادئ اختبرها الزمن، وكان عدد منها قد جُرّب في تنظيم الحياة السياسية للبلاد خلال النظام الملكي الدستوري الذي كان سائداً في فترة سابقة. وما سأذكره من الخطوط المرشدة يمكن أن يقدّم قاعدة صلبة تقام عليها ديموقراطية حقيقية في العراق يحققها زعماء المستقبل فيه، وهذا هدف أعتقد أنه لا يزال ممكن التحقيق. لقد آن الأوان للإفادة من بعض دروس الماضي.
فصل الدين عن الدولة
إن تحقيق ديموقراطية حقّة وازدهار كبير في العراق يتطلّب، في رأيي، إقامة دولة علمانية يُفصل فيها بين الدين والدولة فصلاً واضحاً. إن «الثيوقراطية» و «الديموقراطية» متناقضتان، أما العلاقة الحالية بين الدين والسياسة في العراق فهي علاقة تعطي عكس النتائج المطلوبة. ومن أسباب ذلك أن الدستور الجديد ينصّ على أن الشريعة الإسلامية يجب أن تعتبر أحد مصادر التشريع. وفي ظلّ هذا النظام استطاع الزعماء الدينيون أن يرتقوا بأنفسهم ليصبحوا عاملين سياسيين أقوياء، وترأس بعضهم مجموعات من المتمرّدين وكذلك أحزاباً سياسية. وأرى أن هذا الوضع غير صحيح، فالدستور ينبغي أن لا يمكّن ديناً معيّناً من الاستحواذ على السلطة، كما يجب أن يمنع زعماء الجماعات الدينية من النشاط السياسي.
الدين يقوم على الإيمان، ورسالته مقدسة وسامية ومطلقة وهي تقوم على كلمة الله، لذلك لا يمكن التساهل فيها. أما علماء الدين فهم أفراد يستحقون كل الاحترام والطاعة، ومهمتهم هي إرشاد أتباعهم وحضّهم على الانصياع لتعاليم دينهم والبقاء على أعلى المستويات الأخلاقية، والغرض من وجودهم هو مساعدة إخوانهم في الدين على تحقيق احتياجاتهم الروحية والتزاماتهم الدينية. ولكي يكونوا قادرين على أداء هذه الواجبات يجب أن يكرّس الزعماء الدينيون أنفسهم للدراسة المستمرّة والعبادة ومتابعة العلوم الدينية. ولما كان الزعماء الدينيون معروفين بالتزمّت فعليهم أن يوفّقوا بين أحكامهم وما يفسّرونه باعتباره إرادة الله، وليس لهم أن يسمحوا بالمرونة والاستقلالية.
من جهة أخرى فإن الحكومة هي هيئة لتقديم الخدمات العامة، وهي في النظام الديموقراطي تخضع للنقد والخلاف والنقاش والتغيير. والحكومات تقوم بعملها تحت رحمة الناخبين الذين قد يعبّرون عن عدم رضاهم عنها من طريق صناديق الاقتراع. كما أن عليها أن تكون وسيطاً بين مطالب الجماعات المختلفة في المجتمع.
إن دولة علمانية في العراق الجديد تحتوي على مجموعتين من حقوق الأفراد، حق العبادة بحرية والحق الآخر في اختيار الحكومة على أساس حاجات البلاد كما يراها هؤلاء الأفراد وعلى أساس مؤهلات المرشحين للعمل فيها. وباختصار، يجب أن يكون الفرد مخوّلاً ممارسة حقوق مواطنَته من جهة وتلبية حاجاته الروحية بحرية من جهة أخرى. ولا ينبغي للزعماء الدينيين أن يشاركوا في العمل السياسي، كما ينبغي للدولة ألاّ تساند ديانة معيّنة دون أخرى، أو طائفة معيّنة دون أخرى.
