وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من محاضرات في معرض الكتاب في فرانكفورت : المستشرقون الألمان والدراسات التاريخية والاسلامية
نشر في الحياة يوم 09 - 10 - 2004

في معرض مناقشته لأطروحة صمويل هنتنغتون حول "صدام الحضارات"، يقول فرتز شتبات F. Steppat في كتابه الصادر عام 2001 عن المعهد الألماني ببيروت، بعنوان: الإسلام شريكاً:Islam als Partner إنّ الغرب الأوروبي ما عرف الإسلام والمسلمين باعتبارهم خصوماً أو منافسين وحسب" بل عرفهم أيضاً، وفي الماضي والحاضر، باعتبارهم شركاء في الثقافة الدينية والحضارية والكلاسيكية. كما عرفهم باعتبارهم ثقافة "عالمية" ظهر للعناية بها ودراستها علمٌ خاصٌّ سُمّي بالاستشراق. وهناك عربٌ ومسلمون كثيرون اليومَ يحملون على الاستشراق حملةً شديدة. لكنّ أحداً من الجيلين السابقين ما كان يُنكرُ إسهامات المستشرقين في التعريف بالإسلام باعتباره ديانةً عالمية كبرى، واعتبار ثقافته التاريخة حقيقةً بالاهتمام والدراسة. بل إنّ كثيرين من العرب والمسلمين أفادوا من طريق التعلُّم لدى المستشرقين، أو من طريق قراءة دراساتهم، على المناهج الحديثة في كتابة التاريخ الإسلامي.
وقد ذكر الدكتور محمد عوني عبد الرؤوف، الذي درس لدى المستشرق ألبرت ديتريش في الستينات، في كتابه الصادر أخيراً بعنوان: "جهود المستشرقين في التراث العربي بين التحقيق والترجمة" المجلس الأعلى للثقافة، 2004 ما ذكره شتبات Steppat وأضاف: بدلاً من لعن المستشرقين، تعالوا نستعرض ما قدّموه نشراً ودراسة، ونرى كيف يمكن الإفادة منه.
والواقع أنّ ما ذكره الأستاذ شتبات وعبد الرؤوف صحيحٌ من جهتين. فهناك في العقود الأربعة الأخيرة، وفي العالم العربي بالذات، هجماتٌ قويةٌ على إنتاج المستشرقين في مجال الدراسات الإسلامية الكلاسيكية على الخصوص. وقد بلغت تلك الهجمات الذِروةَ في دراسة إدوارد سعيد الصادرة عام 1978، والتي يمكن اعتبارُها حداً فاصلاً في التحول عن الاستشراق والإفادة منه. فقد اعتبر سعيد أنّ الاستشراق ليس علماً،وإنما هو من نتاج عصور الاستعمار وموروثاته في تأمُّل الثقافات غير الأوروبية. لكنّ شتبات مُحِقٌّ في إفادة العرب والمسلمين كثيراً من نتاجات المستشرقين، والمستشرقين الألمان على الخصوص، وفي ثلاثة مجالاتٍ بالذات: التاريخ الإسلامي، والدراسات الإسلامية الدينية والفلسفية، وتاريخ العلوم العربية والإسلامية. وسأركِّزُ في هذا الموجَز على التاريخ والدراسات الإسلامية، دون تاريخ العلوم. ثم أتعرضُ للإشكاليات التي أحاطت بدراسات المستشرقين الألمان في المجال العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
