لم تكن هذه المرة الأولى التي يعلن فيها الرئيس السوري بشار الأسد عن استعداده لاستئناف محادثات السلام مع اسرائيل من حيث توقفت. ويبدو ان اعلان القاهرة عن حدوث تغيير في الموقف السوري يتجاوز حدود الالتزام ب"وديعة رابين"... هو الذي أثار الالتباس ودفع دمشق الى استعجال نفي الخبر الذي صدر عقب رجوع الأسد من شرم الشيخ. والملاحظ ان الدكتور بشار لم يتخل عن شروط و"ديعة رابين"، ولكنه عبّر عنها بلغة ديبلوماسية مرنة اكد بواسطتها طلب بلاده الهادف الى تحقيق انسحاب اسرائيلي حتى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967. وهذا هو المبدأ الاساسي الذي قامت عليه"الوديعة"التي كشف عنها الرئيس بيل كلينتون اثناء اشتراكه في جنازة رابين. وكان أول المفاجئين بوجودها وزير الخارجية شمعون بيريز الذي اعرب أمام كلينتون عن استغرابه لأن رئيس الحكومة رابين لم يطلعه عليها. واعترف كلينتون بأنه تعامل مع الموضوع بسرية تامة خوفاً من تشويش جماعة"ليكود"، وقال ان منسق عملية السلام دنيس روس هو الشخص المكلف بمتابعة مشروع الاتفاق. لذلك اضطر الى اطلاع بيريز على تفاصيل الموضوع بحضور رئيس الأركان امنون شاحاك وقائد"موساد"داني ياتوم، واخبر روس بيريز ان رابين التزم الانسحاب الكامل في آب اغسطس 1993، ثم وقع في تموز يوليو 1994 رسالة يؤكد فيها تعهده الانسحاب الى خط 4 حزيران 1967. ازاء تبني بيريز لموقف رابين، اتصل الرئيس كلينتون بالرئيس حافظ الأسد ليخبره ان وزير الخارجية وارن كريستوفر في طريقه الى دمشق، وان بيريز طلب منه تحديد قمة مبكرة معه تعقد في جنيف اذا أحب. وعندما استقبل الأسد الوزير الاميركي لاحظ ان بيريز اضاف على وثيقة الاتفاق بعض الأمور المتعلقة بالتنمية الاقتصادية الاقليمية وسلامة الأمن المائي لاسرائيل، اضافة الى مشاريع سورية - اسرائيلية مشتركة. واعطى الرئيس السوري وعداً"باستمرار تدفق مياه الجولان التي تصب في بحيرة طبريا، ملمحاً الى حصة بلاده من مياه البحيرة، ولكنه في الوقت ذاته لم يبد أي رغبة في الاجتماع بشمعون بيريز، كما انه رفض المشاريع المشتركة لأنها تمثل في نظر الشعب العربي ادامة للاحتلال ولو بشكل آخر. في نهاية شهر كانون الأول ديسمبر 1995 بدأت جولة من المحادثات بين سورية واسرائيل في مزرعة"واي"القريبة من واشنطن، استمرت حتى نهاية كانون الثاني يناير 1996. ولكن رعونة بيريز واستسلامه لإرادة العسكريين كانا العاملين المؤثرين في اسقاطه امام منافسه اليميني بنيامين نتانياهو، خصوصاً ان عملية"عناقيد الغضب"ألبت المجتمع الدولي ضده وأثارت نقمة اليسار الاسرائيلي. تبرع السفير الاسرائيلي السابق ايتامار رابينوفيتش، بإعطاء شهادة لنتانياهو تقول ان اسحق رابين لم يلتزم الانسحاب الى حدود 4 حزيران، وان ما سمي ب"الوديعة"لم يكن اكثر من صيغة مفترضة واحتمال غير ملزم ووعد غير موقع. واعترف انه كان مفاوضاً في تلك المرحلة، وان رابين استخدم المسار السوري لتشجيع ياسر عرفات على قبول شروط"أوسلو". وبناء على توصية رابينوفيتش، أعلن نتانياهو الموافقة على استئناف المفاوضات، وانما من دون شروط مسبقة، ومن دون التزام تعهد رابين الانسحاب الكامل، ويقول شارون ان رابين أودع في آب 1993 ما أطلق