ثمة سبب آخر لجعل الدين منفصلاً عن العمل السياسي في الأداء الاقتصادي. ذلك أن نمواً اقتصادياً كبيراً سيكون من الأمور الضرورية لمستقبل العراق، وفي اعتقادي أن الإدارة الاقتصادية السليمة تتطلب قيادة مؤهلة ذات كفاءة. أما علماء الدين فهم مدرّبون أحسن تدريب في حقل اختصاصهم، ولكن هذا لا يؤهلهم لإدارة اقتصاد حر عصري أو لوضع برامج اجتماعية. وتحدث في الأقطار أبشع المشاهد عندما يُستخدم الدين للتأثير في السياسة الحكومية، الأمر الذي يؤدي إلى قيام رجال الدين بالتنافس في ما بينهم من أجل النفوذ والسلطة. إن مثل هؤلاء المتطفلين على العمل السياسي إنما يتجاهلون رسالتهم الروحانية للانهماك في الخصومات وفي التسابق على المناصب السياسية، وبذلك يسهمون في تفاقم النزاعات بين أتباع المذاهب الدينية المختلفة. ثم إن المؤسسات السياسية الخاضعة للسيطرة الدينية يعتريها الخلل في أداء وظائفها وتصبح غير قادرة على الاستجابة وغير مرنة.
هناك من الناحية التأريخية أمثلة كثيرة من أنحاء العالم تدل على أن مزج الدين بالحكم يؤدي إلى الاضطراب والتفكك والاضطهاد. فالدين يفقد مقامه حين تكون له صلة بالسلطة، والسلطة تتشوه حين تكون متأثرة برجال الدين. وفي مثل هذه الظروف ثمة مخاطرة بأن يُعزى فشل رجال الدين إلى الدين نفسه. إن أي عالم من علماء الدين ينبغي أن يكون مترفعاً وأن يكون حصيناً إزاء توجيه اللوم إلى رسالته النبيلة.
ومن الجدير بالذكر أن إبراهيم يزدي، المسلم الملتزم من أتباع آية الله الخميني، والذي تبعه إلى منفاه في باريس، ثم كان أول وزير للخارجية في الحكومة التي تشكلت بعد الثورة إثر سقوط الشاه في إيران في عام 1979، قال بعد مرور ثلاثين سنة على ذلك ما يلي: «إن المؤسسة الدينية قد ارتكبت خطأً تاريخياً حينما تدخلت في السياسة، الأمر الذي جعل الناس اليوم يلومون علماء الدين على أخطاء الحكومة».
الفصل بين الدولة والدين ينبغي ألا ينطوي على عداء بينهما. فهذا الفصل هو وسيلة لحماية الاستقلال والنزاهة لكلٍ منهما. وهناك الملايين من المسلمين المؤمنين في العالم الذين يقبلون هذا الفصل ويتمتعون بمنافعه. فمثلاً يعيش ملايين المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية ويقدّمون البرهان الملموس على القدرة على تحقيق مستوى حياة أعلى في مجتمعات يتعايش فيها الدين والدولة في شكل منفصل أحدهما عن الآخر. كما أن هناك دولاً إسلامية معينة مثل أندونيسيا فيها أكبر عدد من المسلمين في دولة واحدة، ينفّذ فيها الفصل بين الدولة والدين منذ عقود من الزمن. وفي الهند أكثر من مئة وسبعين مليون مسلم يعيشون في ظل نظام ديموقراطي ويتمتعون بالحرية في ممارسة ديانتهم، كما أنهم يدلون بأصواتهم في شكل منفصل عن الدين لتحديد خياراتهم السياسية. أما في تركيا فهناك أكثر من سبعين مليون مسلم ولعلّها أجلى مثل لدولة علمانية تُميّز بين تلبية الحاجات الروحانية وممارسة حقوق المواطنة. الدستور العراقي الذي سيُسنّ في المستقبل يجب ألا يشير إلى الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع، وأن يمنع رجال الدين من تولي المناصب السياسية.