أكثر الدراسات الاستشراقية الألمانية تأثيراً في الكتابة الأكاديمية العربية عن التاريخ الإسلامي المبكر، وإلى عقود قليلةٍ مضت، دراسةُ يوليوس فلهاوزن J. Wellhausen بعنوان: الدولة العربية وسقوطها Das Arabishe Reich und sein Sturz عرف الأكاديميون العرب دراسة فلهاوزن في البداية من خلال ترجمتها الإنجليزية، ثم ترجمت إلى العربية مرتين في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين. ومنذ الثلاثينات وحتى الثمانينات ظلّت محلَّ اعتماد الدارسين العرب وثقتهم في ثلاثة مجالات: تحديد حقبة ما يُسمَّى بالدولة العربية بأنها الفترةُ الواقعةُ بين وفاة النبي عام 632م وحتى سقوط الدولة الأموية عام 750م. واعتماد تاريخ الطبري الذي نشره دي غويه للمرة الأولى مصدراً رئيسياً للتأريخ لتلك الحقبة أو ذلك العصر. وأخيراً اعتماد الطريقة الهرمونوطيقية في قراءة النصّ وتأويله ومقارناته. والمعروف أنّ فلهاوزن - وهو من كبار دارسي العهد القديم في الأصل - اعتبر الإشكالية الرئيسية في الدولة العربية الاولى، إشكاليةً ذات طابع قومي، أي بين العرب والعجم، أو العرب والفُرس. وقد وافق ذلك هوى كُتّاب التاريخ العربي في المرحلة القومية، أي في ما بين الخمسينات والثمانينات. ولذلك فقد انطلقوا من هذا التحديد الفلهاوزني ليتحدثوا عن وعيٍ قوميٍ عربيٍ مبكّرٍ يعودُ للقرن السابع الميلادي. نجدُ ذلك لدى كبير المؤرخين العرب المعاصرين: عبد العزيز الدوري، كما لدى آخرين كثيرين من أساتذة الجامعات المصرية والسورية والعراقية في الخمسينات والستينات والسبعينات. ويُضاهي ذلك في الأهمية لدى المؤرخين العرب تلك الثقة التي أظهرها فلهاوزن بالمصادر العربية للتاريخ وعلى رأسها كما سبق القول "تاريخ الطبري". وطريقتُهُ كما هو معروف فيلولوجية، تظلُّ قريبةً من النصّ، وتقارن وتصدّق أو تنفي بعقلانيةٍ انتقائية يغلبُ عليها الذَوق أوالنزوع الشخصي. وقد صمدت هذه الطريقةُ طويلاً لدى العرب المُحْدثين والمعاصرين، سواءٌ ذكروا فلهاوزن في كتاباتهم عن التاريخ الإسلامي الأول أم لا. بيد أنّ ما لم يصمدْ ذلك الربط الفلهاوزني بين فترة الخلفاء الراشدين 632 - 661م وفترة الخلفاء الأُمويين 661 - 750م، ذلك أنّ الراديكاليين من اليساريين والإسلاميين ما لبثوا أن فصلوا الراشدين عن الأُمويين، باعتبار الأُمويين مغتصبين للسلطة ومستبدين تارةً، أو باعتبارهم منحرفين عن الإسلام تارةً أُخرى.
ومع أنّ عبد الرحمن بدوي قام في الخمسينات أيضاً بترجمة بحث فلهاوزن عن "الخوارج والشيعة" وهما الحزبان السياسيان/ الدينيان اللذان ظهرا في القرن السابع في نظره " فإنّ مقولته عن طرائق ظهور الجماعات الدينية في الإسلام ما تركت تأثيراً كبيراً بعكس كتابه عن الدولة العربية. ويبدو أنّ ذلك عائدٌ لِغَرق فلهاوزن في تفصيلات نصوص الطبري عن هذين الحزبين، دونما محاولة للتنظير، إلاّ ما قاله عن الأصول الإيرانية الممكنة للتشيع، والأصول القبلية للخوارج، وهما أمران سُرعان ماتخلَّى عنهما الدارسون " في الوقت الذي عرف فيه الدارسون العرب في الستينات نظرياتٍ أُخرى عن ظهور الجماعات الدينية، من بينها فَرَضيّة ماكس فيبر. وما ترجم أحدٌ لسوء الحظّ مقالة فلهاوزن عن ظهور الجماعة الدينية الإسلامية الأولى بالمدينة، وبالتالي ما عرف الدارسون العرب طريقته في نقد النصّ، وفي تأمُّل النصوص الدينية بالذات .
