يؤكد الدكتور أكرم ضياء العمري في تمهيد كتابه «الاستشراق والقرآن» (الدوحة: روايا للدراسات والبحوث، 2013) أن الغرض منه ليس «إثارة الضغائن، وإنما هو محاولة لتفهم العلاقة بين المسلمين والغرب، وذلك بالتعرف إلى الجذور التاريخية لكراهية الغربيين للإسلام، والتي دامت قروناً من الزمن، وقد آن الأوان لنبذ العداء والانفتاح على المسلمين، وبذل الجهود لفهم الإسلام بعيداً عن الصورة النمطية المشوهة، والتي ساهم الاستشراق والإعلام الغربي في رسمها... في بداية جديدة لعلاقة المسلمين بالغربيين تُخرجنا من المأزق التاريخي الراهن». ويُشير المؤلف إلى أن الباحثين في الاستشراق قد اختلفوا في تحديد بدايته، فمنهم من يعزوه إلى يوحنا الدمشقي (680 - 750) في كتابيه «حياة محمد» و «حوار بين مسيحي ومسلم»، والذي انتقد فيهما النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). ومن الباحثين من أرجع البداية إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وذلك بظهور أول ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم، ومنهم من أرجعها إلى عام 1312م بعد قرار مجمع فيينا الكنسي القاضي بتأسيس كراس في الجامعات الأوروبية لدراسة الإسلام واللغة العربية. وثمة رأي أرجع نشأة الاستشراق إلى رهبان الأندلس الذين كانت مهمتهم إبعاد الأوروبيين عن الإسلام، وخلق حالة من النفور لأجل تعميق الهوة بين الطرفين، ولم يُوجد في أوروبا من يشتغل بالدراسات القرآنية والإسلام ونصوصه المقدسة، وتاريخه بهدف الدخول في الإسلام. وقسم المستشرقون إلى أصناف، فمنهم من شرح الله صدره للإسلام، فاعتنقه من شدة حبه لثرائه الروحي والفكري، وآمن بسلامة العقيدة الإسلامية أمثال ليوبولد فايس، ومراد هوفمان، وجون لويس بوركهارت. ومنهم من بقي على عقيدته، كيوهان رانكه، وهنري دي كاستري. ومنهم من عمل مستشاراً في وزارة خارجية دولته لخدمة أغراضها، ومخططاتها الاستعمارية مثل لوي ماسينون، وإدوارد لين، وليون روش، وليفي بروفنسال، وإرنست رينان. ومنهم من كانت له أهداف علمية خالصة لا يقصد منها إلا البحث العلمي، والتمحيص ودراسة التراث العربي والإسلامي، وهذا الصنف الأخير قليل جداً، وكثيراً ما يتهمهم غيرهم من المستشرقين بالانحراف العلمي، أو الانسياق وراء العاطفة، أو الرغبة في مُجاملة العرب والمسلمين والتقرب إليهم، كما فعلوا مع السيدة ماري شيمل (1922 - 2003)، وتوماس أرنولد صاحب كتاب «الدعوة إلى الإسلام»، والذي يُعد من أدق وأوثق المراجع الحديثة في تاريخ التسامح الديني في الإسلام. بدأت علاقة المستشرقين بالقرآن الكريم مُبكراً، ولكن قبل الخوض في تفاصيلها تجدر بنا الإشارة إلى أن تاريخ أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم يعود إلى سلمان الفارسي، الصحابي الجليل، الذي «يُقال إنه ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الفارسية في عهد الخلفاء الراشدين»، ومن بعدها تُرجم إلى معظم اللغات الآسيوية والأوروبية والأفريقية، وجاءت معرفة الأوروبيين بالقرآن الكريم على يد الرهبان، «عندما أعلنوا الحرب على الإسلام بحجة الدفاع عن المسيحية ضد الإسلام الظافر»، فاتجهوا إلى محاربته «بإظهار أنه ليس كلام الله بل من وضع محمد بهدف زعزعة القوة الإيمانية لدى المسلمين أو الذين ينبهرون به من أبناء جلدتهم، وهو الهدف التبشيري». ثم دخل المستشرقون مجال الترجمات «محاولين أن يؤولوها تأويلاً ينال من الإسلام والمسلمين، ومن تاريخهم وحضارتهم، فبذلوا