الدولة بصفتها الضامن لحقوق الأفراد
من التحديات العظمى التي تواجه العراق اليوم إقناع مواطنيه بأن الدولة تمنحهم حقوقهم الكاملة وتحمي هذه الحقوق في الوقت عينه. ولم يكن من المستغرب في عهد نظام البعث الاستبدادي أن يكون العراقيون خائفين من الحكومة فكانوا لذلك يتطلعون إلى زعمائهم الدينيين والقوميين والعشائريين طلباً لحمايتهم ولتلبية حاجاتهم الاجتماعية والاقتصادية. لذا فإن إنشاء مجتمع مدني جديد يصون حقوق الأفراد إنما يتطلب جهداً كبيراً لبناء الثقة لدى الناس. ومن دون وجود بيئة تضمن حقوق الفرد من غير المحتمل أن يتخلى العراقيون عن هوياتهم الطائفية. ويجب أن يشعر الشعب في عراق موحّد جديد بأن له حقوقاً متساوية بصرف النظر عن الجنس أو الطائفة أو الرأي أو المعتقد أو العرق أو الدين أو الأصل. ويجب أن يكون الناس متساوين أمام القانون لكل فرد منهم الحق في الحياة والحرية والأمن والفرص المتساوية. كما أن حرية الفكر والضمير والعقيدة الدينية لا يمكن المساس بها على الإطلاق. ثم إن حق الفرد في الأمن والتعليم والرعاية الصحية والرفاه الاجتماعي يجب أن يكون حقاً مضموناً ودائماً.
وإذا كانت حقوق الفرد مضمونة للجميع فإن طلب الحماية من هذه الجهة أو تلك، سواء كان على أساس العرق أو العشيرة أو الدين، لن يكون طلباً غير ضروري فقط بل سيعطي نتائج عكسية. إن مثل هذه الحماية تثير الفرقة كما أنها غير ديموقراطية بالتأكيد. والمساواة في الحقوق وفي الفرص يجب أن تكون من حق المواطنين جميعاً بلا استثناء. إن عراقاً يقوم على الحرية والمساواة يمكن أن يوحد شعباً من خلفيات عرقية ودينية مختلفة.
إن حياكة نسيج العراق الجديد في الشكل الذي يرغب فيه الكثيرون منا أمر سيأخذ وقتاً طويلاً. وما ورد في دستور 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2005 من تأكيد الفوارق الإثنية والقومية والدينية أمر لا يبشر بالخير، وقد وضع البلاد على درب الانقسام والخصام وليس على درب الوحدة والسلام.
حكومة محدودة ومستجيبة
إن العراق، بعد خمس وأربعين سنة من الدكتاتورية وخمس سنوات من الاحتلال الأجنبي الذي جاء بالويلات، يحتاج إلى مرحلة انتقالية طويلة لكي يحقق الأمن والاستقرار ولكي يؤسس للبلاد من جديد وحدتها الوطنية وهويتها القومية. ثم إن الحكومة الانتقالية في حاجة إلى رئيس حازم وقادر على الجمع بين القيادة والنزاهة والرؤية والكفاءة والإخلاص. ولا يمكن القول إن العثور على مثل هذا الرجل هو من الصعوبة بمكان، إذا توافرت النية الصادقة في البحث عنه. ونظراً إلى حجم السكان في العراق وتنوعه وخلفيته الوافرة. وبالنظر إلى غيابي عن العراق مدة أربعين سنة فإني لست مؤهلاً لذكر أي اسم من الأسماء في هذا الصدد. لكني من جهة أخرى لا أرغب في التأكيد أن يُفسّر كلامي هذا بأنني أعني أن على الأميركيين أن يعثروا على هذا الزعيم. إن هدفي هو التنبيه إلى الحاجة الملحة الآن إلى بروز زعامة جديدة. قد تأتي هذه الزعامة من المجموعة الحالية للزعماء السياسيين، أو من أوساط الحركة السرّية، أو من بين ضباط الجيش القدامى. وقد يأتي الحل من جيل جديد من الشباب العراقيين الذين لا يتقبلون ما تعرّضوا له والذين يتطلعون إلى إعادة بناء بلادهم على أساسٍ من الوحدة والحداثة والرخاء.