عليه"الوديعة"وهي ليست اكثر من رسالة نظرية شفوية للرئيس حافظ الأسد تفيد بأنه في حال حصلت اسرائيل على مطالبها في مجالات الأمن والمياه والحدود والتطبيع، فهي مستعدة للتراجع الى حدود الرابع من حزيران 1967. في كتابه المخصص للمفاوضات السورية - الاسرائيلية يقول الجنرال اوري ساغي ان حافظ الأسد أدرك أهمية المتغيرات الدولية والاقليمية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانه حرص على مشاركة الولاياتالمتحدة في المفاوضات لكي يستعيد بواسطة تدخلها هضبة الجولان ويحصل على شرعية سيطرته على لبنان. ويعترف ساغي الذي شارك في مفاوضات قمة"شبردزتاون"، ان كلينتون وايهود باراك كانا على استعداد لمنح سورية اعترافاً بسيطرتها على لبنان مقابل تساهلها في موضوع الجولان. ويضم الكتاب فصلاً مثيراً عما سماه ساغي احتفالاً تأبينياً للمفاوضات في قمة"شبردزتاون". حول الطاولة جلس الرئيس الاميركي كلينتون ووزيرة الخارجية مادلين أولبرايت ومستشار الأمن القومي ساندي بيرغر. أما عن الجانب الاسرائيلي فقد حضر رئيس الحكومة ايهود باراك ورئيس الأركان أمنون شاحاك ورئيس طاقم المفاوضات الجنرال احتياط اوري ساغي، في حين تمثل الجانب السوري بوزير الخارجية فاروق الشرع ورئيس هيئة الاركان السابق يوسف شكور. استمر اللقاء اكثر من ساعتين لم يتوصل خلاله المجتمعون الى نتيجة مرضية. وفي كل مرة كان الشرع يوجه سؤالاً محرجاً الى الوفد الاسرائيلي، كان باراك يتخلص من الجواب بالادعاء انه مضطر الى مراجعة الموضوع مع خبراء الأمن. وفجأة، انفجر فاروق الشرع في وجهه قائلاً: مع من تريد ان تتشاور؟ لديك هنا أهم خبراء الأمن. أحب ان أقول ان رئيسي أرسلني لإنهاء قضية الجولان. وأنت يا رئيس حكومة اسرائيل لا تفي بتعهداتك. وثقنا بك لاعتقادنا انك رجل شجاع، ولكنك خيبت أمل الجميع. استغرقت مداخلة الشرع الهجومية أكثر من عشرين دقيقة، ثم التفت نحو الرئيس كلينتون ليسأله: ألم أكن على حق فيما أقول؟ وقلب كلينتون شفته السفلى كما يفعل دائماً أثناء تعبيره عن الانزعاج، وقال بصوت هادئ: للأسف، أنت على حق، وانما أريد ان أحدد موعداً آخر خلال هذا الشهر. واعتذر الشرع وهو يجمع أوراقه ويقول: أنا مستعد للحضور اذا طلب مني الرئيس الأسد ذلك. ولكنني سأقترح عليه عدم تجديد المفاوضات لأنني اكتشفت ان باراك غير مستعد لإنهاء القضايا المعلقة مثل ترسيم الحدود ومسألة المياه وموضوع السيادة. وكان الشرع بهذا الكلام يشير الى التعقيدات التي واجهتها المحادثات السابقة بين اوري ساغي وأديب الداودي. ذلك انهما أضاعا وقتاً طويلاً في اقحام التسوية الشاملة بأمور أخرى تتعلق بالانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان، وبتأثير ايران على المقاومة اللبنانية وبتمويل العراق وليبيا لعناصر أخرى. وبحسب ما أورده ساغي في كتابه جرى الاتفاق حول مسألة توزيع مياه الجولان بحيث تسمح اسرائيل للمواطنين السوريين في الهضبة باستخدام المياه شرط استمرار تدفق الحاصباني ودان وبانياس باتجاه نهر الأردن. وجرى أثناء التفاوض نقاش طويل حول مصطلح"السيادة على الأرض"و"السيطرة على الأرض". وفي نهاية الأمر اتفق الجانبان على ان اسرائيل تملك حق السيادة على كل بحيرة طبريا، ولكن