والطريف أنّ مستشرقاً ألمانياً معاصراً لفلهاوزن هو تيودور نولدكه Theodore Noldeke لقي كتابُهُ عن "تاريخ القرآن"، شهرةً كبيرةً لدى الأكاديميين العرب، مع أنَّ أحداً لم يترجمه، وما قرأه كثيرون بالألمانية أيضاً. وقد سألْتُ عبد الرحمن بدوي بالقاهرة أواخر الستينات عن سبب شُهرة نولدكه وكتابه لدى العرب والأتراك، وتكرار اسمه في الدروس، فأخبرني أنّ الشيخ أمين الخولي قرأ الكتاب، ورغب في ترجمته، ثم تراجع عن ذلك. وما تُرجم لنولدكه غير كتابه الصغير عن إمارة الغساسنة بالجُولان قبل الإسلام، لكنّ أحداً لم يهتمَّ لها، لاقتصاره على محاولة تركيب أو إعادة تركيب سلاسل نَسَب الأُسرة الغسّانية استناداً إلى أبيات من الشعر الجاهلي، وأخبار المؤرخين البيزنطيين عنهم.
أمّا جهودُ المستشرقين وعلماء الساميات الألمان في تاريخ العرب قبل الإسلام، ومنGlaser وحتى Von Wissmann وألتهايم وماريا هوفنر النمساوية ، فقد استوعبها العراقي جواد علي في كتابه: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام. فقد أحصيتُ له رجوعهُ إلى ستةٍ وعشرين كتاباً ألمانياً وزُهاء الخمسمائة مقالة في المجلدات التسعة لكتابه. وهي تعودُ جميعاً إلى ما قبل الستينات من القرن العشرين.
ولا يُضاهي فلهاوزن في التأثير على الكتابة التاريخية العربية الحديثة غير كارل بروكلمان Carl Brockelmann ، الذي تُرجم له أولاً كتابُهُ: تاريخ الشعوب الإسلامية " لكنْ عن الترجمة الإنجليزية. وما انتهت ترجمةُ عمله الضخم: تاريخ الأدب العربي حتى الثمانينات. لكنّ الكتابين كانا وما يزالان عظيمي التأثير . أما الأول فلإيجازه وشموله ووصوله لأربعينات القرن العشرين. ولذلك فقد صار بمثابة Textbook للطلبة في السنوات الجامعية الأولى، وسار على نهجه كثيرون في تأليف مذكّراتٍ لطلبتهم. وهو بخلاف فلهاوزن لا يملكُ نظريةً لتفسير التاريخ الإسلامي الأول أو المتأخّر، ولذلك لم يُثر حساسية أحد. أمّا كتابُهُ الآخر عن التُراث العربي حتى القرن التاسع عشر" فقد سحر كلَّ دارسي الكلاسيكيات بالمعلومات الهائلة التي أَوردها عَبْر عملٍ دؤوبٍ لأكثر من أربعين عاماً عن المخطوطات العربية في شتى المجالات، وشتى العصور، وفي ترتيبٍ لما يشبه أن يكونَ تاريخاً ثقافياً للإسلام العربي خلال اثني عشر قرناً. والمعلوماتُ التي أوردها بروكلمان ما عادت صحيحةً إلاّ بنسبة 50 في المئة، لكنّ تحقيبه لعصور الآداب والدول والثقافات ما يزالُ محلَّ اقتباسٍ من أكثرالدارسين والعاملين في مجال الثقافة العربية الكلاسيكية. وقد حلَّ محلَّه الآن للقرون الأربعة الأولى من تاريخ الثقافة العربية _ الإسلامية كتاب فؤاد سزكين، الذي تُرجم أكثره أيضاً إلى العربية. لكنّ كتاب سزكين لا يُستخدمُ فقط بسبب معلوماته الغزيرة" بل بسبب اتجاهه الأيديولوجي.
