التاريخ أيضاً يمكنه أن يكون وسيلة للتغريب. نقول ذلك في ضوء "هجمة" الدراما التلفزيونية على بعض صفحات تاريخنا وتحويلها الى مسلسلات طويلة يشاهدها عشرات الملايين خصوصاً في شهر رمضان. يحدث ذلك حينما يقوم مؤلفو هذه المسلسلات التاريخية بعرض الوقائع المنقولة من بطون الكتب من دون تقديم قراءة جدلية - نقدية، جوهرها الحوار الجدي مع التاريخ، وليس اعادة عرضه في صورة سردية تبتغي من العرض أن يتحول الى وصفة جاهزة ومكتملة المقولات. في حال كهذه يجد مشاهد الشاشة الصغيرة نفسه أمام وقائع تاريخية محددة يمكن تصنيفها بين حدّي الخير والشر، ولكن من دون القبض على الدوافع الحقيقية هنا وهناك، أو بالأدق من دون القدرة على تفسير ما حدث أو فهم خلفياته. هكذا يتحول التاريخ الى مجرد حكايات، وتتحول وقائعه الكبرى الى قصص فيها ما فيها من الإبهار والتشويق، ولكن بعيداً من جوهر التاريخ الذي هو درس الراهن والمستقبل كما نفترض أن صناع هذه الأعمال التاريخية يقصدون. وفي حال كهذه لا يعود مفيداً أن نعرض فظائع هولاكو، ولا ظلم الروم، أو حتى جبروت قياصرة روما الذي استفردوا بالعالم القديم، إذ ان عروضاً كهذه تهرب من مشقة الحوار النقدي مع التاريخ، الى لعبة الشكل المعروفة هذه الأيام، والتي صار قوامها المجموعات الكبيرة من الممثلين والكومبارس ومشاهد المعارك الحربية، وضمنها مشاهد القسوة. أما الرؤية الحقيقية للتاريخ فسوف تظل في معالجات تلفزيونية كهذه غائبة ومغيّبة، تحت وهم أن المشاهد سوف يسقط وقائع الماضي التاريخي على الراهن المعاش ويستخلص الحكمة المرجوّة. كناية مغايرة إزاء هذه الهجمة المنظمة وغير المنظمة على التأريخ، ثمة كتابة تلفزيونية مغايرة، تنطلق من شرعية تقديم قراءة الاجتهاد، وتقوم على الانطلاق من تمحيص الرأي في التقليدي، المسلّم به من وقائع التاريخ، ومحاولة رؤية الوقائع والشخصيات على حقيقتها وحقيقة الأدوار التي لعبتها. هذه الكتابة لا تعتبر ما في صفحات الكتب حقائق مطلقة، بل هي تسبر الوقائع، وتحاول رؤيتها من كل الاتجاهات. تجربة بدأها منذ عقدين ولا يزال، د. وليد سيف من خلال سلسلة من الأعمال الدرامية التلفزيونية المتقنة الحبكة، ولكن - وهذا هو الأهم - التي تنطلق من مجانبة الأحكام المستبقة إزاء أي شخصية تاريخية تستحضرها الشاشة الصغيرة. رأينا ذلك في صورة جميلة وبارعة في عمله المعروف "شجرة الدر"، تلك المرأة التي طبعت لها في أذهاننا صورة نمطية بمواصفات سلبية محدّدة، نجح الكاتب في تبديدها، وفي تقديم صورة أخرى تبدو "شجرة الدر" من خلالها وثيقة الصلة تأثراً وتأثيراً في الأحداث من حولها. هذه الكتابة المغايرة واصلها د. وليد سيف بعد ذلك في أعمال تلفزيونية متعددة، لعل أهمها وأنضجها "صلاح الدين الأيوبي" و"صقر قريش"، وفي العملين شاهدنا كاتباً يحترام انسانية شخصياته التاريخية فلا ينمطها، بل يدعها تعبر عن حقيقتها في صورة ديموقراطية، من دون أن يعني ذلك تأليف صورة جديدة لها، قدر ما يعني البحث الدؤوب في دوافع أفعالها وتصرفاتها، في صور عصرها، ورؤية ما في ذلك العصر من عوامل مستترة حرّكت التاريخ ووقفت خلف هذه الواقعة أو تلك. لقد بدا ذلك واضحاً في فنية أخاذة في عمله الأحدث "صقر قريش"، إذ وقفنا على صورة حقيقية لذلك الأمير الأموي الذي عبر الى الأندلس في ذروة صعود الدولة العباسية هارباً من بطش العباسيين ونجح في تأسيس ملك لبني أمية هناك، وخاض ما خاض من صراعات، خلص منها الى مقولته الأساسية في العمل كله عن عقم المُلك، وعن أن كل ما جرى لم يكن سوى حرب الوصول الى السلطة والدفاع عنها، من دون النظر الى العدل كغاية ومبتغى. حيوية الرؤية حيوية هذه الرؤية للتاريخ هي وحدها مبرّر العودة الى بطون الكتب التاريخية تلفزيونياً بغية استنطاقها، وليس استدراج سردياتها، ففي الحال الأولى يرى الفن الحياة رؤية حقيقية تثري الحياة والفن معاً، فيما تتحول الدراما في الاستعادات السردية الساذجة الى نوع من كتب التاريخ ولكن المصوّرة هذه المرة، والتي لا تختلف عن كتب التاريخ القديمة إلا في شكل السرد ووسائله التي تضيف الصورة والممثلين الى الحروف والكلمات. ثمة حاجة إذاً الى مراجعة تلفزيونية للتاريخ تنطلق من رغبة في معالجة شؤون الراهن والمستقبلي، فترى في التاريخ موشوراً طويلاً للصراع الأبدي بين الخير والشر، ولكن من خلال وقائع جرت في هذا العصر أو ذاك لها مبرراتها وآفاق تكوّنها، ولها أيضاً أبطالها الذين يتجاوزون أسماءهم وملامح وجوههم فينتمون الى مواقع ومصالح ومن ثم عقائد وأفكار، بل ومزاجيات فردية تنضح برؤاهم الخاصة. واستعادة التاريخ من دون ذلك لن تكون إلا تزجية لأوقات المشاهدين تقع بين حدّين بائسين، التكرار الساذج للحكايا أو الفانتازيا المملّة، والتي تزدحم بالمصادفات. وكما تبدو كتابة الدراما في حال كهذه قرينة الابداع الذي يتجاوز حرفية السرد، تفترض بالضرورة حلولاً إخراجية لا تقل إبداعاً، كي تتمكن المشاهدة بعدها أن تقف على صورة تلفزيونية تملك بلاغة الوصول الى عقل المشاهد وذائقته، وتناوش مخيلته في محاولة جادة لدفعه للتفاعل مع المشاهدة وتجاوز حال التلقي السلبي، أو إذا شئنا الدقة، حال التلقين التلفزيوني الذي يجعل الدراما مجرد دروس تعليمية ساذجة ومملّة. لقد استطاع حاتم علي في سلسلة من أعماله التلفزيونية، وخصوصاً التي كتبها د. وليد سيف "صلاح الدين" و"صقر قريش" أن يقارب هذا الطموح وأن يقدم جماليات فنية عالية المستوى تذهب الى الجوهري في رؤى المخيلة فتقبض على جوهر العلاقة بين الشكل والمضمون في فن تقف الصورة في الأساس منه.