جُهداً كبيراً لإثارة الشكوك حول الإسلام لأجل تحقيق أهداف استراتيجية لضربه وتشويهه، بترديد أنه انتشر بحد السيف وليس بالقرآن»، ومن ثم خرجت هذه الترجمات غير منصفة، وغير أمينة، وغير دقيقة، وتفتقد إلى الدقة العلمية واللغوية، والموضوعية. وأدى الاعتماد على هذه الترجمات إلى سوء فهم لمعاني القرآن الكريم والانسياق إلى ما تحتويه من أخطاء وشبهات. ومرت الترجمات الأوروبية لمعاني القرآن الكريم بأربع مراحل متداخلة، بدأت المرحلة الأولى في القرن الحادي عشر الميلادي، وامتدت إلى القرن الثاني عشر، وتمت خلالها ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، أعقبتها مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى اللغات الأوروبية الحديثة، ثم كان لدخول المستشرقين هذا المجال أن أوجد مرحلة جديدة تمت خلالها الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية مباشرة، وأخيراً مرحلة دخول المسلمين ميدان الترجمة، وعلى هذا فقد شهد الكثير من اللغات الأوروبية الحية ترجمات لمعاني القرآن الكريم، فقد ترجمت معانيه إلى اللغات: اللاتينية، الإيطالية، الألمانية، التشيخية، الهولندية، الفرنسية، الإنكليزية، اليونانية، اليوغوسلافية، البلغارية، الدنماركية، الألبانية، الفنلندية والنرويجية. وعن رأي علماء المسلمين في ترجمة معاني القرآن الكريم، هناك اتفاق بين جميع علماء المسلمين على تحريم ترجمة القرآن الكريم اللفظية، لاستحالة تحقيقها، ولقصورها عن إيصال الإعجاز اللفظي. أما ترجمة المعاني فقد اختلفوا فيها فالبعض حرمها والبعض أجازها، «حتى لا يبقى القرآن الكريم محجوباً عن المسلمين في الأمم غير العربية»، إلا أن من المؤكد أنه كتاب الله المتعبد بتلاوته لفظياً وليس معنى، فلا تجوز الصلاة بالمعنى، ولا تجوز التلاوة بالمعنى. وكان الشيخ محمد مصطفى المراغي أول من أثار هذا الموضوع مع مجلس الوزراء المصري عام 1936، وتبعه على النهج نفسه الشيخ محمد فريد وجدي، والشيخ محمد رشيد رضا، وأخيراً تصدت بعض المؤسسات الإسلامية لترجمات معاني القرآن الكريم، كرابطة العالم الإسلامي في مكةالمكرمة، ومركز أبحاث التاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باسطنبول (إرسيكا)، ومجمع الملك فهد بالرياض، ومشيخة الأزهر الشريف بمصر. وقد استعرض كتاب «الاستشراق والقرآن» بعض ترجمات معاني القرآن الكريم، فأوضح أن فكرة التبشير كانت الدافع الحقيقي وراء انشغال الكنيسة بترجمة القرآن الكريم، فظهرت أول ترجمة لاتينية كاملة لمعاني القرآن الكريم عام 1143، لتكون أول لغة أوروبية تقرأ بها معاني القرآن الكريم، وهو العام الذي دُحر فيها الصليبيون في واقعة إيديساس، وردوا على أعقابهم. ثم تعرض لأول ترجمة للغة الإنكليزية، وهي ترجمة المستشرق جورج سيل (1697 - 1736) الذي أشار إلى ترجمة بالمر كذلك إلى الإنكليزية، وهاتان الترجمتان نُقلتا عن الترجمة اللاتينية، ثم جاءت أول ترجمة من العربية إلى الإنكليزية مباشرة على يد روديل عام 1861، ولكنه أعاد ترتيب السور وفق تاريخ النزول، وقد طبعت هذه الترجمة حوالى 18 طبعة آخرها بتاريخ 1909، وفي عام 1994 أعاد مدرس الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد آلان جونز نشرها محققاً إياها معيداً ترتيب السور كما في الأصل العربي. وفي عام 1834 وضع المستشرق الألماني فلوجل معجمًا مفهرسًا لألفاظ القرآن الكريم، وفي 1955 صدرت ترجمة لمختارات من آيات القرآن الكريم على يد آرثر