زاد الانفاق على مؤتمري الحزبين الجمهوري والديموقراطي لاختيار مرشح كل حزب للرئاسة، وهبط الاقبال عليهما. وقد أظهر استطلاع بعد مؤتمر الحزب الديموقراطي في بوسطن، في تموز يوليو، ان نسبة المشاهدين الذين تابعوا ذلك المهرجان السياسي عبر محطات "سي ان ان" و"فوكس نيوز" و"ام إس إن بي سي" كانت الأقل في تاريخ بث هذه المؤتمرات. مؤتمر الحزب الديموقراطي كلّف 95 مليون دولار، وقدّرت نفقات مؤتمر الحزب الجمهوري في نيويورك بنحو 166 مليون دولار ولم يكسب كيري من مؤتمر حزبه سوى أربع نقاط انتخابية، وهو أيضاً أقل رقم مسجل لمرشح في نهاية مؤتمر حزبه، وكسب بوش 11 نقطة بعد المؤتمر الجمهوري، الا ان هذه النسبة تراجعت بسرعة الا انه بقي متقدّماً. وأهم من هذا كله المناظرات التلفزيونية، بدءاً من نهاية هذا الشهر وكيري يريد ثلاثا في حين يفضّل اثنتين. وفي حين يمنع قانون إصلاح الحملة الانتخابية لسنة 2002 التبرع غير المحدود لهذا المرشح أو ذاك فإنه لا يمنع الشركات أو أصحاب المصالح الخاصة من التبرع للجان الحزبية المضيفة بالمبالغ الهائلة المطلوبة لتنظيم حفلات على هامش المؤتمر. وفي بوسطن قدّر الانفاق على نحو 50 حفلة بعشرين مليون دولار. أما في نيويورك فزادت الحفلات والانفاق عليها ضعفين. وقد رصدت جماعات مستقلة لمتابعة الانتخابات اسماء 25 شركة كبرى، من النوع الذي يعرفه القارئ، مثل المصارف الكبرى وشركات "مايكروسوفت" و"آي بي ام" و"كوكا كولا" وغيرها، تبرّع كل منها بالسخاء نفسه للحملتين الجمهورية والديموقراطية، أملاً بجني فوائد من الفائز في المستقبل اياً كان. هذا الحجم من الانفاق يعني ان تتسابق المدن الأميركية على استضافة المؤتمرين لأنهما ينشطان الاقتصاد المحلي. وقد أصبح التنافس شبيهاً بما نعرف عن تنافس مدن وراءها دول لاستضافة الألعاب الأولمبية. وبالنسبة الى الحزب الجمهوري مثلاً، فهناك لجنة استطلاعية من 20 عضواً تزور المدن، فتحيطها اللجان المحلية التي تأمل باستضافة المؤتمر بضيافة تراوح بين الطعام والإقامة في الفنادق الى عروض خاصة لما ستقدم المدينة. وتقدر نفقات هذه الضيافة وحدها بمليون دولار. واستطاع مركز النزاهة في الحياة العامة ان يحصل عبر قانون حرية المعلومات على تفاصيل عما قدّمت لجان مدينة نيويورك من اغراءات لاستضافة المؤتمر الجمهوري. وفي حين تضيق هذه العجالة عن التفصيل، فانني أسجل منها نفقات حفلات، ومتطوعين لمساعدة الميديا وزينة، منها ديكور جمهوري لحديقة ماديسون سكوير، وأجهزة كومبيوتر وحراسة على مدار 24 ساعة في اليوم وتذاكر مجانية للنقل العام، وكل هذا في مدينة غالبية سكانها العظمى من الديموقراطيين. لا بد من ان المدينة حصلت على أضعاف ذلك عبر ما أنفق 50 ألف شخص لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالمؤتمر. ولكن "نيويورك تايمز" نشرت عشية المؤتمر تحقيقاً أظهر ان غالبية سكان المدينة قلقة من عقد المؤتمر عندهم، وتخاف من ارهاب جديد. طبعاً كانت هناك اغراءات الا ان قرار عقد المؤتمر الجمهوري في نيويورك، وفي مكان قريب من ارهاب 11/9/2001، لا يمكن ان يعزل عن محاولة الجمهوريين الإفادة من الموضوع وتقديم مرشحهم كما يريد ان يعرف فهو "رئيس حرب". غير ان الانفاق كله لم يفد كثيراً، والأرجح ان يعتمد الفوز والخسارة على نتيجة المناظرات التلفزيونية بين جورج بوش وجون كيري في الخريف. السؤال هو: هل كان من الحكمة ان يعقد الحزب الجمهوري مؤتمره في نيويورك، وعلى بعد بضعة أميال من "الأرض صفر" حيث دمّر برج مركز التجارة العالمي؟ حملة بوش الانتخابية كلها تقوم على انه "رئيس حرب"، لذلك يبدو الاختيار منطقياً، غير ان هناك وجهاً آخر للموضوع. ففي نيويورك يزيد الديموقراطيون على الجمهوريين بنسبة خمسة الى واحد، وكان واضحاً مع عقد المؤتمر انه سيجذب نسبة عالية من المتظاهرين ضد كل ما تمثله سياسة بوش، من الحرب الى البيئة والتعليم والضرائب وغيرها. واذا أضفنا الى هذا الثورة الصامتة لرجال الشرطة والمطافئ، أبطال 11/9/2001 بسبب عدم توقيعهم عقوداً مع بلدية المدينة يصبح اختيار نيويورك مسألة فيها نظر. القارئ لا يحتاج الى تذكيره بالاستقبال العدائي لجورج بوش والجمهوريين في المدينة، فالموضوع أحيط بتغطية واسعة من وسائل الاعلام، وأنا هنا في سبيل مراجعة سياسة الجمهوريين، فإن كان هناك شيء واحد يجمعها فهو الوقاحة، وأفضل مثال على هذه كارل روف الذي وضع استراتيجية الحملات الانتخابية لجورج بوش منذ خوضه الانتخابات لمنصب حاكم تكساس، فالمستر روف يبحث عن أقوى نقطة عند الخصم ويهاجمها، ليترك الخصم في موقف الدفاع، قبل ان ينتقل ليهاجمه في نقاط ضعفه. وأترك هندريك هيرتزبرغ، في صدر أول صفحة من مجلة نيويورك الأولى "نيويوركر" يعلّق على وجود الجمهوريين في مدينته، مشيراً الى سجل الادارة في اغراق الأثرياء بالمال على حساب الطبقة المتوسطة، وفي استغلال الارهاب الذي تعرّضت له المدينة للتعامل معها حزبياً، ولخدمتها الملوثين من مستخرجي النفط الحجري، وفي عدائها للعلم وتحالفها مع المتطرفين سياسياً ودينياً من كل نوع، ما عدا المتطرفين الاسلاميين، وفي تحويلها العطف العالمي على أميركا بعد الارهاب الى عداء لها، وفي تحويلها دماء الأميركيين ومالهم وخبرتهم من مطاردة "القاعدة" الى احتلال دموي للعراق زاد الارهاب بدل إضعافه. أكمل من هذه النقطة الاخيرة. فالارهاب زاد حول العالم، ولم ينقص، وكانت وزارة الخارجية أصدرت تقريراً يظهر ان الارهاب هبط السنة الماضية عنه في السنة السابقة لها. غير انها عادت فاضطرت الى الاعتراف بأن الارهاب زاد كثيراً سنة 2003 فسجّل 208 حوادث، بينها 175 حادثاً "مهماً"، وهو أعلى رقم منذ سنة 1982. الخطباء الجمهوريون في نيويورك أشادوا كلهم بقيادة جورج بوش، وقالوا انها تؤهله لحكم البلاد أربع سنوات أخرى، مع ان هذه القيادة فشلت في الموضوع الاساسي في حملة جورج بوش وهو حربه على الارهاب. وتحدث آرنولد شوارزنيغر عن نفسه من وَلَدٍ في النمسا الى حاكم كاليفورنيا أكثر مما يتحدث عن الرئيس الذي أيده بحماسة، ولكن من دون تفاصيل. وفعل مثله الجنرال تومي فرانكس، وحاكم نيويورك جورج باتاكي، ورئيس بلديتها السابق رودولف جولياني والسيناتور جون ماكين ونائب الرئىس ديك تشيني. وكان أغرب الخطباء السيناتور زيل ميلر، وهو ديموقراطي من جورجيا يؤيد بوش ويعارض كيري. وهو انتقد كيري لأنه يتحدث عن "احتلال" العراق، ولا يعرف ان بوش وتشيني يستعملان ايضاً كلمة "احتلال"، ثم هاجمه لأنه يقول على حد زعمه انه لن يستخدم القوة من دون إذن الأممالمتحدة. وصفق له الحاضرون الذين يبدو انهم لم يسمعوا كيري يقول: "لن أعطي أبداً أي دولة أو منظمة عالمية حق الفيتو على أمننا القومي". السناتور ماكين قال معلقاً على أداء ميلر انه سيؤذي حملة بوش ولا يفيدها. غير اننا سنعرف مدى صحة هذا الكلام بعد شهر، وأكمل غداً.