قلتُ في ما سبق إنّ كتاب نولدكه Noeldeke عن القرآن اشتهر كثيراً لدى الدارسين العرب والمسلمين، لكنه لم يؤثّر لأنَّ أحداً لم يقرأْهُ أو يُترجمه. أما الذي أثَّر كثيراً في الدراسات الدينية الإسلامية وما يزال فهو إغنتس غولدزيهرI. Goldziher من خلال كتابيه: العقيدة والشريعة في الإسلام الذي تُرجم عن الفرنسية، ومذاهب التفسير القرآني الذي تُرجم عن الألمانية في الخمسينات. فمنذ ترجمة هذين الكتابين صارا مقروءَين ومعتمدين سواءٌ لجهة تحديد علم الكلام، وعلم الفقه، أو لجهة تقسيم اتجاهات التفسير القرآني إلى: تفسير عقلاني، وتفسير بالمأثور، وتفسير فيلولوجي، وتفسير صوفي، وتفسير باطني. وكان أُستاذُ مادة التفسير بالأزهر يقول لنا في درس التفسير: نحن نبدأُ دائماً بذَمّ غولدزيهر، ثم نعود للاقتباس والتعلُّم منه. وقد ظلَّ كتاب غولدزيهر في العقيدة والشريعة معتمداً لدى الدارسين والطلاب، حتى تُرجم في الستينات كتاب لوي غارديه وقنواتي في اللاهوت المقارن بين المسيحية والإسلام، عن الفرنسية.
أمّا الدراسات الفلسفية الإسلامية، وتاريخ الفلسفة فقد أثَّر فيها كثيراً كتاب دي بور de Boerالقديم: تاريخ الفلسفة في الإسلام، الذي ترجمه محمد عبد الهادي أبو ريده، المتخرج من ألمانيا قبل الحرب الثانية. ثم ترجم أبو ريدة كتاب: مذهب الذَرّة عند المسلمين، في الأربعينات أيضاً. وقد اهتمّ أبو ريدة أيضاً بترجمة كتاب آدم متزA. Metz نهضة الإسلام، إلى العربية بعنوان : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. فصار إلى جانب كتاب "حضارة العرب" لغوستاف لوبون، معتمداً لدى الطلاب والدارسين باعتباره أول تاريخٍ ثقافيٍ للإسلام وحضارته. وعرف الدراسون العرب دراسات شيدر وباول كراوس وماكس مايرهوف من ترجمات عبد الرحمن بدوي لها. وعندما ذهبْتُ للدراسة بالأزهر أواسط الستينات كانت تلك الدراسات ما تزال سائدةً بين الأساتذة والطلاب. والمعروف أنّ نزاعاً كبيراً نشِبَ حول مسألة "الأصالة" وعلاقة الفكر الفلسفي العربي بالترجمات عن اليونانية والسريانية بالجامعة المصرية في الأربعينات. وفي حين اتجهت مدرسة مصطفى عبد الرازق للبحث عن الفكر العربي الإسلامي الأصيل، ظلَّ عبد الرحمن بدوي وآخرون من تلامذته يعتبرون الفلسفة الإسلامية الحقيقية هي تلك العاملة والمؤوّلة والمتناغمة مع الفلسفة الكلاسيكية. وبدوي أثَّر في أجيال من دارسي تاريخ الفلسفة ليس فقط من ترجماته عن المستشرقين الألمان" بل ومن خلال ترجماته لغوته وشوبنهاور وشليغل وكانط وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الألمان.
تبدو تأثيرات المستشرقين الألمان اليومَ أثراً من آثار الماضي. ولا يرجعُ ذلك للنزعة الإسلامية الجديدة المتنكّرة لكل ما هو استشراقي أو غربي فقط " بل ولقلة الترجمات عن الألمانية بشكلٍ عام. ثم لسيطرة الفرنسية، والآن الإنجليزية في مجال الدراسات الجديدة عن كلاسيكيات الإسلام، وعن الظواهر الإسلامية الحديثة والمعاصرة، وأخيراً بسبب تغير مناهج البحث، وثورة العلوم الاجتماعية. والطريف أنه لا أحد من شبان الدارسين العرب للكلاسيكيات يعرفُ أنَّ De Goeje هو الذي نشر تاريخ الطبري للمرة الأولى " بينما يعرفون جيمعاً كتيّب دي غويه الصغير عن القرامطة، إحدى الفِرَق الدينية المتطرفة في الإسلام " لأنه تُرجم إلى العربية _ وقد ظلَّ مستعملاً حتى تُرجمت كتابات هاينز هالم عن القرامطة والفاطميين قبل عقدٍ من السنين. وقد تحدث كثيرون في عدة مراجعاتٍ عن كتاب هلموت ريتّر عن التصوف الإسلامي: بحر الروح Das Meer der Seele ، لكنّ الكتاب نُسي لأنه لم يُترجَمْ، ولأنّ كتاب ماسينيون عن الحلاّج سيطر في السوق لكثرة العارفين بالفرنسية. ولا يعرفُ الدارسون العرب عن ريتّر الآن إلاّ أنه نشر مقالات الإسلاميين للأشعري، وأسرار البلاغة للجُرجاني. وفي العقدين الأخيرين اشتهرت لدى العرب أنّا ماري شيمّل بسبب ترجمة بعض كتاباتها الصوفية عن الإنجليزية وليس عن الألمانية، وما اشتهر عنها من حبٍ للإسلام والمسلمين.