جون آربري (1905 - 1969) في عنوان «القرآن المقدس»، وترجم ريجيس بلاشير (1900 - 1973) القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، وكذلك جاك بيرك (1910 - 1995). وهناك ترجمات أخرى إلى الفرنسية بلغت 17 ترجمة، ولكنها كلها ترجمات يشوبها التحريف والأخطاء، وقد حاول المؤلف الإشارة إلى أن لغة القرآن الكريم الصعبة على المستشرقين كانت السبب وراء بعض الأخطاء غير المقصودة، بخاصة إذا احتوت المفردة الواحدة أكثر من معنى قد يجهل المُترجم بعضها. وشكك المستشرقون في روايات جُمل القرآن، وادعى البعض وجود اختلاف في نُسخ القرآن الكريم، وشكك آخرون في القراءات القرآنية واعتبروها أدلة على التحريف، وتناول المستشرقون الحروف المقطعة، وانتهوا إلى أنها رموز لأسماء أصحاب المصاحف، ولكنها اعتبرت بطريق الخطأ قرآناً. وادعى بعضهم أن المسلمين أضافوا فعل الأمر قل، ليوهموا أن المتحدث هو الله، والمتحدث إليه هو محمد، وأعملوا المعايير النقدية الغربية التي قادت أصحابها إلى الشك في كتبهم، وعقائدهم اليهودية والنصرانية، وظنوا أنها لا بد من أن تقود إلى الشك في القرآن والسنّة، وأنكروا الأصل الإلهي للقرآن الكريم، وأشار إلى أن مؤسس علم نقد الكتاب المقدس في الغرب هو المستشرق يوليوس فلهاوزن (1844 - 1918)، والذي يُمكن اعتباره في الوقت نفسه مؤسس «نقد القرآن الكريم»، وخلص في النهاية إلى فشل وإخفاق التاريخانية النقدية في التعامل مع القرآن الكريم. وحاول المستشرقون ربط الآيات القرآنية بالظروف والسياقات الزمنية، بهدف القول بتأريخانية القرآن الكريم، وأن أحكامه موقوته لأحداث بعينها، وحاولوا إسقاط تاريخ تدوين التوارة والإنجيل على القرآن الكريم. ودعا بعض المستشرقين إلى المساواة بين القرآن الكريم وكتب أهل الكتاب، وإلى إعادة ترتيب القرآن الكريم وفق النزول، وادعى آخرون أن الخط العربي لم تتحرَّ الدقة فيه ما أدى إلى اختلاف المصاحف العثمانية، وذهبوا إلى أن المصحف العثماني تعرض للتحوير، نتيجة أخطاء الناسخين، واحتفاظ القراء بالدروس القديمة للنص في ذاكرتهم، وضعف الخط العربي، وبنوا على هذه النتيجة تحريف القرآن لأعلام التوراة والإنجيل. ويجدر بنا الإشارة إلى أن الاستشراق على رغم كل ذلك كان له تأثير في الثقافة العربية، يبرز في إيجاد النص العربي وتحقيقه خلال فترة الطباعة، ولولا مجهوداتهم الكبيرة لما تعرفنا إلى كثير من الكتب والأعلام الإسلامية، وتأتي الخلاصة في أن الطريقة الأنجع للتصدي لكتابة تاريخنا العقدي والثقافي تتمثل في المشاركة الفاعلة والقوية في الدراسات والمناهج المعاصرة، ويقتضي ذلك المزيد من المعرفة بالعالم والعصر، ووقائع الحداثة وما بعد الحداثة، والعدمية وما بعد العدمية، في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتجب مواجهة الاستشراق بأساليب العصر، بعقد المؤتمرات والندوات وإصدار الدوريات، ومن أجل التفاهم لا بد من توضيح أن الإسلام لا يبدأ أحداً بالعداء، وأن تقوم المؤسسات العلمية برسم الصورة الثقافية والتاريخية والعقدية لأمة الإسلام من دون الخضوع لأفكار مسبقة رسمها المستشرقون، ولأجل نجاح الحوار بين المسلمين والغربيين لا بد من قيام العلماء الغربيين، والإعلام الغربي بتصحيح صورة الإسلام والمسلمين عند شعوبهم، وبذلك يتبين صدقهم في الرغبة بالحوار. وأخيراً تقتضي الضرورة الاستفادة من الشبكة العنكبوتية المسماة «الإنترنت» للتعريف بالإسلام، وتفنيد مقولات الاستشراق. * صحافي وأكاديمي مصري