رحلة التاريخ التي يأخذنا اليها مسلسل "ربيع قرطبة"، لا تصل بنا الى دروب التاريخ بالضرورة، بل لعلها تتوسل تلك الدروب لتجعلنا نشاهد أنفسنا في حياتنا الراهنة. لم أشعر بعمل درامي تاريخي يمتلك وشائجه القوية مع واقعنا الذي نعيش مثلما شعرت مع مشاهدة مسلسل "ربيع قرطبة"، خلال أيام شهر رمضان الفائت، سواء جاءت المقارنة مع الراهن من خلال بكاء الحاكم المستبد على من يصدر هو حكماً بإعدامه بتهمة الخيانة خيانة الحاكم طبعاً والذي يعادل الوطن، أم حتى من خلال نقاشات "العقل والنقل" التي تعيدنا من جديد الى سؤال النهضة والتخلف، الاجتهاد ووقفه، وما الى ذلك من ثنائيات مشابهة. بين الحاكم وشعبه "ربيع قرطبة" هو عودة جديدة، حيوية ومفعمة بالجمالية الى مقولة أساس في راهننا ومستقبلنا وهي مقولة العلاقة بين الحاكم العربي وشعبه والمدى الذي يمكن أن يصل اليه الاستبداد في تدمير المجتمع وتحويله بأكمله الى جسد منخور بالخراب ضعيف ويائس أمام أي عدوان خارجي. أهم ما يعالجه المؤلف وليد سيف والمخرج حاتم علي في هذه العودة الجديدة الى التاريخ موضوعة الديكتاتورية أو إذا شئنا الدقة أكثر مسألة السلطة، ومآل السلطة التي تنشأ وتتأسس بعيداً عن ارادة المجموع وخارج سيطرة المجموع. وفي "ربيع قرطبة" ثمة انتباه ذكي وعميق الى ما يقف خلف السلوك اليومي للأفراد من بواعث وثقافات ومصالح تسهم بهذا القدر أو بذاك في تكوين الشخصية وتحديد مواقفها. انها بمعنى ما معالجة ديموقراطية لمواصفات الشخصية التاريخية التي تستحضرها الدراما من عمق التاريخ وتعرضها أمام أعيننا، والثنائي سيف - علي، يواصل هذا البحث بروح الرغبة في استقصاء المدى الأبعد والأعمق لكل واحدة من شخصيات العمل بل وأيضاً لاستقصاء الحال السياسية - الاجتماعية التي سادت تلك الفترة التاريخية وما تضمنته من أسباب ايجابية أو سلبية على حدٍ سواء. يلاحظ مشاهد "ربيع قرطبة" انحياز صناع هذا المسلسل الجميل الى تاريخ لا يعد قيمة في حد ذاته قدر ما هو مرآة تعكس الشروط الاجتماعية - السياسية التي تقرر صورة المجتمع، ارادته، وعيه في كل مرحلة تاريخية، ونحن في "ربيع قرطبة" نقبض على نقطة الضعف التي تجعل الظلم ممكناً، بل حتمي الوقوع في ظل شروط اجتماعية قاسية وبالغة التعقيد، تقوم أساساً وأولاً على الغاء حرية الإنسان والغاء دوره وتحويل المجتمع برمته الى مجرد مجاميع بشرية لا حول لها ولا قوّة. ثمة ما يشبه الهجوم الدرامي على التاريخ، ولكننا - على رغم تزاحم الأعمال التاريخية - نجد أنفسنا أمام دراما "ربيع قرطبة" مشدودين الى حيوية البحث العميق في خفايا الأحداث، وما بين سطورها في صورة جذابة لا تكتفي من التاريخ بحكاياته التي نعرفها والتي تحفظها الكتب، بل هي تذهب الى فرضية منطقية هي أن صناع التاريخ، بل وحتى ضحاياه، هم أولاً وقبل أي اعتبار آخر، بشر لهم دوافعهم ومبرراتهم، ولهم أيضاً أفكارهم ووجهات نظرهم، ولهم قبل هذه وتلك مصالحهم المادية التي تجعلهم يقفون الى هذا الجانب أو ذاك. هنا بالذات - أي في اعادة تصور التكوين الشخصي للأبطال التاريخيين - تكمن جدارة الثنائي وليد سيف وحاتم علي. وهي الجدارة التي تمنحنا كل مرّة متعة تجاوز قراءة التاريخ مرئياً، الى القدرة على معايشة هذا التاريخ بصفته حياة كاملة تترع بكل ما في الحياة من تناقضات، حياة تعبق بروائح الخير والشر ولا يقف أبطالها في موقع الشر الكامل أو الخير الصافي، لأنهم ببساطة بشر فيهم من هذا وذاك وأن طغت صفة على أخرى. مغامرة جديدة وفي "ربيع قرطبة" يغامر حاتم علي من جديد بتقديم وجوه جديدة، يقف بعضها أمام الكاميرا للمرة الأولى، فيما يلعب البعض الآخر بطولته المطلقة الأولى، وهي حال ساعدت كثيراً في توزيع الأدوار في صورة صحيحة وملائمة. نضيف الى ذلك الاختيار الموفق لأماكن التصوير وما يتصل بها من ملابس جعلت المشاهد الدرامية تكتسب صدقية كبرى في عمل تاريخي تكتسب الصدقية فيه مقاماً أعلى وأكثر أهمية. نقول ذلك وفي البال آراء تتحدث عن ضرورة تقديم ما هو مشرق وجميل من تاريخنا على الشاشة الصغيرة والابتعاد عن كل ما هو سلبي، وهي مقولة يرددها بعض المخرجين وصناع الدراما، مع أنها تتناقض مع دور الدراما وحقيقتها، بصفتها أداة جمالية للارتقاء بالواقع، وهو ارتقاء لا يتحقق برؤية الجميل والايجابي، بل بالعكس من ذلك تماماً أي يعرض ما هو أسود وسلبي في صورة تستطيع أن توصل للمشاهد أسباب السواد والسلبية، إذ ليست مهمة الدراما التلفزيونية تجميل الواقع، ولا تزيين التاريخ، بل تقديمهما في رؤى نقدية حقيقية هي المؤهلة وحدها للنهوض. "ربيع قرطبة" دراما تلفزيونية جميلة أخذتنا في رحلة تحض على الجدل والمناقشة... رحلة لا تنطلق من المسلمات، ولا تهدف الى الوصول اليها، إذ هي تحرّض على الأسئلة، وعلى الأسئلة تراهن من أجل خلق علاقة حيوية مع المشاهد تتجاوز التلقين.