سكان القرى السورية الخمس يملكون حق الصيد في البحيرة! منذ شهرين تقريباً تجدد الحديث عن موضوع الجولان عقب الزيارة التي قام بها مارتن انديك لدمشق، واجتماعه بالرئيس بشار الأسد لمدة ثلاث ساعات. والسفير انديك يترأس حالياً"مركز سابان للشرق الأوسط". وهو أحد الشخصيات المؤثرة لدى الادارة الأميركية. اللقاء جرى بعد صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559، ومطالبة واشنطن وباريس بضرورة الانسحاب من لبنان، تنفيذاً لاتفاق الطائف. وقال الاسد لانديك انه مستعد لعقد اتفاق سلام مع اسرائيل من دون شروط مسبقة. أي انه لم يذكر"وديعة رابين"لادراكه أن شارون لن يحترمها، ولكنه ذكر ان لديه مطالب أساسية اختصرها بالانسحاب الاسرائيلي حتى خطوط الرابع من حزيران. ووصف الاسد هذه المطالب بأنها أهداف استراتيجية تتمسك بها دمشق. وهذا ما كرره الوزير فاروق الشرع لانديك أيضاً، مشدداً على ضرورة بدء المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها. ولمس الزائر الاميركي ان الاسد حريص على التفاهم مع واشنطن من أجل بلورة رؤية مشتركة حول مفهوم عملية السلام. ولما سأله انديك عن مدى استعداده لاستئناف المفاوضات، أجابه بأنه سيكون جاهزاً عندما يصبح شارون جاهزاً. الانطباع الذي أعطاه انديك لشبكات التلفزيون إثر اجتماعه بالاسد، كان انطباعاً ايجابياً ولكن تورط شارون بمشاكل المستوطنين في غزة والضفة لن يسمح له بافتعال أزمة أخرى مع مستوطني الجولان. خصوصاً ان شارون يعير المسألة الأمنية اهتماماً استثنائياً، الأمر الذي يجعل الانسحاب في أيامه عملاً بعيد الاحتمال. الاستنتاج الآخر الذي نشرته صحيفة"يديعوت احرونوت"على لسان انديك، يشير الى أن الأسد يضع مسألة تحسين العلاقات مع واشنطن في رأس سلم أولوياته. ومجمل ما استوعبه من الحديث الطويل هو ان الرئيس السوري يرغب في تحقيق رزمة مطالب تؤمن له السيطرة في لبنان، وتحسن مكانة بلاده في الولاياتالمتحدة، وتعيد لسورية كل هضبة الجولان ضمن اتفاق سلام شامل يلغي تلقائياً المساعدة التي تتلقاها التنظيمات الفلسطينية في دمشق و"حزب الله"في لبنان. وفي ضوء هذه المطالب الملحة يقول المراقبون في القاهرة، ان المؤشرات الايجابية التي قدمها بشار الأسد في اجتماع شرم الشيخ، كانت كلها تصب في مصلحة تحسين العلاقة مع الولاياتالمتحدة. ولقد تزامنت مع موعد تظاهرة بيروت التي أوحت بها دمشق لاقناع ادارة جورج بوش بأن الشعب اللبناني وليس العهد فقط يطالب ببقاء سورية في لبنان الى الأبد، كما جاء في عبارة احدى اليافطات المغطاة بصور بشار الأسد. يقول نيكسون في مذكراته انه فوجئ مرة بحجم الاستقبال الشعبي الذي نظمه له الرئيس الروماني تشاوشيسكو، إذ كان الجمهور المندفع على جانبي الطريق يرمي موكبه بالأزهار والرياحين، والتفت نحو مضيفه ليسأله ما إذا كانت اميركا محبوبة لدى الشعب الروماني الى حد فاق كل تصوراته. وأجابه تشاوشيسكو بثقة: هذا تعبير عن كراهية الشعب لموسكو، وليس عن محبته لواشنطن! وللمقارنة يمكن الاستنتاج بأن تظاهرة بيروت كانت تعبيراً عن كراهية المتظاهرين المجندين لهدف غير لبناني، واحتجاجاً على سياسة الولاياتالمتحدة في فلسطينوالعراق. * كاتب وصحافي لبناني.