ينبغي للحكومة الانتقالية أن تركز على إعادة بناء المواطنة العراقية والبدء ببرنامج إعمار اقتصادي واسع النطاق يكون قادراً على تحسين حياة المواطنين في أرجاء البلاد كافة. وعلى الحكومة الجديدة أن تلغي الفيديرالية والعشائرية والانقسامات العرقية والدينية، فتوفر نمط حياة أفضل وحرية شخصية، كما توفر حكم القانون للجميع بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو العرق.
وما إن يبدأ الرخاء الاقتصادي بالانتشار بين الناس حتى يترتب على السلطة الانتقالية أن تتجه نحو التحول السياسي. إن مثل هذا التغيير سيتطلب وضع الأسس لديموقراطية فعالة، وهذا بدوره يعتمد على إنشاء المؤسسات الضرورية وعلى تطوير التعليم العام والوعي اللازم لتسهيل عملية سياسية بنّاءة.
حكم العراق ينبغي ألا يعني بعد الآن الشهوة لتولي الحكم ولسلطة لا حدود لها وامتيازات ليست في محلها. كما ينبغي ألا يكون الحكم معتمداً على القوة والخوف والفساد. ومنذ عام 2003 أتاح الاحتلال المجال لظهور شكل بشع من أشكال الحكم القائم على تقسيم عرقي وديني، وكانت النتيجة تولي زعماء غير مؤهلين السلطة واستخدموا القوة أو التأثير الغوغائي لغرض الحكم. إنهم باستغلالهم للدين أو العرق أو القومية قاموا بتبرير وصولهم إلى السلطة بُغية الكسب الشخصي. إن دعاة الفتنة الذين اختارتهم سلطات الاحتلال استخدموا مثل هذه الاختلافات لتشكيل مليشيات خاصة بهم ولتأسيس أحزاب سياسية تقوم على أشخاص وليس على برامج. وقد وقفت كل فئة من الفئات المختلفة إلى جانب زعيمها ولم تتردد في مهاجمة الآخرين إذا طُلب إليها ذلك.
وللخروج من هذا المأزق لا بد من أن تكون الحكومة الجديدة مسؤولة عن توفير الأمن وحكم القانون والازدهار الاقتصادي، وعن تحقيق مستوى حياة أعلى للسكان. وعليها أن تدرك أن دورها هو توفير الخدمات العامة كالصحة والتعليم والإسكان وغير ذلك، وهي خدمات يحتاج إليها الناس لكنهم لا يستطيعون توفيرها بأنفسهم. ولأداء هذه المسؤولية يترتب على المواطنين أن يلجأوا إلى الأكفياء والمؤهلين تماماً كما تلجأ شركات الطيران إلى تعيين طيارين مدربين، وشركات النقل بالحافلات إلى تعيين سائقين مجازين لكي يقدموا الخدمة المطلوبة للركاب.
وما إن تبدأ عجلة الاقتصاد بالحركة حتى يكون على السلطة الانتقالية أن تبدأ بمسعاها التالي من أجل الإصلاح السياسي. والخطوة الأولى هي إرشاد الناس إلى الدور الذي تقوم به الحكومة الصالحة. وهذا أمر ضروري إذا أريد للنظام الانتخابي أن يعمل في الشكل الصحيح. وينبغي أن يشمل برنامج التثقيف التعريف بمسؤوليات الناخبين، وما هو المتوقع من المسؤول المنتخب، وشرح المبدأ الذي يقضي بأن الحصول على خدمات حكومية أكثر يتطلب ضرائب أعلى والعكس بالعكس.
أما الخطوة التالية فهي، على ما أرجو، القيام بتأسيس نظام الحزبين، على ألاّ يقوم أي منهما على فرد معين بل على فلسفة معيّنة. وهكذا يقوم أحد الحزبين بالدعوة إلى مزيد من الخدمات الحكومية من خلال ضريبة أعلى، ويقوم الثاني بالدعوة إلى القليل من هذه الخدمات وبالتالي إلى ضريبة مخفوضة. والناس أحرار في الانتماء إلى أي الحزبين أو البقاء مستقلين.