والواقع أنّ الباقي من الاستشراق الألماني في وعي الدارسين العرب في العقود الأخيرة آتٍ من مؤسستين: المعهد الألماني ببيروت، بمنشوراته الكثيرة بالعربية والإنجليزية والألمانية - ومعهد دراسات العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت، والذي يديره الأستاذ فؤاد سزكين، ويُصْدرُ مجلة علمية، وقد جمع ونشر وصوَّر ما يزيد على الخمسمائة كتاب في العقود الثلاثة الأخيرة - وأخيراً وليس آخراً مجلة "فكر وفن" التي تُعرِّفُ بالنتاجات الألمانية عن العرب والإسلام والشرق، ومن ضمنها أعمالُ المستشرقين والدارسين الألمان الشباب.
قبل شهور صدر في ترجمةٍ عربيةٍ جيدة كتاب البارون فون أوبنهايم عن البدو في أربعة مجلدات. وقبل ثلاثة شهور صدر كتاب شتبات السالف الذكر بعنوان "الإسلام شريكاً" في سلسلة عالم المعرفة الكويتية الشعبية. وقبل أسابيع أخبرني ناشرٌ عربيٌّ أنّ كتاب أُستاذنا جوزف فان أس J.Van Ess للاهوت والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة، سيصدر قريباً بالعربية.
وفي إحدى عشيات الربيع الماضي جاء إليَّ ناشرٌ عربيٌّ بترجةٍ مخطوطةٍ لكتاب نولدكه في تاريخ القرآن السالف الذكر، لأنظر فيها،وأكتب لها تقديماً إنْ أعجبتني. ووجدتُ الترجمة جيدةً فعلاً، لكنّ الكتاب ماعاد له ذلك الوهج الذي يستحقُّ معه الترجمة، مثلما كان عليه الأمر أيام الشيخ أمين الخولي قبل خمسين عاماً. وهذا سببٌ آخَرُ لتضاؤل تأثير الاستشراق التاريخاني والفيلولوجي، الألماني وغير الإلماني. أما الاستشراق الجديد فتسودُهُ نزعةٌ مُراجعةٌ تفكيكية تتصل بالأجواء السائدة في حقبة ما بعد الحداثة، ووسط الهجمة المستشرية على الإسلام. وتظلُّ المعرفةُ متعة، لكنّ "التشاؤمية الثقافية" في بيئاتنا تعطيها طعم العلقم، سواءٌ أكانت من نتاج المستشرقين، أو أساتذة العلوم السياسية، أوالاستراتيجيين.
ما كان الاستشراق الألماني أو غير الألماني قناةً رئيسيةً في التعريف بالعرب والإسلام، أو التواصُل بين الغرب والشرق. وقد انفتحت قنواتٌ ونوافذ كثيرةٌ، وانسدَّت أُخرى، ومن بينها الاستشراق بمعناه القديم. وقد حلَّ محلَّ المستشرقين الاستراتيجيون من دُعاة الطبائع الأصولية والدموية للإسلام، وصراع الحضارات. ويتهرب الشبان المهتمون بالتراث أو الحاضر العربي من أوروبا وأميركا وآسيا من التسمية بالمستشرقين، ويقولون إنهم معنيون أومهتمون أومتخصصون بهذا الأمر أو ذاك من الماضي أو الحاضر العربي والإسلامي. ويحب الأميركيون التسمية بدراسات الشرق الأدنى والأوسط كما هو معروف. وهكذا ينقضي الاستشراق تدريجياً دون أن يجد من يترحم عليه، في الغرب أو في الشرق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.