كان التطبيق التقليدي في العراق هو أن يؤسس رئيس الحزب السياسي حزبه على أساس شخصه بالذات فيكون هو السلطة المركزية فيه، أما أعضاء الحزب فما عليهم إلا الطاعة العمياء. فرئيس الحزب هو الذي يقرر وحده مثلاً من هم المرشحون على قائمة الحزب في الانتخابات النيابية. والذي أرجوه هو تغيير ذلك في العراق الجديد. وللمرء أن يقرر ما هو الحزب الذي يلبّي تطلعات البلاد إلى مستوى حياة أفضل و أحسن من غيره. وما إن يقرر المرء اختيار الحزب السياسي الذي سينتمي إليه حتى يكون من حقه أن يختار أفضل من يمثل هذا الحزب في تنفيذ برنامجه. والانتخابات هي التي يقرر فيها الناخبون ما هو الحزب الذي يشكل حكومة أكثر فعالية وأكثر إنتاجية.
أشرت سابقاً إلى الحاجة إلى فصل الدين عن السياسة، وهذه النقطة يجب تكرارها. ففي أثناء الاحتلال أتيح للزعماء الدينيين استخدام نفوذهم الروحاني لإملاء مواقف سياسية. إن هؤلاء الزعماء هم أحرار في تشجيع ممارسة العبادات، ولكن ينبغي ألا يُسمح لهم بالانخراط في العملية السياسية الجارية. كان العراقيون قبل غزو عام 2003 يتمسكون بفرضيتين اثنتين، الأولى هي أن بلادهم تتمتع بكل ما هو ضروري لتصبح البلاد الأكثر رخاءً في العالم (وهي فرضية لم أزل أعتقد أنها صحيحة)؛ والثانية هي أن صدّام كان العقبة الوحيدة التي تحول دون إطلاق العراق إمكاناته المختلفة، فما إن يُطاح حتى ينفتح المجال أمام مستقبل زاهر. وللأسف الشديد ثبت أن هذه الفرضية غير صحيحة.
إن خمس سنوات من الاحتلال البشع والمأسوي ربما أقنعت العراقيين أن الحكم هو ليس مجرد لقب تستغله غالبية، أو أقلية، دينية، أو تستغله جماعة عرقية أو عشائرية. والحق أن مفهوم الألقاب الذي يخوّل ممارسة السلطة لم يعد مقبولاً. وإن كان العراقيون قد تعلموا هذا الدرس المر والباهظ التكاليف فلعلهم يفهمون الآن أن الحكم ما هو إلا مسؤولية يمارسها أفراد أكفياء يتمتعون بالموهبة والمهارة والتجربة والنزاهة.
هيكل الحكومة
ليتمكن العراق من التقدم يحتاج إلى زعامة كفوءة، وقد كان خطأ الاحتلال دعم الزعامة المغلوطة. إن الأشخاص الذين يريدون أن يتولّوا الحكم يجب اختيارهم على أساس مؤهلاتهم وليس انتماءاتهم.
وعلى زعماء عراق المستقبل أن يضعوا أسس حكومة ثبتت فعالياتها في الأمد الطويل في أماكن أخرى من العالم. وإحدى صفات الحكومة الناجحة هي القدرة على ضمان العدل وحكم القانون بموازنة مراكز السلطة وتأمين مسؤوليته بواسطة انتخاب ممثلي الشعب في الهيئات التشريعية المحليّة والإقليمية والوطنيّة.
ففي العراق الجديد أودّ أن أقترح ثلاثة فروع للحكومة: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. ولا بد أن تكون للعراق حكومة مركزية لإدارة الشؤون الخارجية، والدفاع ضد المعتدين، وإعادة بناء الاقتصاد واتّباع سياسة نقدية موحدة.
لكن هذه الحكومة المركزية تحتاج إلى رقابة على سلطتها، وأهم رقابة هي التي يجريها نظام قضائي مستقل يصون الدستور ويضمن تنفيذ القانون في شكل عادل من السلطة التنفيذية. إن ترسيخ حكم القانون هو الشرط الأهم الوحيد لإنشاء عراق جديد ومزدهر.
وعلى العراق من الناحية التنظيمية أن تكون لديه ثلاثة مستويات جغرافية من الفروع التنفيذية، فيترأس كل فرع منها رئيس تنفيذي منتخب يقوم بتعيين أعضاء وزارته لتولي المسؤولية في الدوائر المختلفة المختصة بالإدارة العامة. أما الحكومة المركزية فيرأسها رئيس وزراء منتخب، كما أن الحكومة الإقليمية يرأسها محافظ منتخب، ويرأس الحكومة المحلية عُمدة منتخب.
وعلى المستوى المركزي والإقليمي والمحلي ينبغي قيام مجالس تشريعية منتخبة تتولّى الرقابة على السلطة التنفيذية وتجري التوازن معها. فعلى المستوى المركزي يكون هناك برلمان، وعلى المستوى الإقليمي يكون هناك مجلس نيابي، وعلى المستوى المحلي يكون هناك مجلس بلدي. ومع أن الحكومة المركزية لديها وظائف مهمة فإن من الضروري إعطاء ما هو عملي من السلطات إلى الأقاليم والبلديات. إن الحكم غير المركزي هو طريقة مهمة للحفاظ على الحرية وذلك بتوزيع السلطة. وبوسع المواطنين أن يعربوا عن تذمرهم من خلال صناديق الاقتراع إذا كانت الحكومة عاجزة أو فاسدة أو مستبدة. وعلى الدستور العراقي أن ينص صراحة على إعطاء الحكومات الإقليمية والبلدية تلك السلطات التي لم يتم إعطاؤها مباشرة لحكومة البلاد.
إن الحكومات غير المركزية هي أقرب إلى الناس الذين تمثلهم، لذلك فمن غير المحتمل أن تعامل ناخبيها وكأنهم أتباع غرباء. وينبغي للعراقيين أن يعرفوا ممثليهم المحليين بالإسم، على خلاف ما جرى في انتخابات كانون الثاني (يناير) 2005 التي نظمها الاحتلال وجرى فيها التصويت على قوائم طويلة من الأسماء التي لا يعرفها الناخب والتي يجهل خلفيتها وسياستها. بالإضافة إلى ذلك فإن الحكومات اللامركزية هي أكثر استجابةً للحاجات المحلية. والنظام اللامركزي هو الطريقة المثلى لتمكين شرائح سكان العراق المتنوع كافة، ومثل هذا التمكين سيؤدي إلى تماسك الدول الناشئة. إن إنشاء نظام لامركزي قوي يتطلب اتخاذ محافظات العراق الثماني عشرة أساساً له. ومن الضروري أن تُعرّف هذه المحافظات المقسمة جغرافياً بأنها «أقاليم» في العراق الجديد. ويتعيّن إلغاء مفهوم «الفيديرالية» الذي فُرض لكي يجعل من المستساغ تقسيم العراق.
يضاف إلى ذلك أن من الضروري تحديد مدة خدمة العاملين في مراكز الحكومة في النظام السياسي الجديد. فعلى المستوى التنفيذي يترتب على رؤساء الأحزاب السياسية إما كسب الانتخابات العامة وتولي الحكومة وإما الاستقالة ليحل غيرهم محلهم. وعلى رئيس الوزراء للحكومة المركزية ألا تتجاوز مدة ولايته ست سنوات. وعلى المستويين الإقليمي والمحلي تكون مدة الخدمة للمحافظين والعُمَد أربع سنوات قابلة للتمديد مرتين فقط. أما على المستوى التشريعي فالخدمة هي أربع سنوات لثلاث مرات. إن من شأن ذلك أن يضمن التجديد للزعامات.
نظام ضريبي عادل
يتعيّن على المواطنين في العراق الجديد أن يدفعوا الضرائب لكلٍ من الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية والبلديات المحلية وذلك عن الخدمات التي تقدمها كلٌّ منها. إن العراق لا يستطيع أن يؤسس ديموقراطية من دون نظام مالي شفاف وعادل. كما أن نظاماً ضريبياً عادلاً وكفوءاً من شأنه أن يقدّم الإيراد اللازم لعمليات الحكومة الضرورية كما يشكل مجموعة من العلاقات بين المواطن والدولة. وبوجود هيئات تشريعية على مستويات الحكومة كافة تقرر كيفية صرف حصيلة الضرائب، وبقيام الوكالات الحكومية بوضع هذه الأموال موضع العمل، تنشأ روابط المشاركة من جانب دافعي الضرائب (الذين يصبحون مساهمين في مستويات الحكومة كافة) كما تنشأ المساءلة بالنسبة إلى المسؤولين المنتخبين وموظفي الحكومة (الذين يُسألون عن أداء واجباتهم).
إن نظام الحكم المركزي القائم اليوم واعتماده على النفط هو سبب رئيسي لسوء التصرف والفساد. أما إذا جرى توزيع الثروة مباشرة على المواطنين ومن ثم يطلب منهم دفع الضرائب لحكوماتهم المنتخبة فعندئذٍ يتم استئصال الفساد وتكون الحكومة خاضعة للمساءلة و كفوءة في الوقت عينه. لهذا فإني أقترح أن يُستخدم الدخل الصافي من الموارد الطبيعية لتلبية حاجات الاستثمار السنوية لكل من «مجلس الإعمار الاقتصادي الوطني» و «مجلس التعليم والتكنولوجيا» (وسأبحثهما مفصلاً في الفصل القادم). أما الرصيد المتبقي فينبغي أن يدفع مباشرةً للمواطنين باعتباره أرباحاً نقدية سنوية.
ولا بد بداهةً من وجود قانون يحدد مستوى الاستحقاق العادل. وإني شخصياً أفضل أن يكون التوزيع على المواطنين الذين يدفعون الضرائب. أما إذا شمل التوزيع القاصرين كذلك فإني آمل بأن يتم التفريق بين الذين يدخلون المدارس وبين غيرهم. كما أن وضع حد أعلى لاستحقاق العائلة الواحدة ستكون له فائدة إضافية وهي عدم تشجيع النمو السكاني غير المرغوب فيه.
إن العراق في حاجة ماسة إلى تسوية سياسية جديدة. وأرى أن المبادئ الأربعة التي ذكرتها آنفاً من شأنها أن تقدم للبلاد فرصة لكي تتطور إلى ديموقراطية حقيقية على المدى الطويل. وقد يقول المنتقدون لتلك المبادئ الأربعة إنها عبارة عن خطة لديموقراطية ليبرالية «غربية» ولنظام قد لا يكون صالحاً للعمل في العراق. لكني أعتقد أنهم مخطئون، فالعراق كان قد سار بنجاح على درب سياسي مشابه خلال الملكية الدستورية الهاشمية، وبالتالي فإن مثل هذا النظام قد طُبّق بنجاح في الماضي ومن الممكن تطبيقه في المستقبل أيضاً.
هناك منتقدون آخرون قد يزعمون أن العراقيين أنفسهم يريدون شيئاً آخر مثل حكم رجال الدين. وأعتقد أن هؤلاء مخطئون أيضاً، ذلك أن أولئك العراقيين الذين يريدون قُطراً مقسماً وغير مستقر هم وحدهم الذين يريدون حكماً دينياً. وفي اعتقادي أن معظم العراقيين يدركون أن السلم والوحدة لا يتحققان عندما لا يكون مزج بين الدين والسياسة.
إن إصلاحاً جوهرياً للنظام السياسي يجب أن يترافق مع تغييرات أساسية في اقتصاد العراق، وذلك بزيادة الإيرادات النفطية الى الحد الأقصى ومن ثم استخدامها لتحريك النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية.
* كاتب ورجل أعمال عراقي. والنص مقطع من كتابه «إنقاذ العراق/ بناء أمة محطمة» الذي يصدر قريباً عن دار الساقي في بيروت ولندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.